المَطلَبُ الثَّاني: المَدْحُ
اعْتادَ العَربُ مُنْذُ قَديمٍ أن يُنَوِّهوا بالأشْرافِ والنُّبَهاءِ وذَوي الأخْلاقِ والمَكارِمِ في أقْوامِهم، يَذكُرونَ خِصالَهم النَّبيلةَ مِن الجودِ والشَّجاعةِ والإقْدامِ والتَّواضُعِ والحِلمِ والوَفاءِ.
وقد كانَ المَديحُ أوَّلَ الأمْرِ مَديحًا صادِقًا، إذ لم يكنِ الشُّعَراءُ يَرْجونَ بشِعْرِهم عَطاءً أو تَقْريبًا، وإنَّما كانوا يَمْدحونَ الرَّجُلَ بما فيه؛ ولِذا قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ ل
ابنِ عبَّاسٍ: (أنْشِدْني لأشْعَرِ شُعَرائِكم. قلتُ: مَن هو يا أميرَ المُؤمِنينَ؟ قالَ: زُهَيْرٌ، قيلَ: بمَ كانَ ذاك؟ قالَ: كانَ لا يُعاظِلُ بيْنَ الكَلامِ، ولا يَتَتبَّعُ حُوشيَّه، ولا يَمدَحُ الرَّجُلَ إلَّا بما فيه)
[167] يُنظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/ 137)، ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (1/ 98). .
وهذه مَزِيَّةٌ في شِعْرِ زُهَيْرِ بنِ أبي سُلْمى؛ فإنَّه لم يكنْ يَسْتجدي بشِعْرِه ولا يَطلُبُ به نَوالًا؛ ولِهذا نالَ تلك المَنزِلةَ بيْنَ الشُّعَراءِ.
فزُهَيْرٌ حيْنَ يَمدَحُ -ويُبالِغُ في مَدْح- هَرِمِ بنِ سِنانٍ والحارِثِ بنِ عَوْفٍ اللَّذَينِ تَحمَّلا دِيَاتِ القَتْلى وأصْلَحا بيْنَ القَبيلَتَينِ، وقد خلَّدَ ذِكْرَهما في مُعلَّقتِه فقالَ:
سَعى سَاعِيا غَيْظِ بنِ مُرَّةَ بعْدَما
تَبَزَّلَ ما بيْنَ العَشيرةِ بالدَّمِ
فأَقْسَمْتُ بالبَيْتِ الَّذي طافَ حَوْلَهُ
رِجالٌ بَنَوْه مِن قُرَيشٍ وجُرْهُمِ
يَمينًا لَنِعْمَ السَّيدانِ وُجِدْتُما
على كلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ ومُبرَمِ
تَدارَكْتُما عَبْسًا وذُبْيانَ بَعْدَما
تَفانَوْا ودَقُّوا بيْنَهم عِطرَ مَنْشِمِ
وقدْ قُلتُما إن نُدرِكِ السِّلمَ واسِعًا
بِمالٍ ومَعْروفٍ مِنَ الأمْرِ نَسلَمِ
فأَصْبَحْتُما مِنها على خَيْرِ مَوطِنٍ
بَعيدَيْنِ فيها مِن عُقُوقٍ ومَأثَمِ
عَظيمَينِ في عُليا مَعَدٍّ هُدِيتُما
ومَن يَسْتَبِحْ كَنْزًا مِنَ المَجْدِ يَعظُمِ
ثُمَّ أفْرَدَ هَرِمًا بالمَدْحِ في غيْرِ المُعلَّقةِ فقالَ:لعَمْرُ أبيكَ ما هَرِمُ بنُ سُلْمى
بمَلحيٍّ إذ اللُّؤَماءُ لِيموا
ولا ساهي الفُؤادِ ولا عَيِيِّ ال
لِّسانِ إذا تَشاجَرَتِ الخُصومُ
ولكنْ عِصمةٌ في كلِّ أمْرٍ
يَطيفُ به المُخوَّلُ والعَديمُ
متى سُدَّتْ به لَهَواتُ ثَغْرٍ
يُشارُ إليه جانِبُه سَقيمُ
مَخوفٌ بأسُه، يَكلَؤكَ مِنه
قَويٌّ، لا ألَفُّ ولا سَؤومُ
له في الذَّاهِبينَ أُرومُ صِدْقٍ
وكانَ لكلِّ ذي حسَبٍ أُرومُ
وعَوَّدَ قَوْمَه هَرِمٌ عليه
ومِن عاداتِه الخُلُقُ الكَريمُ
كما قد كانَ عَوَّدَهم أَبوه
إذا أزَمَتْ بِهِمْ سَنةٌ أَزومُ
ليَنجوا مِن مَلاوِمِها، وكانوا
إذا شَهِدوا العَظائِمَ لم يُليموا
كذلك خِيمُهم ولِكلِّ قَوْمٍ
إذا مسَّتْهُم الضَّرَّاءُ خِيمُ
[168] ينظر: ((ديوان زهير)) (63). وبعْدَ زُهَيْرٍ في عُلُوِّ رُتْبتِه في المَدْحِ يَأتي النَّابِغةُ الذُّبْيانيُّ، فقدِ اشْتَهرَ أمْرُه في المَدْحِ، غيْرَ أنَّه كانَ يُجالِسُ المُلوكَ ويَتكسَّبُ مِن المَناذِرةِ والغَساسِنةِ؛ ولِذا كانَ يَرى أنَّ مَدْحَهم لا بدَّ أنَّ يكونَ في طَبَقةٍ وَحدَه، كما أنَّهم في طَبَقةٍ عن سائِرِ طَبَقاتِ النَّاسِ؛ ولِهذا كانَ يُجَوِّدُ المَديحَ ويُزَخرِفُه.
