المَطْلَبُ الثَّالثُ: القَصَصُ
ظَهَرَ فَنُّ القَصَصِ عنْدَ العبَّاسيِّينَ مُرْتبِطًا بالوَعْظِ ومَجالِسِ التَّفْسيرِ والذِّكْرِ؛ حيثُ كانَ المُفَسِّرُ يَسْتعينُ بما يَعرِفُ مِن قَصَصِ الأنْبياءِ والصَّالِحينَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ وأخْبارِ بَني إسْرائيلَ، فإذا تَعرَّضَ لذِكْرِ نَبيٍّ مِن الأنْبياءِ أو مَلِكٍ مِن المُلوكِ أفاضَ على الحاضِرينَ بما ذُكِرَ عنه لتَتَجلَّى لهم حَقيقةُ ذلك؛ ولِهذا فإنَّ أبا عليٍّ عَمْرَو بنَ فائِدٍ الأسْواريَّ الواعِظَ القاصَّ يُفسِّرُ القُرآنَ في المَسجِدِ سِتًّا وثَلاثينَ سَنَةً، ومعَ ذلك فقدْ أدْرَكَه الأجَلُ دونَ أن يَختِمَ القُرآنَ؛ لأنَّه كانَ حافِظًا للسِّيَرِ والتَّواريخِ، وكانَ رُبَّما يُفسِّرُ الآيةَ في أُسْبوعينِ!
وكذلك كانَ الوُعَّاظُ يَعْتَمِدونَ في مَواعِظِهم على بعضِ القِصَصِ المَذْكورةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، أو غيْرِها ممَّا في واقِعِهم المُعاصِرِ أو في العُصورِ السَّابِقةِ عليهم، يُبَصِّرونَ النَّاسَ ويُذَكِّرونَهم، ويَعِظونَهم بهَلاكِ الأُمَمِ والمُلوكِ، ويُحذِّرونَهم مَصائِرَ الظَّالِمينَ والفاسِقينَ.
وقدْ كَثُرَ هؤلاء الوُعَّاظُ والقُصَّاصُ، وانْتَشَرَتْ قِصَصُهم وأخْبارُهم في الدَّوْلةِ العبَّاسيَّةِ، حتَّى إنَّ
الجاحِظَ قد أفْرَدَ لهم فَصْلًا في كِتابِه البَيانِ والتَّبْيينِ
[646] يُنظر: ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 293)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (3/ 455). .
على أنَّ الفَنَّ القَصَصيَّ لم يَكْتَفِ بِهذا اللَّوْنِ مِن القَصَصِ، فقدْ كانَ لتَرْجمةِ الكُتُبِ الأجْنَبيَّةِ أكْبَرُ الأثَرِ في فَنِّ القَصَصِ العَربيِّ؛ حيثُ تُرْجِمَتْ كُتُبُ القَصَصِ فيما تُرْجِمَ،
وقد أحْدَثَ كِتابٌ مِن تلك الكُتُبِ أكْبَرَ ضَجَّةٍ عَرَفَها الأدَبُ العَربيُّ، وهو كِتابُ "كَليلة ودِمْنة".اخْتَلَفَ الأدَباءُ والمُؤَرِّخونَ في أصْلِ كِتابِ "كَليلة ودِمْنة"؛ فذَهَبَ بعضُهم إلى أنَّه عَربيٌّ أصيلٌ، وأنَّ ابنَ المُقَفَّعِ هو الَّذي ألَّفَه مُتَأثِّرًا ببَعْضِ القِصَصِ الفارِسيَّةِ والهِنْديَّةِ وغيْرِها، غيْرَ أنَّه كَتَبَها بأسْلوبِه وغايَرَ فيها بعضَ الشَّيءِ، إلَّا أنَّ الرَّاجِحَ الَّذي عليه أكْثَرُ النَّاسِ أنَّ ذلك الكِتابَ هِنْديٌّ، وأنَّ ابنَ المُقَفَّعِ يَرجِعُ إليه الفَضْلُ في تَرْجمتِه بما يُلائِمُ المُجْتمَعَ المُسلِمَ.
