المَطْلَبُ الخامِسُ: الرَّسائِلُ
ازْدَهَرَتِ الرَّسائِلُ في العَصْرِ العبَّاسيِّ ازْدِهارًا كَبيرًا، ويَرجِعُ ذلك الازْدِهارُ إلى عَوامِلَ مُخْتلِفةٍ، أهَمُّها التَّأثُّرُ بكَاتِبَينِ مُهمَّينِ، وهما: عبْدُ الحَميدِ الكاتِبُ، وعبْدُ اللهِ بنُ المُقَفَّعِ، ثُمَّ جاءَ بعْدَهما أوْحَدُ عَصْرِه
أبو عُثْمانَ الجاحِظُ.
عبْدُ الحَميدِ الكاتِبُ:وقد ذَكَرْنا أنَّ عبْدَ الحَميدِ كانَ كاتِبًا لمَرْوانَ بنِ مُحمَّدٍ آخِرِ الخُلَفاءِ الأُمَوِيِّينَ، وأنَّه ماتَ معَه حينَ أُخِذا في بوصير بمِصْرَ، غيْرَ أنَّ أثَرَ عبْدِ الحَميدِ في الكُتَّابِ مِن بعْدِه كانَ عَظيمًا؛ ولِهذا قالَ
أبو جَعْفَرٍ المَنْصورُ: (غَلَبَنا بَنو مَرْوانَ بثَلاثةِ أشْياءَ: ب
الحَجَّاجِ، وعبْدِ الحَميدِ الكاتِبِ، وبالمُؤذِّنِ البَعْلَبَكِّيِّ)
[655] ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (18/53) .
وقالَ ابنُ النَّديمِ في حَقِّه: (وعنه أخَذَ المُترَسِّلونَ، ولطَريقتِه لَزِموا، وهو الَّذي سَهَّلَ سَبيلَ
البَلاغةِ في التَّرسُّلِ، واحِدُ دَهْرِه)
[656] ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 149). .
عبْدُ اللهِ بنُ المُقَفَّعِ:أمَّا ابنُ المُقَفَّعِ فقدْ عَمِلَ في زَمانِ الدَّوْلةِ الأُمَوِيَّةِ كاتِبًا لعُمَرَ بنِ هُبَيْرةَ على دَواوينِه بفارِسَ، ثُمَّ كَتَبَ لابنِه يَزيدَ حينَ وَليَ العِراقَ، ثُمَّ لأخيه داودَ، وكانَ ذلك في عَهْدِ مَرْوانَ بنِ مُحمَّدٍ آخِرِ خُلَفاءِ الدَّوْلةِ الأُمَوِيَّةِ، فلمَّا قامَتِ الدَّوْلةُ العبَّاسيَّةُ كَتَبَ لعيسى بنِ عليٍّ عَمِّ
المَنْصورِ، ثُمَّ تَحوَّلَ إلى الإسلامِ مِن المَجوسيَّةِ على يَدَيْ عيسى، وغَيَّرَ اسمَه إلى عبْدِ اللهِ، بَعْدَ أن كانَ اسمُه رُوزَبةَ بنَ داذَوَيه، وقد ظَلَّ في خِدْمةِ عيسى حتَّى قَتَلَه سُفْيانُ بنُ مُعاوِيةَ والي البَصْرةِ مِن قِبَلِ
المَنْصورِ، واخْتَلَفَ النَّاسُ في سَبَبِ قَتْلِه؛ فقيلَ: لزَنْدقتِه وإظْهارِ الإسلامِ وإبْطانِ الكُفْرِ، وقيلَ: بلْ لِما كَتَبَه مِن الأمانِ لعبْدِ اللهِ بنِ عليٍّ أخي سَيِّدِه عيسى بنِ عليٍّ، حينَ خَرَجَ عبْدُ اللهِ عن طاعةِ
المَنْصورِ وعَزَمَ على قِتالِه، فلمَّا انْهزَمَ فَرَّ إلى أخيه عيسى، وطَلَبَ مِن ابنِ المُقَفَّعِ أن يَكتُبَ له الأمانَ مِن
المَنْصورِ، فكَتَبَ ابنُ المُقَفَّعِ أمانًا لا يَدَعُ مَجالًا
للمَنْصورِ أن يخفِرَ به؛ فإنَّه جَعَلَ
المَنْصورَ إن نَقَضَ الأمانَ كافِرًا بكُلِّ دينٍ، ووَجَبَ على النَّاسِ الخُروجُ عليه، ونِساءَه طَوالِقَ وعَبيدَه أحْرارًا، فغَضِبَ
المَنْصورُ حينَئذٍ وقالَ: مَن يَكْفيني هذا الكاتِبَ؟ فقامَ سُفْيانُ بنُ مُعاوِيةَ فقَتَلَه سَنَةَ 142ه
[657] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (6/ 208)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (5/ 21). .
