المَطْلَبُ الرَّابِعُ: الوَصايا
تَوارَثَ النَّاسُ في العَصْرِ العبَّاسيِّ فَنَّ الوَصايا عن العَربِ الأوائِلِ؛ إذ لم يَخْلُ عَصْرٌ مِن فَنِّ الوَصايا الَّذي يُعَدُّ بمَنزِلةِ نَقْلِ خُلاصةِ التَّجارِبِ الَّتي عاشَها الموصي، وتَتَجلَّى فيها مَبادِئُ ذلك المُجْتمَعِ وأفْكارُه وطِباعُه وأخْلاقُه.
وقد انْتَشَرَتِ الوَصايا في العَصْرِ العبَّاسيِّ، وظَهَرَتْ لها أنْواعٌ مُخْتلِفةٌ؛ مِنها وَصيَّةُ الخَليفةِ لوَليِّ العَهْدِ بالإحْسانِ إلى الرَّعيَّةِ، أو وَصيَّةُ المُوَدِّعِ -لسَفَرٍ أو دُنُوِّ أجَلٍ- أهْلَه، أو وَصيَّةُ الرَّجُلِ مُعلِّمَ أوْلادِه بحُسْنِ تَعَهُّدِهم، ونَحْوُ هذا مِن أغْراضِ الوَصايا وأشْكالِها.
وأوَّلُ ما يَنْتمي مِن الوَصايا إلى العبَّاسيِّينَ تلك الوَصايا السِّياسيَّةُ، وأوَّلُها وَصيَّةُ مُحمَّدِ بنِ عليِّ بنِ عبْدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ إلى دُعاتِه حينَ اخْتارَهم للدَّعْوةِ وأرادَ تَوْجيهَهم: (أمَّا الكوفةُ وسَوادُها فهناك شيعةُ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وأمَّا البَصْرةُ فعُثْمانيَّةٌ تَدينُ بالكَفِّ، وتقولُ: "كنْ عبْدَ اللهِ المَقْتولَ ولا تكنْ عبْدَ اللهِ القاتِلَ"، وأمَّا الجَزيرةُ فحَروريَّةٌ مارِقةٌ، وأعْرابٌ كأعْلاجٍ، ومُسلِمونَ في أخْلاقِ النَّصارى، وأمَّا أهْلُ الشَّامِ فليس يَعرِفونَ إلَّا آلَ أبي سُفْيانَ وطاعةَ بَني مَرْوانَ؛ عَداوةً لنا راسِخةً وجَهْلًا مُتراكِمًا، وأمَّا أهْلُ مَكَّةَ والمَدينةِ فقدْ غَلَبَ عليهما
أبو بَكْرٍ وعُمَرُ.
ولكنْ عليكم بخُراسانَ؛ فإنَّ هناك العَدَدَ الكَثيرَ، والجَلَدَ الظَّاهِرَ، وصُدورًا سَليمةً، وقُلوبًا فارِغةً لم تَتَقسَّمْها الأهْواءُ، ولم تَتَوزَّعْها النِّحَلُ، ولم تَشغَلْها ديانةٌ، ولم يَتَقدَّمْ فيها فَسادٌ، وليستْ لهم اليَوْمَ هِمَمُ العَربِ، ولا فيهم كتَحازُبِ الأتْباعِ بالسَّاداتِ، وكتَحالُفِ القَبائِلِ وعَصَبيَّةِ العَشائِرِ، ولم يَزالوا يُذَالونَ ويُمْتَهَنونَ ويُظلَمونَ ويَكْظِمُونَ ويَتَمَنَّونَ الفَرَجَ ويُؤمِّلونَ الدُّوَلَ، وهُمْ جُنْدٌ لهم أجْسامٌ وأبْدانٌ، ومَناكبُ وكَواهِلُ، وهاماتٌ ولِحًى، وشَوارِبُ وأصْواتٌ هائِلةٌ، ولُغاتٌ فَخْمةٌ تَخرُجُ مِن أفْواهٍ مُنكَرةٍ، وبَعْدُ فكأنِّي أتفالُّ إلى المَشرِقِ وإلى مَطلَعِ سِراجِ الدُّنْيا ومِصباحِ الخَلْقِ)
[650] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 303). .
ومِنها أيضًا وَصيَّةُ إبْراهيمَ بنِ مُحمَّدٍ لأبي مُسلِمٍ الخُراسانيِّ؛ إذ قالَ له: (إنَّك رَجُلٌ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ، احْفَظْ وَصيَّتي: انْظُرْ هذا الحَيَّ مِن اليَمَنِ فالْزَمْهم واسْكُنْ بَيْنَ أظْهُرِهم؛ فإنَّ اللهَ لا يُتِمُّ هذا الأمْرَ إلَّا بهم، فاتَّهِم رَبيعةَ في أمْرِهم، وأمَّا مُضَرُ فإنَّهم العَدُوُّ القَريبُ الدَّارِ، واقْتُلْ مَن شَكَكْتَ فيه، وإن اسْتَطَعْتَ أن لا تَدَعَ بخُراسانَ مَن يَتَكلَّمُ بالعَربيَّةِ فافْعَلْ، وأيُّما غُلامٍ بَلَغَ خَمْسةَ أشْبارٍ تَتَّهِمُه فاقْتُلْه، ولا تُخالِفْ هذا الشَّيْخَ -يَعْني سُلَيْمانَ بنَ كَثيرٍ- ولا تَعْصِه، وإذا أشْكَلَ عليك أمْرٌ فاكْتَفِ به منِّي)
[651] ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (4/ 351)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (22/ 18). .