ويَدُلُّ على هذا الرَّأيِ الأخيرِ أنَّ الكِتابَ نفْسَه يَتَحدَّثُ عن عاداتٍ هِنْديَّةٍ، كما أنَّ الكَثيرَ مِن قِصَصِه مَوْجودٌ في أكْبَرِ كِتابَينِ للحَضارةِ الهِنْديَّةِ؛ "المهابهارتا" و"بنج تترا"، كما أنَّ البَيْروتيَّ العَلَّامةَ المُؤَرِّخَ شَهِدَ بهِنْديَّةِ الكِتابِ، وكذا الفِرْدَوسيُّ في الشَّاهنامة.
وسَبَبُ تَأليفِ ذلك الكِتابِ أنَّ مَلِكًا مِن مُلوكِ الهِنْدِ الطُّغاةِ ذَهَبَ إليه أحَدُ الحُكَماءِ ليَعِظَه ويَأمُرَه بالعَدْلِ في سيرتِه، فأُعْجِبَ بنَصائِحِه وأكْبَرَ عَقْلَه، وطَلَبَ مِنه أن يُؤلِّفَ كِتابًا يكونُ ظاهِرُه سياسةَ العامَّةِ وتَأديبَها على طاعةِ المَلِكِ، وباطِنُه أخْلاقَ المُلوكِ وسياستَها الرَّعيَّةَ، فجَعَلَه ذلك الحَكيمُ على خَمْسةَ عَشَرَ بابًا، وسَمَّاه كَليلةَ ودِمْنةَ، وجَعَلَه على لِسانِ بَهيمتَينِ، وأدارَه على الحَيَواناتِ ليكونَ ظاهِرُه لَهْوًا للخَواصِّ والعَوامِّ، وباطِنُه رِياضةً لعُقولِ الخاصَّةِ.
ويقالُ: إنَّ كِسْرى أنوشروان أعْجَبَه ذلك الكِتابُ وعَلِمَ بقيمتِه، فأرادَ اقْتِناءَه، وأرْسَلَ أحَدَ أطِبَّائِه الفَيْلسوفَ "بروزيه"، فاحْتالَ حتَّى تَمكَّنَ مِن الحُصولِ عليه، فأمَرَ كِسْرى وَزيرَه "بزرجمهر" أن يُقدِّمَ للكِتابِ، وأن يُثبِتَ هذا التَّقْريظَ في أوَّلِ الكِتابِ مُنوِّهًا فيه بصَنيعِ الطَّبيبِ الفَيْلسوفِ، فكانت تلك المُقدِّمةُ هي البابَ الثَّانيَ مِن الكِتابِ، ثُمَّ إنَّ ابنَ المُقَفَّعِ لمَّا تَرْجمَ الكتابَ وَضَعَ بابًا بيَّنَ فيه غَرَضَ الكِتابِ، وذَكَرَ أصْلَه وابْتِكارَ الهُنودِ له، وهي البابُ الثَّالِثُ مِن الكِتابِ.
وإذا كانَ الكِتابُ قد ارْتَبَطَ اسمُه بابنِ المُقَفَّعِ مُتَرجِمِه، فإنَّ ثَمَّةَ بعضَ المُحاوَلاتِ الأخرى لتَرْجمتِه، مِنها ما ذَكَرَه
حاجي خَليفة أنَّ عبْدَ اللهِ بنَ هِلالٍ الهَوازِيَّ تَرْجَمَه كذلك إلى العَربيَّةِ في خِلافةِ
المَهْديِّ ليَحْيى بنِ خالِدٍ البَرْمَكيِّ
[647] يُنظر: ((كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون)) لحاجي خليفة (2/ 1508). ، إلَّا أنَّ تَرْجمةَ ابنِ المُقَفَّعِ هي الَّتي كُتِبَ لها القَبولُ والانْتِشارُ.
وعلى بَصيصِ "كَليلة ودِمْنة" سارَ الأُدَباءُ يَنسِجونَ على مِنْوالِها، فشاعَ الفَنُّ القَصَصيُّ في الأدَبِ العَربيِّ، فعارَضَ سَهْلُ بنُ هارونَ الكاتِبُ أبْوابَه وقِصَصَه بكِتابِه "ثعلة وعَفْرة"، كما أنْشَأَ
أبو العَلاءِ المَعَرِّيُّ كِتابَه "القائِف" على مِنوالِ "كَليلة ودِمْنة"، غيْرَ أنَّه لم يُتِمَّه، وفي النِّهايةِ عارَضَه أحْمَدُ بنُ عَرَبشاه في كِتابِه: "فاكِهةُ الخُلَفاءِ ومُفاكَهةُ الظُّرَفاءِ".