وأيًّا كانَ السَّبَبُ الَّذي قُتلَ مِن أجْلِه ابنِ المُقَفَّعِ، فإنَّه قد عاشَ سِتًّا وثَلاثينَ سَنَةً، مِنها عَشْرُ سِنينَ فحسْبُ في الدَّوْلةِ العبَّاسيَّةِ، غيْرَ أنَّه كانَ له أكْبَرُ الأثَرِ على النَّثْرِ عُمومًا، وعلى الرَّسائِلِ خُصوصًا؛ ففَضْلًا عن تَرْجمتِه "كَليلة ودِمْنة" وسائِرِ الكُتُبِ والعُلومِ والثَّقافاتِ مِن البَهْلَويَّةِ إلى العَربيَّةِ، فإنَّه امْتازَتْ كِتابتُه بالسُّهولةِ والبَساطةِ، ليس فيها تَعْقيدٌ أو إغْرابٌ، يَميلُ إلى الاسْتِرسالِ العَذْبِ؛ حيثُ الألْفاظُ القَريبةُ والعِباراتُ المُبَسَّطةُ حسَبَ الأغْراضِ، أسلوبٌ يَقومُ على التَّوسُّطِ بَيْنَ لُغةِ الخاصَّةِ وما يكونُ فيها مِن إغْرابٍ، وبَيْنَ لَفْظِ العامَّةِ وما يكونُ فيه مِن ابْتِذالٍ، وهو الأُسلوبُ المُوَلَّدُ الَّذي اتَّبَعَه أكْثَرُ كُتَّابِ العبَّاسيِّينَ
[658] يُنظر: ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 143). .
وابنُ المُقَفَّعِ رائِدُ الطَّبَقةِ الأُولى مِن الكُتَّابِ في العَصْرِ العبَّاسيِّ، آخى في طَريقتِه تلك بَيْنَ التَّفْكيرِ الفارِسيِّ و
البَلاغةِ العَربيَّةِ، واسْتَخْلصَ مِن الأدَبَينِ طَريقةً عُرِفَتْ به، وأُخِذَتْ عنه، تَظهَرُ مَزيَّتُها في تَرتيبِ الأفْكارِ وحُسْنِ تَقْسيمِها، وتَرْويضِ الحِكَمِ الصَّعْبةِ بسَلاسةِ الأسلوبِ وعُذوبةِ الألْفاظِ، ولم تكنِ المَعاني مُسْتهلِكةً للألْفاظِ، ولا الألْفاظُ مُسْتهلِكةً للمَعاني، بلْ كانَ يُقدِّرُ اللَّفْظَ على المَعنى تَقْديرًا واعيًا، وقد كانَ يُعَرِّفُ
البَلاغةَ بأنَّها: "الَّتي إذا سَمِعَها الجاهِلُ ظَنَّ أنَّه يُحسِنُ مِثلَها".
وقدْ كانَ الوَزيرُ جَعْفَرُ بنُ يَحْيى البَرْمَكِيُّ يقولُ: (عبْدُ الحَميدِ الكاتِبُ أصْلٌ، وسَهْلُ بنُ هارونَ فَرْعٌ، وابنُ المُقَّفَعِ ثَمَرٌ)
[659] ((الأدب العربي وتاريخه في العَصْرين الأموي والعباسي)) لمُحمَّد عبد المنعم خفاجي (2/327). .
ومِن كَلامِ ابنِ المُقَفَّعِ: (أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّ لكلِّ مَخْلوقٍ حاجةً، ولكلِّ حاجةٍ غايةً، ولكلِّ غايةٍ سَبيلًا، واللهُ وَقَّتَ للأمورِ أقْدارَها، وهيَّأَ إلى الغاياتِ سُبُلَها، وسَبَّبَ الحاجاتِ ببَلاغِها؛ فغايةُ النَّاسِ وحاجاتُهم صَلاحُ المَعاشِ والمَعادِ، والسَّبيلُ إلى دَرَكِها العَقْلُ الصَّحيحُ.
وأمارةُ صِحَّةِ العَقْلِ: اخْتِيارُ الأمورِ بالبَصَرِ، وتَنْفيذُ البَصَرِ بالعَزْمِ، وللعُقولِ سَجيَّاتٌ وغَرائِزُ بها تَقبَلُ الأدَبَ، وبالأدَبِ تُنمَّى العُقولُ وتَزْكو.
