المَبحَثُ الخامِسُ: التَّشْكيكُ في الشِّعْرِ الجاهِليِّ عامَّةً
وجَدَ المُسْتَشرِقونَ ضالَّتَهم في قَضيةِ انْتِحالِ الشِّعْرِ الجاهِليِّ، ووَضْعِ الرُّواةِ للأشْعارِ، ونِسبتِها للشُّعَراءِ القُدامى، فانْتَقلوا مِن هذه القَضيَّةِ إلى زَعْمٍ مِنهم أنَّ الشِّعْرَ الجاهِليَّ كلَّه -إضافةً إلى شِعْرِ صَدْرِ الإسلامِ- مَوْضوعٌ، نسَجَه أولئك الرُّواةُ الَّذين وصَمَهم مُعاصِروهم بالكَذِبِ مِن أمْثالِ حَمَّادٍ الرَّاوِيةِ، وخَلَفٍ الأحْمَرِ، وجَنَّادٍ، وبَرْزَخٍ، وغيْرِهم.
وقد بدَأَ هذه المَزاعِمَ "نولدكه" ثُمَّ "آلورد"، الَّذي شكَّكَ في الشِّعْرِ الجاهِليِّ عامَّةً إلَّا قِلَّةً قَليلةً مِنه، وتابَعَه على ذلِك كَثيرٌ مِنَ المُسْتشرِقينَ، مِثلُ موير، وبروكلمان، وباسيه.
إلَّا أنَّ أكْبَرَ مَن أثارَ تلك الشُّبْهةَ هو مرجليوث؛ إذ كتَبَ فيها مَقالًا مُفَصَّلًا نشَرَه في مَجلَّةِ الجَمعيَّةِ المَلَكيَّةِ الآسيَويَّةِ بعَدَدِ إلى أنَّ الشِّعْرَ الجاهِليَّ والإسْلاميَّ إلى زَمانِ الدَّولةِ الأُمَويَّةِ كلَّه مَوْضوعٌ مِن رُواةِ الشِّعْرِ الإسلاميِّ آنَذاك، وكانَ قد اسْتَندَ على عِدَّةِ أسْبابٍ دفَعَتْه -ظاهِرًا وإلَّا فأحْقادُهم باعِثةٌ على كُلِّ شَرٍّ- إلى القَولِ بذلِك:
- أنَّ العَربَ الجاهِليِّينَ لم يَكتُبوا ذلِك الشِّعْرَ ويُدوِّنوه، ويَنْفي أن تكونَ مَلَكةُ الحِفْظِ والرِّوايةِ هي الَّتي نقَلَتْ كُلَّ هذا الكَمِّ مِن الأشْعارِ والقَصائِدِ.
- أنَّ هؤلاء الرُّواةَ الَّذين نقَلوا الشِّعْرَ قد كذَّبَ بعضُهم بعضًا، واتَّهمَهم المُؤرِّخونَ والعُلَماءُ بوَضْعِ الشِّعْرِ وتَلْفيقِه.
- أنَّ ذلِك الشِّعْرَ الجاهِليَّ لا يَتَّفِقُ معَ الحَياةِ الوَثنيَّةِ الَّتي كانَتْ عليها العَربُ قبْلَ الإسلامِ، بل يَتَّفِقُ معَ الإسلامِ في ذِكْرِ قِصَصِه وأخْبارِ الأنْبياءِ، والتَّذْكيرِ بالحِسابِ واليومِ الآخِرِ.
- أنَّ القُرآنَ والشِّعْرَ يَتَّفِقانِ في اللُّغةِ والمُسْتوى، ويُفْترَضُ أن يكونَ الشِّعْرُ الجاهِليُّ يُشكِّلُ صُوَرًا مُخْتلِفةً مِن اللَّهَجاتِ باخْتِلافِ أصْحابِها، وهذا لم يَحدُثْ، بل كُلُّ الشِّعْرِ جاءَ على نفْسِ لُغةِ القُرآنِ ولَهْجتِه، وهي لَهْجةُ قُرَيشٍ.
