المَطْلَبُ الرَّابِعُ: المُجونُ والخَمْريَّاتُ
أثَّرَ التَّرَفُ والغِنى على كَثيرٍ مِن النَّاسِ في زَمانِ العبَّاسيِّينَ، بلْ إنَّ كَثيرًا مِنهم مالَ إلى الزَّنْدقةِ والتَّخَفِّي في ثيابِ الإسلامِ، معَ إبْطانِ الكُفْرِ والإلْحادِ، وكانَ ذلك لأسْبابٍ عِدَّةٍ؛ أهَمُّها: انْتِشارُ المَذاهِبِ الفَلْسفيَّةِ، وانْفِتاحُ العبَّاسيِّينَ على الثَّقافةِ الغَربيَّةِ وتَرْجمةِ كُتُبِها، وما نَشَأَ عن ذلك مِن فِتَنٍ ونِزاعاتٍ كانَ أعْظَمَها القَوْلُ بخَلْقِ القُرآنِ.
وقد انْهَمَكَ النَّاسُ في الشَّرابِ وحَياةِ اللَّهْوِ والمُجونِ بلا رَقيبٍ أو حَسيبٍ، حتَّى إنَّ
المَهْديَّ لمَّا أنْشَأَ ديوانًا للزَّنْدَقةِ لم يُنشِئْ ديوانًا للمُجونِ، يُحاسِبُ الماجِنينَ ويَرُدُّهم إلى دينِهم ويَرْدَعُهم عن أقْوالِهم، بلْ إنَّ حَياةَ اللَّهْوِ تلك قد كَثُرَت جدًّا بدايةً مِن عَهْدِ الأمينِ بنِ الرَّشيدِ، الَّذي كانَ قَصْرُه أشْبَهَ بالحانةِ، هذا فَضْلًا عن انْتِشارِ أسْواقِ الجَواري والإماءِ، وتَشْبيبِ الغِلْمانِ والشُّعَراءِ بهنَّ، حتَّى عَجَزَ الفُقَهاءُ عن إنْكارِ ذلك المُنكَرِ، وغَرِقَتِ الدَّوْلةُ العبَّاسيَّةُ في لَهْوٍ ومُجونٍ لم تَنفَكَّ عنه!
وقد أغْرَقَ شُعَراءُ هذا العَصْرِ في وَصْفِ الخَمْرِ، وبالَغوا في الحَديثِ عنها والدَّعْوةِ إليها، واسْتَهلُّوا بها قَصائِدَهم، وأفْرَدوا قَصائِدَ لذِكْرِها، وجَعَلوا شِعْرَ الخَمْريَّاتِ فَنًّا مُسْتقِلًّا، وأكْثَروا مِن القَوْلِ فيها حتَّى غَلَبَتْ على شِعْرِهم، وقدْ بَلَغَ ما قالَه
أبو نُواسٍ فيها بِضْعةَ آلافِ بَيْتٍ حتَّى نُعِتَ بشاعِرِ الخَمْريَّاتِ
[556] ينظر: ((الأدب العربي)) لمُحمَّد عبد المنعم خفاجي (ص:195). ،
ومِن شِعْرِه فيها:دَعْ عنك لَومي فإنَّ اللَّوْمَ إغْراءُ
وداوِني بالَّتي كانتْ هي الدَّاءُ
صَفْراءُ لا تَنزِلُ الأحْزانُ ساحتَها
لو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتْه سَرَّاءُ
مِن كَفِّ ذاتِ حِرٍ في زِيِّ ذي ذَكَرٍ
لها مُحبَّانِ: لوطيٌّ وَزَنَّاءُ
قامَتْ بإبْريقِها واللَّيلُ مُعتَكِرٌ
فظَلَّ مِن وَجْهِها في البَيْتِ لَأْلاءُ
فأَرْسَلَتْ مِن فَمِ الإبْريقِ صافِيةً
كأنَّما أخَذُها بالعَيْنِ إغْفاءُ
في فِتيةٍ زُهُرٍ ذَلَّ الزَّمانُ لهم
فما يُصيبُهمُ إلَّا بما شاؤوا
لِتلك أبْكي ولا أبْكي لمَنزِلةٍ
كانت تكونُ بها هِنْدٌ وأسْماءُ
[557] ((ديوان أبي نواس)) (ص: 7). وقالَ أيضًا:لا تَبْكِ لَيلى ولا تَطرَبْ إلى هِنْدِ
واشْرَبْ على الوَرْدِ مِن حَمْراءَ كالوَرْدِ
كأسًا إذا انْحَدَرَتْ مِن حَلْقِ شارِبِها
أغْنَتْك حُمْرتُها في العَيْنِ والخَدِّ
فالخَمْرُ ياقوتةٌ والكأسُ لُؤْلؤةٌ
مِن كَفِّ لُؤْلؤةٍ مَمْشوقةِ القَدِّ
تَسقيكَ مِن عَيْنِها خَمْرًا ومِن يَدِها
خَمْرًا فما لك مِن سُكْرَينِ مِن بُدِّ
لي نَشْوتانِ وللنُّدْمانِ واحِدةٌ
شيءٌ خُصِصْتُ به مِن بيْنِهم وَحْدي
[558] ((ديوان أبي نواس)) (ص: 180).