فكما أنَّ الحبَّةَ المَدْفونةَ في الأرْضِ لا تَقدِرُ أن تَخلَعَ يَبَسَها وتُظهِرَ قُوَّتَها وتَطلُعَ فوقَ الأرْضِ بزَهْرتِها ورَيْعِها ونَضْرتِها ونَمائِها إلَّا بمَعونةِ الماءِ الَّذي يَغورُ إليها في مُسْتودَعِها فيُذهِبُ عنها أذى اليَبَسِ والمَوْتِ، ويُحدِثُ لها بإذْنِ اللهِ القُوَّةَ والحَياةَ، فكذلك سَليقةُ العَقْلِ مَكنونةٌ في مَغرِزِها مِن القَلْبِ، لا قُوَّةَ لها ولا حَياةَ بها ولا مَنْفعةَ عنْدَها حتَّى يَعْتمِلَها الأدَبُ الَّذي هو ثِمارُها وحَياتُها ولَقاحُها.
وجُلُّ الأدَبِ بالمَنطِقِ، وجُلُّ المَنطِقِ بالتَّعلُّمِ، ليس مِنه حَرْفٌ مِن حُروفِ مُعجَمِه، ولا اسمٌ مِن أنْواعِ أسْمائِه إلَّا وهو مَرْويٌّ مُتعلَّمٌ مَأخوذٌ عن إمامٍ سابِقٍ مِن كَلامٍ أو كَتابٍ، وذلك دَليلٌ على أنَّ النَّاسَ لم يَبْتدِعوا أصولَها، ولم يَأتِهم عِلمُها إلَّا مِن قِبَلِ العَليمِ الحَكيمِ.
فإذا خَرَجَ النَّاسُ مِن أن يكونَ لهم عَمَلٌ أصيلٌ وأن يَقولوا قَوْلًا بَديعًا، فلْيَعلَمِ الواصِفونَ المُخبِرونَ أنَّ أحَدَهم -وإن أحْسَنَ وأبْلَغَ- ليس زائِدًا على أن يكونَ كصاحِبِ فُصوصٍ وَجَدَ ياقوتًا وزَبَرْجَدًا ومَرْجانًا، فنَظَمَه قَلائِدَ وسُموطًا وأكاليلَ، ووَضَعَ كلَّ فَصٍّ مَوضِعَه، وجَمَعَ إلى كلِّ لَوْنٍ شِبْهَه، وما يَزيدُه بذلك حُسْنًا، فسُمِّيَ بذلك صانِعًا رَفيقًا، وكصاغةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ صَنَعوا مِنها ما يُعجِبُ النَّاسَ مِن الحَليِ والآنيةِ، وكالنَّحْلِ وَجَدَتْ ثَمَراتٍ أخْرَجَها اللهُ طَيِّبةً، وسَلَكَتْ سُبُلًا جَعَلَها اللهُ ذُلُلًا، فصارَ ذلك شِفاءً وطَعامًا وشَرابًا مَنْسوبًا إليها، مَذْكورًا به أمْرُها وصَنعتُها.
فمَن جَرى على لِسانِه كَلامٌ يَسْتَحْسِنُه أو يُسْتَحسَنُ مِنه، فلا يَعْجَبَنَّ إعْجابَ المُخْترِعِ المُبْتدِعِ؛ فإنَّه إنَّما اجْتَناه كما وَصَفْنا، ومَن أخَذَ كَلامًا حَسَنًا عن غيْرِه فتَكلَّمَ به في مَوضِعِه وعلى وَجْهِه، فلا تَرَيَنَّ عليه في ذلك ضُؤولةً؛ فإنَّ مَن أُعينَ على حِفْظِ كَلامِ المُصيبينَ، وهُدِيَ للاقْتِداءِ بالصَّالِحينَ، ووُفِّقَ للأخْذِ عن الحُكماءِ، فلا عليه أن لا يَزْدادَ؛ فقدْ بَلَغَ الغايةَ، وليس بناقِصِه في رَأيِه ولا غامِطِه مِن حَقِّه أن لا يكونَ هو اسْتَحدَثَ ذلك، وسَبَقَ إليه)
[660] ((الأدب الصغير)) لابن المقفع (ص: 21). .
الجاحِظُ:يُعَدُّ
أبو عُثْمانَ عَمْرُو بنُ بَحْرٍ الجاحِظُ (163ه - 255ه) رأسَ الكُتَّابِ العبَّاسيِّينَ بلا مُنازِعٍ أو مُدافِعٍ، وقد نَشَأَ في البَصْرةِ فَقيرًا حائِرًا، كانَ يَبيعُ الخُبْزَ والسَّمَكَ بسيحانَ، ثُمَّ إنَّه انْصَرَفَ إلى العِلمِ والأدَبِ، فتَتَلْمَذَ على الأصْمَعيِّ وأبي زيدٍ اللُّغويِّ وأبي عُبَيْدةَ مَعْمَرِ بنِ المُثَنَّى، وأخَذَ النَّحْوَ عن الأخْفَشِ صَديقِه، كما أنَّه أدْمَنَ الذَّهابَ إلى سوقِ المِربَدِ للاسْتِماعِ للخُطَباءِ والشُّعَراءِ هنالِك.