ولمَّا دَنَتْ ساعةُ أبي جَعْفَرٍ المَنْصورِ كَتَبَ يوصي: (بِسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، مِن عبْدِ اللهِ
أبي جَعْفَرٍ المَنْصورِ أميرِ المُؤْمِنينَ إلى مَن خَلَفَ بَعْدَه مِن بَني هاشِمٍ وشيعتِه مِن أهْلِ خُراسانَ وعامَّةِ المُسلِمينَ، أمَّا بَعْدُ؛ فإنِّي كَتَبْتُ كِتابي هذا وأنا حَيٌّ في آخِرِ يَوْمٍ مِن الدُّنْيا وأوَّلِ يَوْمٍ مِن الآخِرةِ، وأنا أقْرَأُ عليكم السَّلامَ، وأسْألُ اللهَ ألَّا يَفتِنَكم بَعْدي، ولا يَلبِسَكم شِيَعًا، وألَّا يُذيقَ بعضَكم بأسَ بعضٍ ...) ثُمَّ مَضى يوصي بوَليِّ عَهْدِه ابنِه
المَهْديِّ، وقدْ كانَ وَليُّ عَهْدِه مِن بَعْدِه قَبْلَ ذلك عيسى بنَ موسى، فخَلَعَه
المَنْصورُ، وجَعَلَ ابنَه
المَهْديَّ بَدَلًا مِنه، فمَضى في وَصيَّتِه تلك يوصي النَّاسَ به، ويَحُضُّهم على الطَّاعةِ له، ويُذكِّرُهم ببَيْعتِهم له
[652] ((تاريخ الطبري)) (8/111)، ((جمهرة رسائل العرب في عصور العربية)) لأحمد زكي صفوت (3/ 128). .
ولم يَنْسَ المَنْصورُ كذلك أن يوصيَ وَليَّ عَهْدِه بالرَّعيَّةِ، ويُذَكِّرَه أنَّه مَسْؤولٌ عنهم بَيْنَ يَدَيِ اللهِ، فقالَ له وهو عازِمٌ على الحَجِّ: (يا أبا عبْدِ اللهِ، إنِّي وُلِدْتُ في ذي الحِجَّةِ، ووَلِيتُ في ذي الحِجَّةِ، وقد هَجَسَ في نفْسي أنِّي أموتُ في ذي الحِجَّةِ مِن هذه السَّنَةِ، وإنَّما حَداني على الحَجِّ ذلك، فاتَّقِ اللهَ فيما أعْهَدُ إليك مِن أمورِ المُسلِمينَ بَعْدي، يَجعِلْ لك فيما كَرَبَك وحَزَنَك مَخرَجًا -أو قالَ: فَرَجًا ومَخرَجًا- ويَرْزُقْك السَّلامةَ وحُسْنَ العاقِبةِ مِن حيثُ لا تَحتَسِبْ.
احْفَظْ يا بُنيَّ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أمَّتِه يَحفَظِ اللهُ عليك أمورَك، وإيَّاك والدَّمَ الحَرامَ؛ فإنَّه حَوبٌ عنْدَ اللهِ عَظيمٌ، وعارٌ في الدُّنْيا لازِمٌ مُقيمٌ والْزَمِ الحَلالَ؛ فإنَّ ثَوابَك في الآجِلِ، وصَلاحَك في العاجِلِ، وأقِمِ الحُدودَ ولا تَعتَدِ فيها فتَبورَ؛ فإنَّ اللهَ لو عَلِمَ أنَّ شيئًا أصْلَحُ لدينِه وأزْجَرُ مِن معاصيه مِن الحُدودِ لأمَرَ به في كِتابِه.
