المَطْلَبُ الأوَّلُ: المَدْحُ
ذكَرْنا أنَّ الإسلامَ قيَّد المَدْحَ الجائِزَ بأن يكونَ المادِحُ صادِقًا تُحَرِّكُه عاطِفةٌ صادِقةٌ نَحوَ الممدوحِ، كما أنَّ الإسلامَ رَغِبَ عن المدَّاحِينَ، وأمَرَ أن نحثُوَ في وُجوهِهم التُّرابَ، غَيرَ أنَّه شَجَّع المدْحَ الَّذي يُوَجَّهُ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والإسلامِ وجماعةِ المُسلِمينَ.
لكنْ لم يَلبَثِ الأمرُ أن رَجَع إلى ما كان عليه قَبْلَ الإسلامِ إنْ لم يكُنْ أشَدَّ،
وذلك لأسبابٍ منها:أ- إغداقُ الخُلَفاءِ على الشُّعَراءِ، وكَثرةُ عَطاياهم وهِباتِهم.
ب- أنَّ العَرَبيَّ بطَبْعِه يتأثَّرُ برأيِ النَّاسِ فيه، ويحِبُّ أن يَسمَعَ المدْحَ منهم.
ج- كَثرةُ الأحزابِ والفِرَقِ، فكان مع كُلِّ فِرقةٍ شُعَراءُ يُؤَيِّدونَها ويَمْدَحون قادَتَها.
د- الاستِجداءُ والتكَسُّبُ بالمدْحِ؛ حيث كان الشُّعَراءُ يَطوفونَ على الأُمَراءِ والأشرافِ يَمدَحونَهم؛ لِينالوا منهم شَيئًا مِنَ الرِّزقِ.
ولهذا لا عَجَبَ في أن يكونَ شِعرُ المدْحِ أكثَرَ ألوانِ الشِّعْرِ انتِشارًا بَيْنَ سائِرِ الأغراضِ والموضوعاتِ؛ إذ كان أكثرَ ما يجمَعُ به الشَّاعِرُ مِن أموالِ الأُمَراءِ وعَطاياهم.
وقد طَغَتِ المادِّيَّةُ على الشُّعَراءِ حتى كانوا يَمدَحونَ الرَّجُلَ بما ليس فيه، على خِلافِ ما تعاهَدَ الشُّعَراءُ مِن لَدُنِ الجاهِلِيَّةِ؛ فشاعِرٌ في قَدْرِ
جَريرٍ يَمدَحُ يَزيدَ بنَ عَبدِ المَلِكِ، الَّذي كان مَعروفًا باللَّهْوِ والمجُونِ والفِسْقِ، فيَقولُ:
هَذِي البَرِيَّةُ َتَرْضَى ما رَضِيتَ لها
إنْ سِرْتَ سارُوا وإنْ قُلْتَ ارْبَعُوا وَقَفوا
هو الخَليفةُ فارْضَوا ما قَضَى لكم
بالحَقِّ يَصْدَعُ ما في قَولِه جَنَفُ
[427] ((ديوان جرير)) (ص: 304). كما أنَّهم كانوا إذا مَدَحوا أحَدًا ثمَّ لم يَظْفَروا منه بالعَطاءِ المناسِبِ الَّذي كانوا يَطْمَعونَ فيه، انقلَبَ المدْحُ هِجاءً، كما ظَهَر ذلك مع
عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ؛ حيث مدَحَه فَضالةُ بنُ شَرِيكٍ، ثمَّ لم يجِدْ منه شَيئًا، وكان
ابنُ الزُّبَيرِ لا يُعْطي الشُّعَراءَ، فهَجاه فَضالةُ هِجاءً مُرًّا، بينما مدَحَ أخاه مُصعبًا؛ لأنَّه كان جَوَادًا سَخِيًّا
[428] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/185). .