وقد أدْمَنَ مُطالَعةَ الكُتُبِ، حتَّى إنَّه كانَ يَكْتري دَكاكينَ الوَرَّاقينَ ليَبيتَ فيها للمُطالَعةِ، وقد كانَ
الجاحِظُ تَلقَّى مَبادِئَ الاعْتِزالِ عن النَّظَّامِ، إلَّا أنَّه انْفَرَدَ بمَبادِئَ في التَّوْحيدِ جَعَلَتْه يَخْتصُّ بفِرْقةٍ مِن
المُعْتزِلةِ تُعرَفُ بالجاحِظيَّةِ.
وقد بَلَغَ
الجاحِظُ الغايةَ في الكِتابةِ والأدَبِ والاطِّلاعِ على الثَّقافاتِ والتَّشَرُّبِ بها، حتَّى إنَّ ثابِتَ بنَ قُرَّةَ قالَ: (ما أحْسُدُ هذه الأمَّةَ العَربيَّةَ إلَّا على ثَلاثةٍ: أوَّلُهم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ في سِياستِه ويَقَظتِه، والثَّاني:
الحَسَنُ البَصْريُّ؛ فلقد كانَ مِن دَراريِّ النُّجومِ عِلمًا وتَقْوى، والثَّالِثُ:
أبو عُثْمانَ الجاحِظُ، خَطيبُ المُسلِمينَ وشَيْخُ المُتَكلِّمينَ، ومِدْرَهُ المُتَقدِّمينَ والمُتأخِّرينَ، إن تَكَلَّمَ حَكى سَحْبانَ
البَلاغةِ، وإن ناظَرَ ضارَعَ النَّظَّامَ في الجَدَلِ، وإن جَدَّ خَرَجَ في مَسْكِ عامِرِ بنِ عبْدِ القَيْسِ، وإن هَزِلَ زادَ على مَزيدٍ؛ حَبيبُ القُلوبِ ومَراحُ الأرْواحِ وشَيْخُ الأدَبِ ولِسانُ العَربِ، كُتُبُه رِياضٌ زاهِرةٌ، ورَسائِلُه أفْنانٌ مُثْمِرةٌ، الخُلَفاءُ تَعرِفُه، والأُمَراءُ تَصِفُه وتُنادِمُه، والعُلَماءُ تَأخُذُ عنه، والخاصَّةُ تُسلِّمُ له، والعامَّةُ تُحبُّه، جَمَعَ بَيْنَ اللِّسانِ والقَلَمِ، وبَيْنَ الفِطْنةِ والعِلمِ، وبَيْنَ الرَّأيِ والأدَبِ، وبَيْنَ النَّثْرِ والنَّظْمِ، والذَّكاءِ والفَهْمِ، طالَ عُمرُه وفَشَتْ حِكْمتُه وظَهَرَتْ خَلَّتُه، ووَطِئَ الرِّجالُ عَقِبَه، وتَهادَوا أرَبَه، وافْتَخَروا بالانْتِسابِ إليه، ونَجَحوا بالاقْتِداءِ به، لقد أُوتيَ الحِكْمةَ وفَصْلَ الخِطابِ)
[661] ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (5/2113). .
وكانَ ابنُ العَميدِ يقولُ: (ثَلاثةُ عُلومٍ النَّاسُ كلُّها عِيالٌ فيها على ثَلاثةٍ: أمَّا الفِقْهُ فعلى
أبي حَنيفةَ، وأمَّا الكَلامُ فعلى أبي الهُذَيلِ، وأمَّا
البَلاغةُ والفَصاحةُ واللَّسَنُ والعارِضةُ فعلى
أبي عُثْمانَ الجاحِظِ).
وقد ألَّفَ
الجاحِظُ كِتابَه "البَيانَ والتَّبْيينَ"، وهو أوَّلُ كِتابٍ ظَهَرَ في الأدَبِ جامِعًا لفُنونٍ كَثيرةٍ مِن ضُروبِه، يَبحَثُ في فُنونِ الأدَبِ و
البَلاغةِ والنَّقْدِ واللُّغةِ، ويَأتي على ذِكْرِ الخُطَباءِ والأُدَباءِ والشُّعَراءِ والمُنْشِئينَ وآثارِهم الأدَبيَّةِ، وهو مِن أجَلِّ وَثائِقِ الأدَبِ في الجاهِليَّةِ والإسلامِ، كما يَجمَعُ آراءً كَثيرةً في أصولِ النَّقْدِ الأدَبيِّ وقَوانينِ
البَلاغةِ العَربيَّةِ وأنْواعِها وعَناصِرِها، ومَذاهِبِها واتِّجاهاتِها وأثَرِها.