وقد ذاعَ صيتُ كِتابِ "كَليلة ودِمْنة" واشْتَهرَ بَعْدَ تَرْجمتِه إلى العَربيَّةِ؛ حيثُ تُرْجِمَ بَعْدَ ذلك مِن العَربيَّةِ إلى السُّرْيانيَّةِ واليونانيَّةِ والإيْطاليَّةِ والتُّرْكيَّةِ والفَرَنْسيَّةِ والإسْبانيَّةِ والألْمانيَّةِ وسائِرِ اللُّغاتِ، كما رَجَعَ إلى الفارِسيَّةِ مِن العَربيَّةِ مُجدَّدًا
[648] يُنظر: ((أشكال خطاب النثر الفني الأدبي في العَصْر العباسي)) لحسين هنداوي (ص: 55). .
ومِن نَوادِرِ قِصَصِ "كَليلة ودِمْنة" قِصَّةُ السَّائِحِ والصَّائِغِ:قالَ دبشليم المَلِكُ لبيدبا الفَيْلَسوفِ: قد سَمِعْتُ هذا المَثَلَ، فاضْرِبْ لي مَثَلًا في شَأنِ الَّذي يَضَعُ المَعْروفَ في غيْرِ مَوضِعِه، ويَرْجو الشُّكْرَ عليه، قالَ الفَيْلسوفُ: أيُّها المَلِكُ إنَّ طَبائِعَ الخَلْقِ مُخْتلِفةٌ، وليس ممَّا خَلَقَه اللهُ في الدُّنْيا ممَّا يَمْشي على أرْبَعٍ أو على رِجلَينِ أو يَطيرُ بجَناحَينِ- شيءٌ هو أفْضَلُ مِن الإنْسانِ، ولكنْ مِن النَّاسِ البَرُّ والفاجِرُ، وقد يكونُ في بعضِ البَهائِمِ والسِّباعِ والطَّيْرِ ما هو أوْفى مِنه ذِمَّةً، وأشَدُّ مُحاماةً على حَرَمِه، وأشْكَرُ للمَعْروفِ، وأقْوَمُ به، وحينَئذٍ يَجِبُ على ذَوي العَقْلِ مِن المُلوكِ وغيْرِهم أن يَضَعوا مَعْروفَهم مَواضِعَه ولا يَضَعوه عنْدَ مَن لا يَحتَمِلُه، ولا يَقومُ بشُكْرِه، ولا يَصْطَنِعوا أحَدًا إلَّا بعْدَ الخِبْرةِ بطَرائِقِه، والمَعْرفةِ بوَفائِه ومَودَّتِه وشُكْرِه، ولا يَنْبغي أن يَخْتصُّوا بذلك قَريبًا لقَرابتِه، إذا كانَ غيْرَ مُحْتمِلٍ للصَّنيعةِ، ولا أن يَمنَعوا مَعْروفَهم ورِفْدَهم للبَعيدِ، إذا كانَ يَقيهم بنفْسِه وما يَقدِرُ عليه؛ لأنَّه يكونُ حينَئذٍ عارِفًا بحَقِّ ما اصْطُنِعَ إليه، مُؤدِّيًا لشُكْرِ ما أُنْعِمَ عليه، مَحْمودًا بالنُّصْحِ مَعْروفًا بالخَيْرِ، صَدوقًا عارِفًا، مُؤْثِرًا لحَميدِ الفِعالِ والقَوْلِ.