على أنَّ ذلك لم يَكُنْ مُطَّرِدًا دائِمًا؛ إذ قد يمدَحُ شاعِرٌ رَجُلًا يَستحِقُّ المدْحَ، لا لعَطاءٍ ولا لتقَرُّبٍ، وإنَّما اعِترافًا بحَقٍّ، أو شُكرًا على صَنيعٍ، كما ظهَرَ في مَدْحِ
الفَرَزدَقِ ل
زَينِ العابِدينَ عَليِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وآلِ بَيتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال:
هذا الَّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَه
والبَيتُ يَعرِفُه والحِلُّ والحَرَمُ
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ اللهِ كُلِّهِمِ
هذا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ
هذا
ابنُ فاطِمةَ إنْ كُنتَ جاهِلَه
بجَدِّه أنبياءُ اللهِ قد خُتِموا
وليس قَولُك مِن هذا بضائِرِه
العُرْبُ تَعرِفُ مَن أنكَرْتَ والعَجَمُ
إذا رأَتْه قُرَيشٌ قال قائِلُها
إلى مَكارِمِ هذا يَنْتَهي الكَرَمُ
يُغْضي حَياءً ويُغْضَى مِن مَهابَتِه
فما يُكَلَّمُ إلَّا حِينَ يَبتَسِمُ
مَن يَشكُرِ اللهَ يَشكُرْ أوَّلِيَّةَ ذا
فالدِّينُ مِن بَيتِ هذا نالَه الأُمَمُ
يُنْمَى إلى ذِرْوةِ الدِّينِ الَّتي قَصُرَت
عنها الأكُفُّ وعن إدراكِها القَدَمُ
مَن جَدُّه دانَ فَضْلُ الأنبياءِ له
وفَضْلُ أُمَّتِه دانت له الأُمَمُ
مِن مَعْشَرٍ حُبُّهم دِينٌ وبُغْضُهمُ
كُفْرٌ وقُرْبُهمُ مَنجًى ومُعتَصَمُ
مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللهِ ذِكْرُكُمُ
في كُلِّ بَدءٍ ومَختومٌ به الكَلِمُ
إنْ عُدَّ أهْلُ التُّقَى كانُوا أئِمَّتَهم
أو قِيلَ: مَن خَيرُ أهلِ الأرْضِ قِيلَ هُمُ
لا يَستطيعُ جَوَادٌ بُعْدَ جُودِهم
ولا يُدانِيهم قَوْمٌ وإنْ كَرُموا
يُستَدْفَعُ الشَّرُّ والبَلْوى بحُبِّهِمُ
ويُسْتَرَبُّ به الإحسانُ والنِّعَمُ
[429] ((ديوان الفرزدق)) (ص:511). ف
الفَرَزْدَقُ وهو شاعِرُ الدَّولةِ الأُمَوِيَّةِ ومادِحُ مُلوكِها، لم يَستَطِعْ أن يَسكُتَ إزاءَ مَوقِفٍ مِثلِ هذا؛ فقد دَخَل الخَليفةُ
هِشامُ بنُ عَبدِ المَلِكِ الكَعْبةَ ليَطوفَ، فلم يَستَطِعْ أن يَصِلَ إلى الحَجَرِ الأسوَدِ؛ لشِدَّةِ زِحامِ النَّاسِ، فوَضَعوا له مِنْبَرًا وظَلَّ يُراقِبُ النَّاسَ في الطَّوافِ، فبينما هو كذلك إذ دَخَل
زَينُ العابِدينَ الكَعْبةَ فطاف، ثم تنَحَّى له النَّاسُ حتى يَستَلِمَ الحَجَرَ! فاغتاظَ
هِشامٌ لذلك، فسأله شامِيٌّ: مَن هذا يا أميرَ المُؤمِنينَ، فنَكِرَه
هِشامٌ وزَعَم أنَّه لا يَعرِفُه! فأجابه
الفَرَزْدَقُ بتلك الأبياتِ، فاغتاظ
هِشامٌ بذلك، وأمَرَ بحَبْسِ
الفَرَزْدَقِ بعُسْفانَ -مَوضِعٍ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدينةِ- فأنشَدَ
الفَرَزْدَقُ يَهجوه ويقولُ:
أيحْبِسُني بَيْنَ المَدينةِ والَّتي
إليها قُلوبُ النَّاسِ يَهْوي مُنيبُها
يُقَلِّبُ رَأْسًا لم يَكُنْ رَأسَ سَيِّدٍ
وعَيْنًا له حَوْلاءَ بادٍ عُيوبُها
فأطلَقَه
هِشامٌ لَمَّا عَلِمَ منه ذلك، ثمَّ إنَّ
زَينَ العابِدينَ أرسَلَ إليه بعَشَرةِ آلافِ دِرْهَمٍ، وقال: اعذِرْ أبا فِراسٍ، فلو كان عِندَنا أكثَرُ منها لوصَلْناك بها، فرَدَّها
الفَرَزْدَقُ وقال: ما قُلتُ ما كان إلَّا للهِ، وما كُنتُ لأرْزَأ عليه شَيئًا، فألحَّ عليه
زَينُ العابِدينَ حتَّى أخَذَها
[430] يُنظر: ((الأغاني)) للأصفهاني (15/ 218)، ((الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي)) للمعافى بن زكريا (ص: 681)، ((الأدب الأموي تاريخه وقضاياه)) لزكريا النوتي (ص:47). .
وكان المدْحُ في هذا العَصْرِ إطراءً ومُبالغةً، فالشَّاعِرُ يَمدَحُ الممدوحَ بما ليس فيه مِنَ الصِّفاتِ؛ لينالَ رِضاه، ويتَقَرَّبَ إليه زُلْفَى، بينما كان قَبْلَ ذلك في الجاهِلِيَّةِ والإسلامِ صادِقًا يعتَمِدُ على وَصْفِ الرَّجُلِ بما فيه مِنَ الصِّفاتِ والمناقِبِ
[431] ينظر: ((الأدب الأموي تاريخه وقضاياه)) لزكريا النوتي (ص:47). .