والنَّاظِرُ في كِتاباتِ
الجاحِظِ يَرى مَذهَبَه الأدَبيَّ مُتَمثِّلًا في سِحْرِ اللَّفْظِ وتَلاؤُمِ الحُروفِ، معَ وُضوحِ المَعاني، وتَرْكِ التَّكلُّفِ والتَّعْقيدِ والإغْرابِ والوَحْشيَّةِ والسُّوقيَّةِ، ومُراعاةِ المَقامِ وإصابةِ الغايةِ، معَ الحَذْقِ والرِّفْقِ والتَّخَلُّصِ إلى حَبَّاتِ القُلوبِ، وإصابةِ عُيونِ المَعاني في سِحْرٍ وإيجازٍ، ومعَ البُعْدِ عمَّا يُكرَهُ مِن مَظاهِرَ مَذْمومةٍ في البَيانِ ممَّا يَتعلَّقُ بخُلُقِ البَليغِ وطَبْعِه وزِيِّه.
معَ الحِرْصِ على صَبغِ ذلك كلِّه بصِبْغةِ الرَّجُلِ وأسلوبِه، وظُهورِ شَخْصيَّتِه، ومُسايَرةِ الأدَيبِ للحَرَكةِ الفِكْريَّةِ العامَّةِ في بيئتِه، معَ الحِرْصِ على إيثارِ نَشاطِ السَّامِعينَ والقُرَّاءِ بالفُكاهةِ والاسْتِطرادِ، وبَراعةِ الأسلوبِ، والرِّوايةِ الكَثيرةِ لأعْلامِ الأدَبِ والبَيانِ، وبمُناقشةِ الآراءِ الَّتي تَسْتحِقُّ المُناقَشةَ والنَّقْدَ.
ويَظهَرُ لك عِنْدَ مُطالَعةِ كُتُبِ
الجاحِظِ أنَّه يَعرِضُ تحتَ بَصَرِك جَميعَ ألْوانِ الثَّقافةِ الَّتي عاصَرَتْه مِن هِنْديَّةٍ وفارِسيَّةٍ ويونانيَّةٍ وعَربيَّةٍ، وهو يَجمَعُ ذلك في شَكْلٍ مُشعَثٍ؛ إذ بيْنَما تَراه يَتَحدَّثُ إليك عن حَديثٍ شَريفٍ أو آيةٍ قُرآنيَّةٍ، إذا هو يَتَحدَّثُ عن حِكْمةٍ يونانيَّةٍ، وبَيْنَما يُحدِّثُك عن زَرادُشْت والمانَويَّةِ، إذا هو يُحَدِّثُك عن الإسلامِ والنُّبوَّةِ، وبَيْنَما يُحدِّثُك عن العَربِ وشِعْرِهم إذا هو يُحدِّثُك عن نَظريَّةِ الكُمونِ عنْدَ
المُعْتزِلةِ، أو عن نَظَريَّتِه في أنَّ المَعارِفَ طِباعٌ، وحتَّى هو إن كَتَبَ في البَيانِ عنْدَ العَربِ تَجِدُه يَبحَثُ لك عن رَأيِ الهِنْدِ واليونانِ والفُرْسِ في
البَلاغةِ.
وقد كَتَبَ
الجاحِظُ في جَميعِ أمورِ الحَياةِ؛ في النَّباتِ وفي الشَّجَرِ، وفي الحَيَوانِ وفي الإنْسانِ، وفي المَعادِ والمَعاشِ، وفي الجِدِّ والهَزْلِ، وفي التُّرْكِ والسُّودانِ، وفي المُعلِّمينَ والقِيَانِ، وفي الجَوارِي والغِلْمانِ، وفي العِشْقِ والنِّساءِ، وفي النَّبيذِ، وفي الشِّيعةِ والعبَّاسيَّةِ، وفي الزَّيْديَّةِ والرَّافِضةِ، وفي الرَّدِّ على النَّصارى، وفي حُجَجِ النُّبوَّةِ ونَظْمِ القُرآنِ، وفي البَيانِ والتَّبْيينِ، وفي حِيَلِ لُصوصِ النَّهارِ وحِيَلِ سُرَّاقِ اللَّيلِ، وفي البُخَلاءِ، واحْتِجاجِ الأشِحَّاءِ.