وكذلك كلُّ مَن عُرِفَ بالخِصالِ المَحْمودةِ ووُثِقَ مِنه بها، كانَ للمَعْروفِ مَوضِعًا، ولتَقْريبِه واصْطِناعِه أهْلًا؛ فإنَّ الطَّبيبَ الرَّفيقَ العاقِلَ لا يَقدِرُ إلى مُداواةِ المَريضِ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ إليه، والجَسِّ لعُروقِه، ومَعْرفةِ طَبيعتِه، وسَبَبِ عِلَّتِه، فإذا عَرَفَ ذلك كلَّه حَقَّ مَعْرفتِه أقْدَمَ على مُداواتِه، فكذلك العاقِلُ؛ لا يَنْبغي له أن يَصْطفيَ أحَدًا ولا يَسْتخْلِصَه إلَّا بَعْدَ الخِبْرةِ؛ فإنَّ مَن أقْدَمَ على مَشْهورِ العَدالةِ مِن غيْرِ اخْتِبارٍ كانَ مُخاطِرًا في ذلك، ومُشرِفًا مِنه على هَلاكٍ وفَسادٍ.
ومعَ ذلك رُبَّما صَنَعَ الإنْسانُ المَعْروفَ معَ الضَّعيفِ الَّذي لم يُجرِّبْ شُكْرَه، ولم يَعرِفْ حالَه في طَبائِعِه، فيَقومُ بشُكْرِ ذلك ويُكافِئُ عليه أحْسَنَ المُكافأةِ، ورُبَّما حَذِرَ العاقِلُ النَّاسَ ولم يَأمَنْ على نفْسِه أحَدًا مِنهم، وقد يَأخُذُ ابنَ عِرْسٍ فيُدخِلُه في كُمِّه ويُخرِجُه مِن الآخَرِ، كالَّذي يَحمِلُ الطَّائِرَ على يَدِه، فإذا صادَ شيئًا انْتَفَعَ به، وأطْعَمَه مِنه، وقد قيلَ: لا يَنْبغي لذي العَقْلِ أن يَحْتقِرَ صَغيرًا ولا كَبيرًا مِن النَّاسِ ولا مِن البَهائِمِ، ولكنَّه جَديرٌ بأن يَبْلوَهم، ويكونَ ما يَصنَعُ إليهم على قَدْرِ ما يَرى مِنهم، وقد مَضى في ذلك مَثَلٌ ضَرَبَه بعضُ الحُكَماءِ، قالَ المَلِكُ: وكيف كانَ ذلك؟
قالَ الفَيْلسوفُ: زَعَموا أنَّ جَماعةً احْتَفَروا رَكيَّةً فوَقَعَ فيها رَجُلٌ صائِغٌ وحَيَّةٌ وقِرْدٌ وبَبْرٌ، ومَرَّ بهم رَجُلٌ سائِحٌ، فأشْرَفَ على الرَّكيَّةِ، فبَصُرَ بالرَّجُلِ والحَيَّةِ والبَبْرِ والقِرْدِ، ففَكَّرَ في نفْسِه، وقالَ: لسْتُ أعْمَلُ لآخِرَتي عَمَلًا أفْضَلَ مِن أن أخَلِّصَ هذا الرَّجُلَ مِن بَيْنَ هؤلاء الأعْداءِ، فأخَذَ حَبْلًا وأدْلاه إلى البِئْرِ فتَعلَّقَ به القِرْدُ لخِفَّتِه فخَرَجَ، ثُمَّ دَلَّاه ثانيةً فالْتَفَّتْ به الحَيَّةُ فخَرَجَتْ، ثُمَّ دَلَّاه ثالِثًا فتَعلَّقَ به البَبْرُ فأخْرَجَه، فشَكَرْنَ له صَنيعَه، وقُلْنَ له: لا تُخرِجْ هذا الرَّجُلَ مِن الرَّكيَّةِ؛ فإنَّه ليس شيءٌ أقَلَّ شُكْرًا مِن النَّاسِ، ثُمَّ هذا الرَّجُلِ خاصَّةً!
ثُمَّ قالَ له القِرْدُ: إنَّ مَنْزلي في جَبَلٍ قَريبٍ مِن مَدينةٍ يُقالُ لها: نوادرخت، فقالَ له البَبْرُ: أنا أيضًا في أجَمَةٍ إلى جانِبِ تلك المَدينةِ، وقالتِ الحَيَّةُ: أنا أيضًا في سورِ تلك المَدينةِ، فإن أنت مَرَرْتَ بنا يَوْمًا مِن الدَّهْرِ واحْتَجْتَ إلينا، فصَوِّتْ علينا حتَّى نَأتيَك فنَجزيَك بما أسْدَيْتَ إلينا مِن مَعْروفٍ.