- لا يُنكَرُ أنَّ العَربَ قبْلَ الإسلامِ كان فيهم الشُّعَراءُ، غيْرَ أنَّ ذلِك المُسْتوى الَّذي وصَلَ مِن شِعْرِ الجاهِليِّينَ لا يُعبِّرُ إلَّا عن تَطوُّرٍ بالِغٍ ورُقِيٍّ في الأُسلوبِ، فيَبْدو أنَّ ذلِك مِن تَأثُّرِ العَربِ بالقُرآنِ، فلمَّا وصَلَهم القُرآنُ بأُسلوبِه البَليغِ تأثَّروا به وكتَبوا على مِنْوالِه.
- تُفيدُ النُّقوشُ الَّتي عُثِرَ عليها أنَّ القَوْمَ كانَ لديهم بعضُ الحَضارةِ والرُّقيِّ، لكنْ لم يَظهَرْ نَقْشٌ يُفيدُ وُجودَ الشِّعْرِ في العَربِ قبْلَ الإسلامِ.
- القُرآنُ الكَريمُ كانَ يُهاجِمُ الشِّعْرَ والشُّعَراءَ، فقالَ:
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشُّعَراء: 224] ، وقالَ:
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] ، وقالَ:
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [الحاقة: 41] ، فكيف يُهاجِمُ الشِّعْرَ ثُمَّ يُبيحُ للمُسلِمينَ أن يَرْووه ويَتَعلَّموه ويَحْفَظوه كما يَحْفَظون القُرآنَ؟!
وقد تَناسى مرجليوث أنَّ النَّقْلَ الشَّفَهيَّ الَّذي نقَلَ الشِّعْرَ الجاهِليَّ وتَكفَّلَ بحِفْظِه هو الَّذي حفِظَ القُرآنَ والسُّنَّةَ إلى أن جُمِعا ودُوِّنا.
أمَّا كَذِبُ الرُّواةِ فليس مِن الإنْصافِ أن نُسقِطَ جَميعَ الرُّواةِ؛ لأنَّ فيهم بعضَ الكَذَبةِ الوَضَّاعينَ، بل إنَّ سائِرَ الرُّواةِ كالأصْمَعيِّ والمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ ونَحْوِهما كانوا يَقِفون لهم.
أمَّا أن يكونَ الشِّعْرُ الجاهِليُّ خالِيًا مِن ذِكْرِ الأوْثانِ والحَياةِ الَّتي كانوا عليها، فحَسْبُكَ بكِتابِ "الأصْنام" لابنِ السَّائِبِ الكَلبيِّ، فإنَّ فيه كِفايةً في الرَّدِّ والتَّفْنيدِ لتلك الشُّبْهةِ، فَضْلًا عنِ امْتِلاءِ الشِّعْرِ الجاهِليِّ بالعَصَبيَّةِ القَبَليَّةِ والأخْذِ بالثَّأرِ ونَحْوِ ذلِك.
وأمَّا شُبْهةُ أنَّ الشِّعْرَ الجاهِليَّ لم يَحمِلْ مِن اللَّهَجاتِ الأخرى، مِثلُ لَهْجةِ حِمْيَرٍ وغيْرِها، فلِأنَّ الشَّاعِرَ إذا أرادَ لشِعْرِه الخُلودَ والبَقاءَ والانْتِشارَ فإنَّه يَكتُبُه باللَّهْجةِ السَّائِدةِ آنَئذٍ، وهي لَهْجةُ قُرَيشٍ، لِما احْتَلَّتْه قُرَيشٌ مِن مَكانةٍ اقْتِصاديَّةٍ وسِياسيَّةٍ ودينيَّةٍ، فكما جاءَ القُرآنُ بلَهْجتِها فكذلك حافَظَ الشُّعَراءُ على شِعْرِهم فجعَلوه بلُغتِها.
وادِّعاؤُه بأنَّ هذا الشِّعْرَ كانَ تَطوُّرًا لأُسلوبِ القُرآنِ، فإنَّ ثَمَّةَ فُروقًا بيْنَ القُرآنِ والشِّعْرِ، فالقَواعِدُ والقَوانينُ الَّتي تَحكُمُ الشِّعْرَ لا تُؤثِّرُ في أُسلوبِ القُرآنِ، كما أنَّ القُرآنَ جاءَ سَهْلًا مِن غيْرِ تَكلُّفٍ لبعضِ ألْفاظِه، وكذلك وُجودُ الشِّعْرِ على هذه الصُّورةِ لا يَعْني أنَّه تَطوَّرَ عن أُسلوبٍ آخَرَ؛ فإنَّ الشِّعْرَ الجاهِليَّ قَديمٌ جدًّا.