وهذا يَدُلُّ على أنَّ
الجاحِظَ خَطا بالكِتابةِ الفَنِّيَّةِ عنْدَ العَربِ خُطوةً جَديدةً نَحْوَ التَّعْبيرِ عن جَميعِ المَوْضوعاتِ في خِلابةٍ وبَيانٍ عَذْبٍ؛ إذ لم تكنِ الكِتابةُ الأدَبيَّةُ عنْدَه مُجرَّدَ ألْفاظٍ تُرصَفُ، وإنَّما مَعانٍ تُنسَّقُ في مَوْضوعٍ خاصٍّ ممَّا يَتَّصِلُ بالطَّبيعةِ أو بالإنْسانِ، وكانَ لذلك صِبْغتُه الخاصَّةُ في كِتابتِه، فإنَّها كِتابةٌ ذاتُ مَوْضوعٍ قَبْلَ أن تكونَ ذاتَ أسلوبٍ
[662] يُنظر: ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 154)، ((الأدب العربي وتاريخه في العَصْر الأموي والعباسي)) لمُحمَّد عبد المنعم خفاجي (2/334). .
ومِن أبْلَغِ كَلامِه: (ومتى شاكَلَ -أبْقاك اللهُ- ذلك اللَّفْظُ مَعْناه، وأعْرَبَ عن فَحْواه، وكانَ لتلك الحالِ وَفقًا، ولذلك القَدْرِ لَفْقًا، وخَرَجَ مِن سَماجةِ الاسْتِكراهِ، وسَلِمَ مِن فَسادِ التَّكلُّفِ، كانَ قَمينًا بحُسْنِ المَوْقِعِ، وبانْتِفاعِ المُستَمِعِ، وأجْدَرَ أن يَمنَعَ جانِبَه مِن تَناوُلِ الطَّاعِنينَ، ويَحميَ عِرْضَه مِن اعْتِراضِ العائِبينَ، وألَّا تَزالَ القُلوبُ به مَعْمورةً، والصُّدورُ مَأهولةً.
ومتى كانَ اللَّفْظُ أيضًا كَريمًا في نفْسِه، مُتَخَيَّرًا مِن جِنْسِه، وكانَ سَليمًا مِن الفُضولِ، بَريئًا مِن التَّعْقيدِ، حُبِّبَ إلى النُّفوسِ، واتَّصَلَ بالأذْهانِ، والْتَحَمَ بالعُقولِ، وهَشَّتْ إليه الأسْماعُ، وارْتاحَتْ له القُلوبُ، وخَفَّ على ألْسُنِ الرُّواةِ، وشاعَ في الآفاقِ ذِكْرُه، وعَظُمَ في النَّاسِ خَطَرُه، وصارَ ذلك مادَّةً للعالِمِ الرَّئيسِ، ورِياضةً للمُتعلِّمِ الرَّيِّضِ، فإن أرادَ صاحِبُ الكَلامِ صَلاحَ شأنِ العامَّةِ، ومَصْلحةَ حالِ الخاصَّةِ، وكانَ ممَّن يَعُمُّ ولا يَخُصُّ، ويَنصَحُ ولا يَغُشُّ، وكان مَشْغوفًا بأهْلِ الجَماعةِ، شَنِفًا لأهْلِ الاخْتِلافِ والفُرْقةِ؛ جُمِعَتْ له الحُظوظُ مِن أقْطارِها، وسيقَتْ إليه القُلوبُ بأزِمَّتِها، وجُمِعَتْ النُّفوسُ المُخْتلِفةُ الأهْواءِ على مَحَبَّتِه، وجُبِلَتْ على تَصويبِ إرادتِه.
ومَن أعارَه اللهُ مِن مَعونتِه نَصيبًا، وأفْرَغَ عليه مِن مَحبَّتِه ذَنوبًا، جُلِبَتْ إليه المَعاني، وسَلِسَ له النِّظامُ، وكانَ قد أعْفى المُسْتمِعَ مِن كَدِّ التَّكلُّفِ، وأراحَ قارِئَ الكِتابِ مِن عِلاجِ التَّفهُّمِ)
[663] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (2/ 7). .