فلم يَلتَفِتِ السَّائِحُ إلى ما ذَكَروا له مِن قِلَّةِ شُكْرِ الإنْسانِ، وأدْلى الحَبْلَ، فأخْرَجَ الصَّائِغَ، فسَجَدَ له، وقالَ له: لقد أوْلَيتَني مَعْروفًا، فإن أتَيْتَ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ لمَدينةِ نوادرخت فاسْألْ عن مَنْزلي، فأنا رَجُلٌ صائِغٌ لعلِّي أكافِئُك بما صَنَعْتَ إليَّ مِن مَعْروفٍ، فانْطَلَقَ إلى مَدينتِه وانْطَلَقَ السَّائِحُ إلى جانِبِه.
فعَرَضَ بَعْدَ ذلك أنَّ السَّائِحَ اتَّفَقَتْ له الحاجةُ إلى تلك المَدينةِ، فانْطَلَقَ، فاسْتَقبَلَه القِرْدُ، فسَجَدَ له وقَبَّلَ رِجلَيه، واعْتَذَرَ إليه، وقالَ: إنَّ القُرودَ لا يَملِكونَ شيئًا، ولكنِ اقْعُدْ حتَّى آتيَك، وانْطَلَقَ القِرْدُ، وأتاه بفاكِهةٍ طَيِّبةٍ، فوَضَعَها بَيْنَ يَدَيه، فأكَلَ مِنها حاجتَه، ثُمَّ إنَّ السَّائِحَ انْطَلَقَ حتَّى دَنا مِن بابِ المَدينةِ فاسْتَقبَلَه البَبْرُ، فخَرَّ له ساجِدًا، وقالَ له: إنَّك قد أوْلَيتَني مَعْروفًا، فاطْمَئِنَّ ساعةً حتَّى آتيَك، فانْطَلَقَ البَبْرُ فدَخَلَ في بعضِ الحيطانِ إلى بِنْتِ المَلِكِ فقَتَلَها، وأخَذَ حَليَها، فأتاه به، مِن غيْرِ أن يَعلَمَ السَّائِحُ مِن أين هو، فقالَ في نفْسِه: هذه البَهائِمُ قد أوْلَتْني هذا الجَزاءَ، فكيف لو قد أتَيْتُ إلى الصَّائِغِ؟! فإنَّه إن كان مُعْسِرًا لا يَملِكُ شيئًا فسيَبيعُ هذا الحَليَ فيَستوفي ثَمَنَه، فيُعْطيني بعضَه، ويَأخُذُ بعضَه، وهو أعْرَفُ بثَمَنِه، فانْطَلَقَ السَّائِحُ فأتى إلى الصَّائِغِ، فلمَّا رآه رَحَّبَ به وأدْخَلَه إلى بَيْتِه، فلمَّا بَصُرَ بالحَليِ معَه، عَرَفَه وكانَ هو الَّذي صاغَه لابنةِ المَلِكِ.