وثالِثُ الفُحولِ في المَدْحِ هو الأعْشى مَيْمونُ بنُ قَيْسٍ، غيْرَ أنَّه كانَ لا هِمَّةَ له إلَّا في المَدْحِ والهِجاءِ، وكانَ يَتكسَّبُ مِنهما، وكانَ رَجُلًا مَجْدودًا في الشِّعْرِ؛ ما مَدَحَ أحَدًا إلَّا رفَعَه، ولا هَجا أحَدًا إلَّا وَضَعَه، والأمورُ يَومَئذٍ تَطيرُ للشِّعْرِ طَيَرانًا؛ فكانَ الأعْشى على التَّحْقيقِ أوَّلَ مَنِ احْتَرفَ المَديحَ وابْتَذلَه في طَبَقاتِ النَّاسِ؛ ولِذلك اضْطُرَّ أن يَنفُخَ مَعانيَه بالمُبالَغةِ والإغْراقِ.
وقدْ عَرَفَ النَّاسُ مِنه ذلِك وألِفوه؛ لأنَّ حَظَّ هذا النَّوْعِ مِن الشِّعْرِ أن يَسيرَ وإن كانَ كَذِبًا، فإن رَكَدَ في لِسانِ الشَّاعِرِ لم يُبالوا به وإن كانَ حَقيقةً؛ ولِذلك لمَّا نزَلَ الأعْشى بمَكَّةَ وأضافَه رَجُلٌ يُقالُ له المُحلِّقُ، وكانَ فَقيرًا له بَناتٌ لم يَتَزوَّجْهنَّ أحَدٌ لفَقْرِه، أرادَ الأعْشى أن يَنشُرَ ذِكْرَه فيُسارِعَ النَّاسُ في مُصاهَرتِه أنْشَدَ في مَدْحِه، يقولُ:
أَرِقْتُ وما هذا السُّهادُ المُؤَرِّقُ
وما بيَ مِن سُقْمٍ وما بيَ مَعْشَقُ
نَفى الذَّمَّ عنْ آلِ المُحَلِّقِ جَفْنَةٌ
كجابِيةِ الشَّيْخِ العِراقيِّ تَفْهَقُ
تَرى القَوْمَ فيها شارِعينَ وبيْنَهم
معَ القَوْمِ وِلدانٌ مِنَ النَّسْلِ دَرْدَقُ
لَعَمْري قد لاحَتْ عُيونٌ كَثيرةٌ
إلى ضَوءِ نارٍ باليَفاعِ تَحرَّقُ
تَشِبُّ لمَقْرورَينِ يَصْطَليانِها
وباتَ على النَّارِ النَّدى والمُحلِّقُ
رَضيعَي لِبانِ ثَدْيِ أمٍّ تَحالَفا
بأسْحَمَ داجٍ عَوْضُ لا نَتَفرَّقُ
تَرى الجودَ يَجْري ظاهِرًا فَوْقَ وَجْهِه
كما زانَ مَتْنَ الهِنْدوانيِّ رَوْنَقُ
فلمَّا انْتَهى مِن قَصيدتِه أسْرَعَ النَّاسُ إلى المُحلِّقِ يُهنِّؤونَه، وتَسابَقَ إليه الأشْرافُ مِن كلِّ قَبيلةٍ يُسارِعونَ في مُصاهَرتِه، بفَضْلِ تلك القَصيدةِ، فما باتَتْ بِنْتٌ مِن بَناتِه إلَّا وقدْ تَزوَّجَتْ مَن هو خَيْرٌ مِن أبيها ألْفَ مَرَّةٍ
[169] يُنظر: ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (1/ 49)، ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/ 65). .