أنْواعُ الرَّسائِلِ:تَعدَّدَتْ أنْواعُ الرَّسائِلِ في هذا العَصْرِ واخْتَلَفَتْ صُوَرُها نَظَرًا لاخْتِلافِ طَبيعةِ المُرسِلِ والمَرسَلِ إليه، ولاخْتِلافِ المَقْصودِ مِن تلك الرِّسالةِ، ولاخْتِلافِ نَمَطِ اللُّغةِ الَّتي كُتِبَتْ بها، فجاءَتِ الرَّسائِلُ أنْواعًا على النَّحْوِ التَّالي:
الرَّسائِلُ الدِّيوانيَّةُ:عَرَفَ العَصْرُ العبَّاسيُّ ألْوانًا مِن الاسْتِقرارِ والنِّظامِ الإدارِيِّ لتَدْبيرِ شُؤونِ الخِلافةِ؛ حيثُ رَتَّبَ الخُلَفاءُ دَواوينَ لسائِرِ أمورِ الإدارةِ؛ كدَواوينِ الجَيْشِ والخَراجِ والنَّفَقاتِ والحُروبِ والرَّسائِلِ ونَحْوِها، وكانَ لكلِّ وِلايةٍ دَواوينُها، فأدَّى ذلك إلى انْتِشارِ الكِتابةِ، وتَنافُسِ الكُتَّابِ على أن يَنالوا وَظيفةَ الكِتابةِ في تلك الدَّواوينِ، وكلَّما كانَ أسلوبُ الكاتِبِ وثَقافتُه أرْقى رَفَعَه ذلك في الدِّيوانِ حتَّى يَصيرَ رَئيسًا للدِّيوانِ أو وَزيرًا للوالي والأميرِ، ورُبَّما يَصِلُ به الأمْرُ إلى أن يُصبِحَ وَزيرًا للخَليفةِ، أو رُبَّما انْفَرَدَ بحُكْمِ قُطْرٍ مِن الأقْطارِ الإسلاميَّةِ.
وقد تَطَلَّبَتِ الكِتابةُ في الدَّواوينِ أن يكونَ الكاتِبُ مُلِمًّا بالثَّقافاتِ المُخْتلِفةِ، عالِمًا بآدابِ الخِلافةِ وما يَليقُ بالخُلَفاءِ وما لا يَليقُ، مُتقِنًا لعُلومِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ وخاصَّةً الفِقْهَ؛ إذ تُلْجِئُه الكِتابةُ في الخَراجِ ونَحْوِه إلى مَعْرفةِ الأحْكامِ الشَّرْعيَّةِ، كما أنَّه يَجِبُ عليهم أن يَنهَلوا مِن الفَلْسفةِ والمَنطِقِ ليَدْعَموا عُقولَهم، ويُحْسِنوا وَسائِلَ الإقْناعِ والتَّعْبيرِ، فَضْلًا عن اشْتِراطِ البَساطةِ ووُضوحِ الألْفاظِ والمَعاني في الكَلِماتِ؛ إذ يُوجَّهُ كَلامُهم إلى الرَّعيَّةِ، ولا بدَّ أن يَتَّسِمَ بالجَمالِ الفَنِّيِّ ومُراعاةِ فُنونِ
البَلاغةِ؛ لأنَّه يَكتُبُ عن الخُلَفاءِ والأُمَراءِ والوُزَراءِ
[664] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (3/ 465). .
ومَن يَنظُرْ نَظْرةً عامَّةً في مَوْضوعاتِ الرَّسائِلِ الدِّيوانيَّةِ لِهذا العَصْرِ يُلاحِظْ أنَّها كانت تَتَناوَلُ تَصْريفَ أعْمالِ الدَّوْلةِ، وما يَتَّصِلُ بها مِن تَوْليةِ الوُلاةِ، وأخْذِ البَيْعةِ للخُلَفاءِ ووُلاةِ العُهودِ، ومِن الفُتوحِ والجِهادِ، ومَواسِمِ الحَجِّ والأعْيادِ، والأمانِ وأخْبارِ الوِلاياتِ وأحْوالِها في المَطَرِ والخِصْبِ والجَدْبِ، وعُهودِ الخُلَفاءِ لأبْنائِهم، ووَصاياهم ووَصايا الوُزَراءِ والحُكَّامِ في تَدْبيرِ السِّياسةِ والحُكْمِ، وأيضًا فإنَّها أخَذَتْ تَتَناوَلُ بعضَ الأغْراضِ الَّتي كانَ يَتَناوَلُها الشِّعْرُ مِن تَهْنِئاتٍ وتَعْزياتٍ وشُكْرٍ.
ومِن تلك الرَّسائِلِ:رِسالةُ أحْمَدَ بنِ يوسُفَ (رِسالةُ الخَميسِ [665] رسالةُ الخميسِ: هي رسالةٌ كان يكتُبُها أبلَغُ كاتبٍ في الدَّولةِ، في عَهدِ كُلِّ خَليفةٍ من أوائِلِ الخُلَفاءِ العبَّاسيِّينَ، في تأييدِ الدَّعوةِ العبَّاسيَّةِ عامَّةً، وأنَّ أَولى النَّاسِ بولايةِ خِلافِة رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنو العَبَّاسِ عَمِّه ووارِثِه مِن بَعْدِه، وفى تأييدِ الخَليفةِ الحاضِرِ خاصَّةً، والإشادةِ بذِكْرِه، وتَعْدادِ مَناقِبِه ومآثِرِه، وأنَّه أَولى أهلِ بَيْتِه بالخِلافةِ، وكانوا يَبْعَثون بهذه الرِّسالةِ إلى خُراسانَ فتُتلى على أهلِها، ويحشِدونَهم لسَماعِها، تفخيمًا لشأنِ الخَليفةِ لديهم، وتجديدًا لولائِهم لبني العبَّاسِ واستدامتِهم على التشَيُّعِ لهم. الَّتي كَتَبَها للمَأمونِ، وكانت تُقرَأُ بخُراسانَ على شيعةِ بَني العَبَّاسِ، وهي:(مِن
عبْدِ اللهِ الإمامِ المَأمونِ أميرِ المُؤْمِنينَ، إلى المُبايِعينَ على الحَقِّ، والنَّاصِرينَ للدِّينِ، مِن أهْلِ خُراسانَ وغيْرِهم مِن أهْلِ الإسلامِ.
