المَبحَثُ الرَّابعُ: الخَيالُ
الخَيالُ هو اللُّغةُ التَّصْويريَّةُ في العَمَلِ الأدَبيِّ، فهو يُمثِّلُ القُوَّةَ الَّتي مِن خِلالِها يُجسِّدُ الأديبُ المَعانيَ والأشْياءَ والأشْخاصَ، ويُمثِّلُها في قَوالِبَ أدَبيَّةٍ تَنطِقُ بالفِكرةِ وتُجسِّدُها للمُتلقِّي، حتَّى تُثيرَ مَشاعِرَه وتُحرِّكَ وِجدانَه. والخَيالُ مِن أساسيَّاتِ أيِّ عَمَلٍ أدَبيٍّ.
ويَظهَرُ الخَيالُ في الأعْمالِ الأدَبيَّةِ في تَصْويراتٍ مُحْكَمةٍ تَسْتعينُ بالتَّشْبيهِ والمَجازِ والاسْتِعارةِ والكِنايةِ ونَحْوِها مِن فُنونِ
البَلاغةِ الَّتي تُضْفي الحَياةَ على الأفْكارِ وتَجعَلُها مُتحرِّكةً؛ تَمْشي وتَتَألَّمُ وتُفكِّرُ، ونَحْوُه. ومِن الأمْثِلةِ على ذلِك قولُ أبي ذُؤَيبٍ الهُذَليِّ في المَوْتِ:
وإذا المَنيَّةُ أَنشبَتْ أَظْفارَها
أَلْفيْتَ كُلَّ تَميمةٍ لا تَنفَعُ
[23] بيتٌ من بحر الكامل لأبي ذؤيب الهذلي. يُنظر: ((ديوان الهذليين)) (1/3)، ((جمهرة أشعار العرب)) أبو زيد محمد بن الخطاب القرشي (ص: 536). وقولُ
المُتَنَبِّي:
وما المَوْتُ إلَّا سارِقٌ دَقَّ شَخْصُه
يَصولُ بِلا كَفٍّ ويَسْعى بِلا رِجْلِ
[24] بيتٌ من بحر الطَّويل، لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (ص: 271). تَمْثيلٌ لمُكوِّناتِ العَمَلِ الأدَبيِّ:إذا نَظَرْنا إلى تلك الأبْياتِ للشَّاعِرِ كُثَيِّرِ بنِ عبْدِ الرَّحمنِ، المَعْروفِ بكُثَيِّرِ عَزَّةَ، الَّتي يقولُ فيها:
وإنِّي وتَهْيامي بِعَزَّةَ بَعْدَما
تَخلَّيْتُ عمَّا بَيْنَنا وتَخلَّتِ
لَكالمُرْتَجي ظِلَّ الغَمامةِ كُلَّما
تَبوَّأَ مِنْها لِلمَقيلِ اضْمَحلَّتِ
كأنِّي وإيَّاها سَحابةُ مُمحِلٍ
رَجاها فلمَّا جاوَزَتْهُ اسْتَهلَّتِ
[25] أبياتٌ من بحر الطَّويل، لكُثَير عَزَّة في ديوانه (ص: 103). نَرى أنَّ العاطِفةَ المُسيطِرةَ على الشَّاعِرِ هي اليَأسُ وفِقْدانُ الأمَلِ، مَصْحوبًا بالحُزْنِ وشِدَّةِ الغَضَبِ، وتَتَجلَّى فِكرتُه الَّتي بَنى مَوْضوعَه عليها في عَدَمِ القُرْبِ مِن مَحْبوبتِه، وأنَّه كلَّما اقْتَربَ ما يُؤذِنُ باللِّقاءِ، ويَبُثُّ الأمَلَ في النَّفْسِ، يَتلاشى تارِكًا خَلْفَه الحَسْرةَ واليَأسَ.
وقد برَعَ الشَّاعِرُ في اسْتِعمالِ أُسلوبِه؛ حيثُ صَوَّرَ تلك المَعانيَ في كِساءٍ شِعريٍّ لَطيفٍ، اسْتَهلَّه بالتَّوْكيدِ ب(إنَّ)، ودبَّجَه بالخَيالِ المُتمَثِّلِ في اسْتِعمالِ التَّشْبيهِ الضِّمْنيِّ؛ حيثُ صَوَّرَ نفْسَه في حالِ تَرْكِه لِعزَّةَ وتَرْكِها له بصورةِ المُنْفرِدِ في الصَّحْراءِ، حيثُ اسْتَبشَرَ لمَّا رأى غَمامةً تَؤُمُّه بظِلِّها، تُغيثُه مِنَ الحَرِّ الَّذي أصابَه، فلمَّا دَنا مِنها، وتَهيَّأَ لأنْ يَقيلَ تحتَها ساعةً، أقْشعَتْ وتَلاشَتْ عنه، وبِصورةٍ أخرى، وهي صورةُ العَطْشانِ الَّذي يَرْجو نُزولَ المَطَرِ ليَسْقيَه ويَرْويَ أرْضَه، فلمَّا دَنتْ مِنه السَّحابةُ المُحمَّلةُ بالمَطَرِ جاوَزَتْه وانْصَرفَتْ عنه إلى غيْرِه!
كما أحْسَنَ الشَّاعِرُ في اخْتِيارِ أساليبِ الرَّبْطِ وأدَواتِ الشَّرْطِ، وفي التَّنْويعِ بيْنَ الجُملةِ الاسْميَّةِ والفِعليَّةِ، وغيْرِ ذلك
[26] يُنظر ((الأدب وفنونه دراسة ونقد)) د/ عز الدين إسماعيل (ص14)، ((أصول النقد الأدبي)) أحمد الشايب (ص32 وما بعده). .