واعْلَمْ أنَّه مِن شِدَّةِ غَضَبِ اللهِ لسُلطانِه أمَرَ في كِتابِه بتَضْعيفِ العَذابِ والعِقابِ على مَن سَعى في الأرْضِ فَسادًا، معَ ما ذُخِرَ له عنْدَه مِن العَذابِ العَظيمِ، فقالَ:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33] ، فالسُّلْطانُ يا بُنيَّ حَبْلُ اللهِ المَتينُ، وعُروتُه الوُثْقى، ودينُ اللهِ القَيِّمُ، فاحْفَظْه وحُطْهُ وحَصِّنْه، وذُبَّ عنه، وأوْقِعْ بالمُلْحِدينَ فيه، واقْمَعِ المارِقينَ مِنه، واقْتُلِ الخارِجينَ عنه بالعِقابِ لهم والمَثُلاتِ بِهم، ولا تُجاوِزْ ما أمَرَ اللهُ به في مُحكَمِ القُرآنِ، واحْكُمْ بالعَدْلِ ولا تُشطِطْ؛ فإنَّ ذلك أقْطَعُ للشَّغْبِ، وأحْسِمْ للعَدُوِّ، وأنْجِعْ في الدَّواءِ، وعِفَّ عن الفَيءِ؛ فليس بك إليه حاجةٌ معَ ما أخْلَفَه لك، وافْتَتِحْ عَمَلَك بصِلةِ الرَّحِمِ وبِرِّ القَرابةِ، وإيَّاك والأثَرةَ والتَّبْذيرَ لأمْوالِ الرَّعيَّةِ، واشْحَنِ الثُّغورَ، واضْبِطِ الأطْرافَ، وأمِّنِ السُّبُلَ، وخُصَّ الواسِطةَ، ووَسِّعِ المَعاشَ، وسَكِّنِ العامَّةَ، وأدْخِلِ المَرافِقَ عليهم، واصْرِفِ المَكارِهَ عنهم، وأعِدَّ الأمْوالَ واخْزُنْها، وإيَّاك والتَّبْذيرَ؛ فإنَّ النَّوائِبَ غيْرُ مَأمونةٍ، والحَوادثَ غيْرُ مَضْمونةٍ، وهي مِن شِيَمِ الزَّمانِ.
وأعِدَّ الرِّجالَ والكُراعُ والجُنْدَ ما اسْتَطَعْتَ، وإيَّاك وتَأخيرَ عَمَلِ اليَوْمِ إلى غَدٍ، فتَتَدارَكَ عليك الأمورُ وتَضيعَ، جِدَّ في أحْكامِ الأمورِ النَّازِلاتِ لأوْقاتِها أوَّلًا فأوَّلًا، واجْتَهِدْ وشَمِّرْ فيها، وأعْدِدْ رِجالًا باللَّيلِ لمَعْرفةِ ما يكونُ بالنَّهارِ، ورِجالًا بالنَّهارِ لمَعْرفةِ ما يكونُ باللَّيلِ، وباشِرِ الأمورَ بنفْسِك، ولا تَضجَرْ ولا تَكسَلْ ولا تَفشَلْ، واسْتَعْمِلْ حُسْنَ الظَّنِّ برَبِّك، وأسِئِ الظَّنَّ بعُمَّالِك وكُتَّابِك.
وخَذْ نفْسَك بالتَّيَقُّظِ، وتَفَقَّدْ مَن يَبيتُ على بابِك، وسَهِّلْ أذَنَك للنَّاسِ، وانْظُرْ في أمْرِ النِّزاعِ إليك، ووَكِّلْ بهم عَيْنًا غيْرَ نائِمةٍ، ونفْسًا غيْرَ لاهِيةٍ، ولا تَنَمْ فإنَّ أباك لم يَنَمْ مُنْذُ وَليَ الخِلافةَ، ولا دَخَلَ عَيْنَه غَمْضٌ إلَّا وقَلْبُه مُسْتيقِظٌ. هذه وَصيَّتي إليك، واللهُ خَليفتي عليك)
[653] ((تاريخ الطبري)) (8/ 105). .
وأوصى هارونُ الرَّشيدُ مُؤدِّبَ وَلَدِه الأمينِ، فقالَ: (يا أحْمَرُ، إنَّ أميرَ المُؤْمِنينَ قد دَفَعَ إليك مُهْجةَ نفْسِه، وثَمَرةَ قَلْبِه، فصَيَّرَ يَدَك عليه مَبْسوطةً، وطاعتَه لك واجِبةً؛ فكنْ له بحيثُ وَضَعَك أميرُ المُؤْمِنينَ، أَقْرِئْه القُرآنَ، وعَرِّفْه الأخْبارَ، ورَوِّه الأشْعارَ، وعَلِّمْه السُّنَنَ، وبَصِّرْه بمَواقِعِ الكَلامِ وبَدْئِه، وامْنَعْه مِن الضَّحِكِ إلَّا في أوْقاتِه، وخُذْه بتَعْظيمِ مَشايِخِ بَني هاشِمٍ إذا دَخَلوا عليه، ورَفْعِ مَجالِسِ القُوَّادِ إذا حَضَروا مَجلِسَه، ولا تَمُرَّنَّ بك ساعةٌ إلَّا وأنت مُغْتَنِمٌ فائِدةً تُفيدُه إيَّاها، مِن غيْرِ أن تَحزُنَه؛ فتُميتَ ذِهْنَه، ولا تُمْعِنْ في مُسامَحتِه؛ فيَسْتحلِيَ الفَراغَ ويَأْلَفَه، وقَوِّمْه ما اسْتَطَعْتَ بالقُرْبِ والمُلايَنةِ، فإنْ أباهما فعليك بالشِّدَّةِ والغِلْظَةِ)
[654] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/744). .