المَطْلَبُ السَّابِعُ: الهِجاءُ والخُصوماتُ
اسْتَعَرَتْ نارُ الهِجاءِ في هذا العَصْرِ نَظَرًا للعَصَبيَّةِ القَبَليَّةِ والخُصوماتِ الَّتي انْشَغلَ بها النَّاسُ عن أمْرِ دينِهم ودُنْياهم، والَّتي ألْهاهم بها بَنو أُمَيَّةَ عن شُؤونِ الحُكْمِ وأمْرِ الخِلافةِ، وكَثُرَتِ الفِرَقُ والأحْزابُ الَّتي كانت في عَداءٍ دائِمٍ لا يَنْقطِعُ، فجاءَ الهِجاءُ في هذا العَصْرِ مُقْذِعًا، بسَبَبٍ كانَ أو بدونِ سَبَبٍ. واخْتَلَفتْ صُوَرُ الخُصوماتِ في هذا الوَقْتِ، فمِن خُصوماتٍ قَبَليَّةٍ وخُصوماتٍ فَرديَّةٍ وخُصوماتٍ حِزْبيَّةٍ سِياسيَّةٍ.
فمِن الخُصوماتِ القَبَليَّةِ قَوْلُ جَريرٍ في بَني نُمَيْرٍ:فلا صلَّى الإلهُ على نُمَيْرٍ
ولا سُقِيَتْ قُبورُهمُ السَّحابا
وخَضْراءِ المَغابِنِ مِن نُمَيْرٍ
يَشينُ سَوادُ مَحْجِرِها النِّقابا
إذا قامَتْ لغيْرِ صَلاةِ وِتْرٍ
بُعَيْدَ النَّومِ أنْبَحَتِ الكِلابا
تَطلَّى وهْي سَيِّئةُ المُعرَّى
بصِنِّ الوَبْرِ تَحسَبُه مَلابا
كأنَّ شَكيرَ نابِتِ إسْكَتَيها
سِبالُ الزُّطِّ عَلَّقَتِ الرِّكابا
وقد جلَّتْ نِساءُ بَني نُمَيْرٍ
وما عَرَفَتْ أنامِلُها الخِضابا
إذا حلَّتْ نِساءُ بَني نُمَيْرٍ
على تِبراك خَبَّثَتِ التُّرابا
ولو وُزِنَتْ حُلومُ بَني نُمَيْرٍ
على الميزانِ ما وَزَنَتْ ذُبابا
فصَبْرًا يا تُيوسَ بَني نُمَيْرٍ
فإنَّ الحَرْبَ مُوقِدةٌ شِهابا
لَعَمْرُ أبي نِساءِ بَني نُمَيْرٍ
لَساءَ لها بمَقْصَبتي سِبابا
ستَهدِمُ حائِطَيْ قَرْماءَ منِّي
قَوافٍ لا أريدُ بها عِتابا
دَخَلْنَ قُصورَ يَثْرِبَ مُعْلِماتٍ
ولم يَتْرُكْنَ مِن صَنْعاءَ بابا
تَطولُكمُ حِبالُ بَني تَميمٍ
ويَحْمي زأرُها أجَمًا وغابا
ألَمْ نُعتِقْ نِساءَ بَني نُمَيْرٍ
فلا شُكرًا جَزَينَ ولا ثَوابا
أجَنْدَلُ، ما تقولُ بَنو نُمَيْرٍ
إذا ما الأيْرُ في اسْتِ أبيك غابا
ألَمْ تَرَني صَبَبْتُ على عَبيدٍ
وقد فارَتْ أباجِلُه وشابا
أُعِدُّ له مَواسِمَ حامِياتٍ
فيَشْفي حَرُّ شُعْلتِها الجِرابا
فغُضَّ الطَّرْفَ إنَّك مِن نُمَيْرٍ
فلا كَعْبًا بَلَغْتَ ولا كِلابا
[455] ((ديوان جَرير)) (ص: 62). ومِن الخُصوماتِ الفَرْديَّةِ هِجاءُ جَريرٍ للأَخْطَلِ بقَوْلِه:لقد وَلَدَ الأُخَيْطِلَ أمُّ سوءٍ
على بابِ اسْتِها صُلُبٌ وشامُ
أهانَ اللهُ جِلدةَ حاجِبَيها
وما وارى مِن القَذَرِ اللِّثامُ
ونِسوَتُه الخَبائِثُ مولَعاتٌ
بقَسٍّ لا يُنيمُ ولا يَنامُ
إذا ما القَسُّ نادَمَهنَّ يَوْمًا
على الخِنْزيرِ وانْكَشَفَ الفِدامُ
بَدأْنَ شِواءَهنَّ بخِصْيَتَيهِ
وهُنَّ إلى جَحافِلِهِ قِرامُ
[456] ((شرح ديوان جَرير)) لمُحمَّد بن حَبيب (1/283). ومِن الخُصوماتِ الحِزْبيَّةِ السِّياسيَّةِ هِجاءُ الأَخْطَلِ الأنْصارَ إرْضاءً للأُمَوِيِّينَ وللتَّقرُّبِ مِنهم، فيقولُ [457] ((ديوان الأَخْطَل)) (ص: 327). :لَعَنَ الإلهُ مِنَ اليَهودِ عِصابةً
بِالجِزْعِ بيْنَ جُلَيجِلٍ وصِرارِ
قَوْمٌ إذا هَدَرَ العَصيرُ رَأيْتَهم
حُمُرًا عُيونُهمُ مِنَ المُسْطارِ
ذَهَبَتْ قُرَيشٌ بالمَكارِمِ والعُلا
واللُّؤْمُ تحتَ عَمائِمِ الأنْصارِ
فذَروا المَكارِمَ لستُمُ مِن أهْلِها
وخُذوا مَساحِيَكم بَني النَّجَّارِ
إِنَّ الفَوارِسَ يَعرِفونَ ظُهورَكُم
أَولادَ كُلِّ مُفَسَّحٍ أكَّارِ