المَطْلَبُ الثَّالثُ: الوَصْفُ
إنَّ الطَّبيعةَ هي المُلهِمُ الأوَّلُ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، والإنْسانُ ابنُ بيئتِه، ولِسانُ عَصْرِه ومِصْرِه.
والتَّغنِّي بوَصْفِ البيئةِ والحَياةِ قَديمٌ قِدَمَ الشِّعْرِ، وقد مَضى الشُّعَراءُ في الجاهِليَّةِ يَتَغنَّونَ ببيئتِهم وصَحْرائِهم في أشعارِهم، فلم يَتْركوا كَبيرةً ولا صَغيرةً في صَمْتِها أو حَرَكتِها دونَ أن يَرْسُموها في أشعارِهم، فهُمْ يُصوِّرونَ فَلَواتِها بكُثْبانِها ورِمالِها، وغُدْرانِها وغَيْثِها وسُيولِها، وخِصْبِها وجَدْبِها، ونَباتاتِها وأشجارِها، وحَيَوانِها وطَيْرِها، وزَواحِفِها وهواجِرِها، وما قد يَنزِلُ ببعضِ مَرْتفَعاتِها وأطْرافِها مِن البَرْدِ وقوارِصِه.
وقد انْتَهجَ شُعَراءُ العَصْرِ الأُمَوِيِّ نَهْجَ أسْلافِهم، يَسْتَلهِمونَ الصَّحْراءَ ومَظاهِرَ الطَّبيعةِ؛ إذ الشَّاعِرُ يَفْتتِحُ قَصيدتَه بوَصْفِ الأطْلالِ والدِّيارِ، ويَتَحدَّثُ عن رِحلتِه في الصَّحْراءِ، ويُغرِقُ في وَصْفِ كلِّ ما وقَعَتْ عَيْنُه عليه مِن حَيَوانٍ أو طَيْرٍ أو نَباتٍ، بلْ كانتِ الصَّحْراءُ مَصدَرَ إلْهامٍ لبعضِهم.
فهذا الفَرَزْدَقُ يُصوِّرُ ببَراعةٍ طَبيعةَ الصَّحْراءِ ونَهْرَ دُجَيلٍ وما يَجْري فيه مِن سُفُنٍ، فيقولُ:لَفَلْجٌ وصَحْراواه لو سِرْتُ فيهما
أحَبُّ إلينا مِن دُجَيلٍ وأفْضَلُ
وراحِلةٌ قد عوَّدوني رُكوبَها
وما كنْتُ رَكَّابًا لها حينَ تَرحَلُ
قَوائِمُها أيْدي الرِّجالِ إذا انْتَحَتْ
وتَحمِلُ مَن فيها قُعودًا وتُحمَلُ
إذا ما تَلقَّتْها الأواذيُّ شَقَّها
لها جُؤْجُؤٌ لا يَسْتريحُ وكَلْكَلُ
إذا رَفَعوا فيها الشِّراعَ كأنَّها
قَلوصُ نَعامٍ أو ظَليمٌ شَمَرْدلُ
[444] ((ديوان الفَرَزْدَق)) (ص: 430). ولعلَّ أبْرَزَ شُعَراءِ هذا اللَّونِ ذو الرُّمَّةِ الَّذي اخْتَلطَ حُبُّ الصَّحْراءِ في دَمِه وجَرى في أوْداجِه، فهو إن وَصَفَ الصَّحْراءَ لا يَصِفُها وَصْفَ الشَّاعِرِ الَّذي تُعجِبُه مَظاهِرُ البيئةِ، وتَسْتَهويه تَضاريسُ المَكانِ، بلْ كانَ يَصِفُها وَصْفَ عاشِقٍ لها، مُتَيَّمٍ في حُبِّها، فقدِ اسْتَطاعَ أن يَنفُذَ في هذا الوَصْفِ إلى لَوْحاتٍ رائِعةٍ دَبَّجَتْها يَراعةُ شاعِرٍ عاشِقٍ للصَّحراءِ.
وقد اخْتَلَفتْ نَظْرةُ ذي الرُّمَّةِ للصَّحْراءِ والطَّبيعةِ، وطَريقةُ وَصْفِه لها؛ إذ تَناوَلَ الصَّحْراءَ بلِسانِ شاعِرٍ مُحِبٍّ لها، عاشَ بيْنَ جَوانِحِها وتَرَعْرَعَ فيها، يَصِفُ كلَّ بُقْعةٍ فيها وَصْفًا مُخَضَّبًا بألوانِ شُعورِه مِن الفَرَحِ والحُزْنِ والنَّشاطِ والفُتورِ والإعْياءِ، بلْ إنَّك إن قارَنْتَ وَصْفَه للصَّحْراءِ معَ ذِكْرِه لمَحْبوبَتِه (مَيَّةَ)، وَجَدْتَ ذِكْرَ الصَّحْراءِ ووَصْفَها يَفوقُ عندَه ويَبْغي على تَغزُّلِه في مَحْبوبتِه
[445] ينظر: ((التَّطوُّر والتجديد في الشِّعْر الأموي)) لشوقي ضيف (ص:250). .
فلا يَطْغى عنده شَيءٌ على وَصْفِ الصَّحْراءِ وحُبِّها؛ حتَّى إنَّه ليَرى الكُثْبانَ الرَّمْليَّةَ كأوْراكِ العَذارى
[446] ينظر: ((الأدب الأموي تاريخه وقضاياه)) لزكريا النوتي (ص:122). ، فيقولُ:
ورَمْلٍ كأوْراكِ العَذارى قَطَعْتُهُ
إذا جَلَّلَتْه المُظْلِماتُ الحَنادِسُ
رُكامٍ تَرى أثْباجَه حينَ تَلْتقي
لها حُبُكٌ لا تَخْتَطيهِ الضَّغابِسُ
[447] ((ديوان ذي الرمة بشرح الباهلي)) (2/1131). ومِن رَوائِعِ تَصْويرِه قَوْلُه في ظَبْيَةٍ وابنِها:إذا اسْتَوْدَعَتْه صَفْصَفًا أو صَريمةً
تَنَحَّتْ ونَصَّتْ جِيدَها بالمَناظِرِ
حِذارًا على وَسنانَ يَصرَعُه الكَرى
بكلِّ مَقيلٍ عن ضِعافٍ فَواتِرِ
وتَهْجُرُه إلَّا اخْتِلاسًا نَهارَها
وكم مِن مُحِبٍّ رَهْبةَ العَيْنِ هاجِرِ
حِذارَ المَنايا رَهْبةً أن يَفُتْنَها
به وهْي إلَّا ذاك أضْعَفُ ناصِرِ
[448] ((ديوان ذي الرمة بشرح الباهلي)) (3/1674).