المَطْلَبُ الرَّابِعُ: الرِّثاءُ
هو غَرَضٌ مِن أغْراضِ الشِّعْرِ القَديمةِ الَّذي انْتَقلَ معَه بانْتِقالِ الشِّعْرِ مِن عَصْرٍ لآخَرَ؛ لأنَّ موجِبَ الرِّثاءِ -المَوْتَ- باقٍ ما بَقيَ النَّاسُ، فما مِن مُحِبٍّ إلَّا ويُفجَعُ بمَوْتِ حَبيبِه، وما مِن صَديقٍ إلَّا وستَنزِلُ عليه صَواعِقُ صَوْتِ النَّاعي عندَما يَنْعَى صَديقَه، وحينَئذٍ تَهدِرُ الألْسِنةُ بالرِّثاءِ هَدْرًا، وتَجيشُ العَواطِفُ بالحُزْنِ شِعْرًا، وتَفيضُ الأعْيُنُ بالأسى دَمْعًا لو مَسَّ رَطْبَ النَّباتِ لأحْرَقَه، وتَثورُ النَّفْسُ ثَوْرةً توشِكُ أن تَقتُلَ صاحِبَها، ووقتَئذٍ لا يَجِدُ الشَّاعِرُ سُلوانًا يُهوِّنُ عنه هَوْلَ الفاجِعةِ سِوى شِعْرِه، فيُضَمِّنُ أبْياتَ قَصيدتِه أحْزانَ قَلْبِه، ويَنقُلُ لنا شُعورَه كي نُشاطِرَه الأحْزانَ ونُلهِمَه الصَّبْرَ والسُّلوانَ.
ومِن المَراثي في ذلك الوَقْتِ رِثاءُ جَريرٍ لزَوْجتِه عندَما تَخطَّفَها المَوْتُ؛ إذ يقولُ:لولا الحَياءُ لعادَني اسْتِعبارُ
ولَزُرْتُ قَبْرَكِ والحَبيبُ يُزارُ
ولقد نَظَرْتُ وما تَمتُّعُ نَظْرةٍ
في اللَّحْدِ حيثُ تَمكَّنَ المِحفارُ
فجَزاكِ ربُّكِ في عَشيرِك نَظْرةً
وسَقى صَداكِ مُجَلْجِلٌ مِدْرارُ
ولَّهْتِ قَلْبي إذ عَلَتْني كَبْرةٌ
وذَوو التَّمائِمِ مِن بَنيكِ صِغارُ
أرْعى النُّجومَ وقد مَضَتْ غَورِيَّةً
عُصَبُ النُّجومِ كأنَّهنَّ صُوارُ
نِعْمَ القَرينُ وكنْتِ عِلْقَ مَضنَّةٍ
وارى بنَعْفِ بُليَّةَ الأحْجارُ
عَمِرَتْ مُكرَّمةَ المِساكِ وفارَقَتْ
ما مَسَّها صَلَفٌ ولا إقْتارُ
فسَقى صَدى جَدَثٍ ببُرقةَ ضاحِكٍ
هَزِمٌ أجَشُّ ودِيمةٌ مِدْرارُ
هَزِمٌ أجَشُّ إذا اسْتَحارَ ببَلْدةٍ
فكأنَّما بجَوائِها الأنْهارُ
مُتراكِبٌ زَجِلٌ يُضيءُ وَميضُه
كالبُلْقِ تحتَ بُطونِها الأمْهارُ
كانت مُكرَّمةَ العَشيرِ ولم يكُنْ
يَخْشى غَوائِلَ أمِّ حَزرةَ جارُ
ولقد أراكِ كُسيتِ أجْمَلَ مَنظَرٍ
ومعَ الجَمالِ سَكينةٌ ووَقارُ
والرِّيحُ طيِّبةٌ إذا اسْتَقْبلْتِها
والعِرْضُ لا دَنِسٌ ولا خَوَّارُ
وإذا سَريتِ رأيْتُ نارَكِ نوَّرَتْ
وَجْهًا أغَرَّ يَزينُه الإسْفارُ
صلَّى المَلائِكةُ الَّذين تُخُيِّروا
والصَّالِحونَ عليك والأبْرارُ
وعليكِ مِن صَلَواتِ ربِّكِ كلَّما
نَصَبَ الحَجيجُ مُلبِّدينَ وغاروا
يا نَظْرةً لك يَوْمَ هاجَتْ عَبْرةً
مِن أمِّ حَزْرةَ بالتَّميرةِ دارُ
تُحْيي الرَّوامِسُ رَبْعَها فتُجِدُّه
بعْدَ البِلى وتُميتُه الأمْطارُ
وكأنَّ مَنزِلةً لها بجُلاجِلٍ
وَحْيُ الزَّبورِ تُجِدُّه الأحْبارُ
لا تُكْثِرَنَّ إذا جَعَلْتَ تَلومُني
لا يَذْهَبَنَّ بحِلمِك الإكْثارُ
كانَ الخَليطُ هُمُ الخَليطُ فأصْبَحوا
مُتَبدِّلينَ وبالدِّيارِ دِيارُ
لا يَلبَثُ القُرَناءُ أن يَتَفرَّقوا
لَيلٌ يَكُرُّ عليهمُ ونَهارُ
[449] ((ديوان جَرير)) (ص: 154). وقالَ مُحمَّدُ بنُ كَعْبٍ الغَنَويُّ يَرثي أخاه:تَقولُ ابنةُ العَبْسيِّ قد شِبْتَ بعْدَنا
وكُلُّ امْرِئٍ بعْدَ الشَّبابِ يَشيبُ
وما الشَّيْبُ إلَّا غائِبٌ كانَ جائِيًا
وما القَوْلُ إلَّا مُخطِئٌ ومُصيبُ
تقولُ سُلَيْمى ما لِجِسْمِك شاحِبًا
كأنَّك يَحْميكَ الشَّرابَ طَبيبُ
فقلْتُ ولم أعْيَ الجَوابَ ولم أبُحْ
وللدَّهْرِ في الصُّمِّ الصِّلابِ نَصيبُ
تَتابُعُ أحْداثٍ تَخرَّمْنَ إخْوَتي
فشَيَّبْنَ رأسي والخُطوبُ تُشيبُ
لَعَمْري لئِنْ كانَتْ أصابَتْ مَنيَّةٌ
أخي والمَنايا للرِّجالِ شَعوبُ
لقد كانَ أمَّا حِلمُه فمُروِّحٌ
علينا وأمَّا جَهْلُه فعَزيبُ
أخي ما أخي لا فاحِشٌ عندَ بَيْتِهِ
ولا وَرِعٌ عنْدَ اللِّقاءِ هَيوبُ
أخي كانَ يَكْفيني وكانَ يُعينُني
على نائِباتِ الدَّهْرِ حينَ تَنوبُ
حَليمٌ إذا ما سَوْرةُ الجَهْلِ أطْلَقَتْ
حُبَى الشَّيبِ للنَّفْسِ اللَّجوجِ غَلوبُ
هو العَسَلُ الماذيُّ لينًا ونائِلًا
ولَيْثٌ إذا يَلْقى العُداةَ غَضوبُ
[450] ((جمهرة أشعار العرب)) لأبي زيد القرشي (ص:557).