وقدْ كانَ النَّاسُ يَتَسابَقونَ إلى المَديحِ، فيَبْذُلونَ فيه الغاليَ والنَّفيسَ؛ ولِهذا لمَّا أغارَ النُّعمانُ بنُ وائِلٍ الكَلبيُّ على بَني ذُبْيانَ، وسَبى سَبْيًا مِنهم، ووَقَعَتْ في السَّبْيِ بِنْتُ النَّابِغةِ الذُّبْيانيِّ، فسألَها: مَن أنتِ؟ فقالَتْ: أنا بِنْتُ النَّابِغةِ، فقالَ لها: واللهِ ما أحَدٌ أكْرَمَ علينا مِن أبيكِ، ولا أنْفَعَ لنا عنْدَ المَلِكِ مِنه، ثُمَّ جهَّزَها وخَلَّاها، ثُمَّ قالَ: واللهِ ما أرى النَّابِغةَ يَرْضى بِهذا مِنَّا، فأطْلَقَ له سَبْيَ غَطَفانَ وأسْراهم، فلمَّا علِمَ بذلِك النَّابِغةُ أنْشَدَ في حَقِّه فقالَ:
لَعَمْري لَنِعمَ الحَيُّ صَبَّحَ سِرْبَنا
وأَبياتَنا يَوْمًا بِذاتِ المَراوِدِ
يَقودُهُمُ النُّعْمانُ مِنهُ بِمُحصَفٍ
وكَيْدٍ يَغُمُّ الخارِجيَّ مُناجِدِ
وشيمةِ لا وانٍ وَلا واهِنِ القُوى
وَجَدٍّ إِذا خابَ المُفيدونَ صاعِدِ
فآبَ بِأَبْكارٍ وَعُونٍ عَقائِلٍ
أَوانِسَ يَحْميها امْرُؤٌ غيْرُ زاهِدِ
يُخَطِّطْنَ بِالعيدانِ في كلِّ مَقعَدٍ
ويَخْبَأنَ رُمَّانَ الثُّدِيِّ النَّواهِدِ
ويَضرِبْنَ بِالأَيْدي وَراءَ بَراغِزٍ
حِسانِ الوُجوهِ كالظِّباءِ العَواقِدِ
غَرائِرُ لمْ يَلقَيْنَ بَأساءَ قَبْلَها
لَدى ابنِ الجُلاحِ ما يَثِقْنَ بِوافِدِ
أَصابَ بَني غَيظٍ فأَضحَوا عِبادَهُ
وجَلَّلَها نُعْمى عَلى غيْرِ واحِدِ
فَلا بُدَّ مِن عَوْجاءَ تَهوي بِراكِبٍ
إِلى ابنِ الجُلاحِ سَيْرُها اللَّيلَ قاصِدِ
تَخُبُّ إِلى النُّعمانِ حتَّى تَنالَهُ
فِدًى لكَ مِن رَبٍّ طَريفي وَتالِدي
فَسَكَّنتَ نَفْسي بَعْدَما طارَ روحُها
وأَلبَسْتَني نُعْمى ولسْتُ بِشاهِدِ
وكنتُ امْرَأً لا أَمدَحُ الدَّهْرَ سُوقَةً
فلسْتُ على خَيْرٍ أَتاكَ بِحاسِدِ
سَبَقْتَ الرِّجالَ الباهِشينَ إِلى العُلا
كسَبْقِ الجَوادِ اصْطادَ قَبْلَ الطَّوارِدِ
عَلَوْتَ مَعَدًّا نائِلًا ونِكايةً
فأنتَ لِغَيْثِ الحَمْدِ أَوَّلُ رائِدِ
[170] يُنظر: ((ديوان النابغة الذبياني)) (ص: 138)، ((في تاريخ الأدب الجاهلي)) لعلي الجندي (ص: 384). خَصائِصُ المَدْحِ:يَتَميَّزُ المَدْحُ بعِدَّةِ سِماتٍ عن غيْرِه مِن الأغْراضِ، كما يَتَميَّزُ بها المَدْحُ الجاهِليُّ عن غيْرِه، ومِنها:
- نَقْلُ الأحْداثِ التَّاريخيَّةِ وسَرْدُ أيَّامِ العَربِ؛ ففي المَدْحِ مَصدَرٌ مِن مَصادِرِ التَّاريخِ الجاهِليِّ لا يُسْتهانُ به.
- المُبالَغةُ في مَدْحِ المَوْصوفِ، خاصَّةً إذا كانَ المَدْحُ للتَّكسُّبِ والاسْتِجداءِ.
- يُعْتبَرُ المَدْحُ خَطًّا عَريضًا في خُطوطِ الصُّورةِ الجاهِليَّةِ، فهو يُبيِّنُ مَظاهِرَ الحَياةِ وما يَرِدُ على الشَّاعِرِ مِن الحُروبِ والحِلِّ والتَّرْحالِ، ومَنِ الجَديرونَ بالمَدْحِ والمُسْتحقُّونَ للذَّمِّ
[171] يُنظر: ((الأدب الجاهلي؛ قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لزكي طليمات وعرفات الأشقر (ص: 175). .