فقالَ للسَّائِحِ: اطْمَئِنَّ حتَّى آتيَك بطَعامٍ فلسْتُ أرْضى لك ما في البَيْتِ، ثُمَّ خَرَجَ وهو يقولُ: قد أصَبْتُ فُرْصَتي: أريدُ أن أنْطَلِقَ إلى المَلِكِ وأدُلَّه على ذلك، فتَحسُنَ مَنزْلتي عِنْدَه، فانْطَلَقَ إلى بابِ المَلِكِ، فأرْسَلَ إليه: إنَّ الَّذي قَتَلَ ابنتَك وأخَذَ حَليَها عِنْدي، فأرْسَلَ المَلِكُ وأتى بالسَّائِحِ فلمَّا نَظَرَ الحَليَ معَه لم يُمهِلْه، وأمَرَ به أن يُعَذَّبَ ويُطافَ به في المَدينةِ، ويُصلَبَ، فلمَّا فَعَلوا به ذلك جَعَلَ السَّائِحُ يَبْكي ويقولُ بأعْلى صَوْتِه: لو أنِّي أطَعْتُ القِرْدَ والحَيَّةَ والبَبْرَ فيما أمَرْنَني به وأخْبَرْنني مِن قِلَّةِ شُكْرِ الإنْسانِ، لم يَصِرْ أمْري إلى هذا البَلاءِ، وجَعَلَ يُكرِّرُ هذا القَوْلَ، فسَمِعَتْ مَقالتَه تلك الحَيَّةُ، فخَرَجَتْ مِن جُحْرِها فعَرَفَتْه، فاشْتَدَّ عليها أمْرُه، فجَعَلَتْ تَحْتالُ في خَلاصِه، فانْطَلقَتْ حتَّى لَدَغَتِ ابنَ المَلِكِ، فدَعا المَلِكُ أهْلَ العِلمِ فرَقَوه ليَشْفوه فلم يُغْنوا عنه شيئًا، ثُمَّ مَضَتِ الحَيَّةُ إلى أخْتٍ لها مِن
الجِنِّ، فأخْبَرَتْها بما صَنَعَ السَّائِحُ إليها مِن المَعْروفِ وما وَقَعَ فيه، فرَقَّتْ له، وانْطَلَقَتْ إلى ابنِ المَلِكِ، وتَخايَلَتْ له، وقالَتْ له: إنَّك لا تَبرَأُ حتَّى يَرقيَك هذا الرَّجُلُ الَّذي قد عاقَبْتُموه ظُلْمًا، وانْطَلَقَتِ الحَيَّةُ إلى السَّائِحِ فدَخَلَتْ عليه السِّجْنَ، وقالَتْ له: هذا الَّذي كنْتُ نَهيْتُك عنه مِن اصْطِناعِ المَعْروفِ إلى هذا الإنْسانِ ولم تُطِعْني، وأتَتْه بوَرَقٍ يَنفَعُ مِن سُمِّها، وقالَتْ له: إذا جاؤوا بك لتَرقِيَ ابنَ المَلِكِ فاسْقِه مِن ماءِ هذا الوَرَقِ: فإنَّه يَبرَأُ، وإذا سألَك المَلِكُ عن حالِك فاصْدُقْه؛ فإنَّك تَنْجو إن شاءَ اللهُ تعالى.
وإنَّ ابنَ المَلِكِ أخْبَرَ المَلِكَ أنَّه سَمِعَ قائِلًا يقولُ: إنَّك لن تَبرَأَ حتَّى يَرقيَك هذا السَّائِحُ الَّذي حُبِسَ ظُلْمًا، فدَعا المَلِكُ السَّائِحَ، وأمَرَه أن يَرْقيَ وَلَدَه، فقالَ: لا أحْسِنُ الرَّقيَ، ولكنْ اسْقِه مِن ماءِ هذه الشَّجَرةِ فيَبرَأَ بإذْنِ اللهِ تعالى، فسَقاه فبَرِئَ الغُلامُ، ففَرِحَ المَلِكُ بذلك، وسألَه عن قِصَّتِه، فأخْبَرَه، فشَكَرَه المَلِكُ، وأعْطاه عَطيَّةً حَسَنةً، وأمَرَ بالصَّائِغِ أن يُصلَبَ، فصَلَبوه لكَذِبِه وانْحِرافِه عن الشُّكْرِ، ومُجازاتِه الفِعلَ الجَميلَ بالقَبيحِ.
ثُمَّ قالَ الفَيْلسوفُ للمَلِكِ: ففي صَنيعِ الصَّائِغِ بالسَّائِحِ وكُفْرِه له بَعْدَ اسْتِنْقاذِه إيَّاه، وشُكْرِ البَهائِمِ له، وتَخْليصِ بعضِها إيَّاه- عِبْرةٌ لمَن اعْتَبَرَ، وفِكْرةٌ لمَن تَفكَّرَ، وأدَبٌ في وَضْعِ المَعْروفِ والإحْسانِ عِنْدَ أهْلِ الوَفاءِ والكَرَمِ، قَرُبوا أو بَعُدوا؛ لِما في ذلك مِن صَوابِ الرَّأيِ وجَلْبِ الخَيْرِ وصَرْفِ المَكْروهِ
[649] ((كليلة ودمنة)) لابن المقفع (ص: 301). .