ولا عِبرةَ لرُقِيِّ القَوْمِ وتَخلُّفِهم بانْحِطاطِ الشِّعْرِ ورُقِيِّه، فكَمْ مِن أقْوامٍ أجْلافٍ غِلاظٍ يُعانون مِن شَظَفِ العَيْشِ، وحِسُّهم مُرهَفٌ مُتَفتِّقٌ بالشِّعْرِ.
أمَّا هُجومُ القُرآنِ على الشِّعْرِ فهذا أمْرٌ قد ذَكَرناه سابِقًا، وأفَضْنا في ذِكْرِ اسْتِشهادِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه بالشِّعْرِ، واسْتِنشادِهم له.
وعلى خُطا مرجليوث جاءَ
طه حسين، الَّذي انْتَهجَ نَهْجَ سابِقِه في إنْكارِ الشِّعْرِ الجاهِليِّ، بَيْدَ أنَّه أنْكرَ أغْلَبَ ذلِك، وزعَمَ أنَّ بعضَ ما وصَلَ إلينا صَحيحُ النِّسبةِ إلى الجاهِليِّينَ، بَيْدَ أنَّه غيْرُ مَعْلومٍ تَحْديدًا.
وقد أَكْثَرَ العُلَماءُ والمُؤَرِّخون مِن الرَّدِّ على
طه حسين، وغيْرُهم، وألَّفوا في ذلِك الكُتُبَ والمُصنَّفاتِ
[104] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/163)، ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (1/228)، ((في تاريخ الأدب الجاهلي)) لعلي الجندي (ص:174). .
وهذه الفِكرةُ إنَّما وضَعَها المُسْتشرِقونَ لكي تَخدُمَ أغْراضَهم الخَبيثةَ الَّتي تَسْعى إلى التَّشْكيكِ في القُرآنِ وفي نُبوَّةِ النَّبيِّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهَدْمِ تُراثِ الإسلامِ؛ فإذا كانَ شِعْرُ الجاهِليَّةِ مَنْحولًا فمَعنى ذلِك أنَّ الجاهِليِّينَ لم يكنْ لديهم عِلمٌ ولا ثَقافةٌ، ولم تَمْتَزْ لُغتُهم من باقي اللُّغاتِ، فإذا كانَ الأمْرُ كذلك فإنَّ القُرآنَ نزَلَ على قَوْمٍ سُذَّجٍ لا عِلمَ لهم ولا فِكرَ؛ لذلك أعْجَزَهم به مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأقامَ عليهم الحُجَّةَ، ولو كانَ الجاهِليُّونَ أهْلَ عِلمٍ ولُغةٍ لَما تأثَّروا بالقُرآنِ ولَما أعْجَزَهم به مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَتمكَّنوا مِن مُعارَضتِه.
يقولُ الدُّكتورُ مُحمَّد أبو موسى في أحَدِ دُروسِه بالجامِعِ الأزْهَرِ: "الطَّعْنُ في الشِّعْرِ الجاهِليِّ طَعْنٌ في الإعْجازِ؛ فلو قلتَ: إنَّ سَحَرةَ فِرْعونَ كانوا ضِعافًا في السِّحْرِ، كانَ ذلك طَعْنًا في مُعْجزةِ موسى عليه السَّلامُ".
وخُلاصةُ الأمْرِ أنَّ ما ثبَتَ لدينا مِن طَريقِ الرُّواةِ الثِّقاتِ، وما صحَّحَ نِسبتَه الأئِمَّةُ العُلَماءُ إلى الشُّعَراءِ الجاهِليِّينَ والإسْلاميِّينَ، فهو ثابِتُ النَّسَبِ لدينا، لا نَشُكُّ في أنَّهم قالوه، وهو أحَدُ مَصادِرِ اللُّغةِ والنَّحْوِ، وعليه اعْتِمادُ النُّحاةِ والمُفَسِّرينَ والإخْباريِّينَ
[105] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/ 175). .