سَلامٌ عليكم، فإنَّ أميرَ المُؤْمِنينَ يَحمَدُ إليكم اللهَ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، ويَسألُه أن يُصَلِّيَ على مُحمَّدٍ عبْدِه ورَسولِه، أمَّا بَعْدُ؛ فالحَمْدُ للهِ القادِرِ القاهِرِ، الباعِثِ الوارِثِ، ذي العِزِّ والسُّلْطانِ، والنُّورِ والبُرْهانِ، فاطِرِ السَّمواتِ والأرْضِ وما بيْنَهما، والمُتَقدِّمِ بالمَنِّ والطَّوْلِ على أهْلِهما قَبْلَ اسْتِحقاقِهم لمَثوبتِه، بالمُحافَظةِ على شَرائِعِ طاعتِه، الَّذي جَعَلَ ما أوْدَعَ عِبادَه مِن نِعْمتِه دَليلًا هاديًا لهم إلى مَعْرفتِه بما أفادَهم مِن الألْبابِ الَّتي يَفهَمونَ بها فَصْلَ الخِطابِ، حتَّى أُقيموا على مَوارِدِ الاخْتِبارِ، وتَعقَّبوا مَصادِرَ الاعْتِبارِ، وحَكَموا على ما بَطَنَ بما ظَهَرَ، وعلى ما غابَ بما حَضَرَ، واسْتَدلُّوا بما أراهم مِن بالِغِ حِكْمتِه، ومُتقَنِ صَنْعتِه، وحاجةِ مُتَزايِلِ خَلْقِه ومُتَواصِلِه إلى القَوْمِ بما يُلمُّه ويُصلِحُه، على أنَّ له بارِئًا هو أنْشَأَه وابْتَدَأَه، ويَسَّرَ بعضَه لبعضٍ، فكانَ أقْرَبُ وُجودِهم ما يُباشِرونَ مِن أنْفُسِهم في تَصَرُّفِ أحْوالِهم، وفُنونِ انْتِقالِهم، وما يَظهَرونَ عليه مِن العَجْزِ عن التَّأتِّي لِما تَكامَلَتْ به قُواهم، وتَمَّتْ به أدَواتُهم، معَ أثَرِ تَدْبيرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وتَقْديرِه فيهم، حتَّى صاروا إلى الخِلْقةِ المُحْكَمةِ، والصُّورةِ المُعجِبةِ، ليس لهم في شيءٍ مِنها تَلَطُّفٌ يَتَيمَّمُونَه، ولا مَقصَدٍ يَعْتمدونَه مِن أنْفُسِهم؛ فإنَّه قالَ تعالى ذِكْرُه
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6 - 8].
ثُمَّ ما يَتَفكَّرونَ فيه مِن خَلْقِ السَّمواتِ، وما يَجْري فيها مِن الشَّمْسِ والقَمَرِ والنُّجومِ مُسخَّراتٍ، على مَسيرٍ لا يَثبُتُ العالَمُ إلَّا به؛ مِن تَصاريفِ الأزْمنةِ الَّتي بها صَلاحُ الحَرْثِ والنَّسْلِ، وإحْياءِ الأرْضِ، ولَقاحِ النَّباتِ والأشْجارِ، وتَعاوُرِ اللَّيلِ والنَّهارِ، ومَرِّ الأيَّامِ والشُّهورِ والسِّنينَ الَّتي تُحْصى بها الأوْقاتُ، ثُمَّ ما يوجَدُ مِن دَلائِلِ التَّرْكيبِ في طَبَقاتِ السَّقْفِ المَرْفوعِ، والمِهادِ المَوْضوعِ، باخْتِلافِ أجْزائِه والْتِئامِها، وخَرْقِ الأنْهارِ، وإرْساءِ الجِبالِ، ومِن البَيانِ الشَّاهِدِ على ما أخْبَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ به مِن إنْشائِه الخَلْقَ وحُدوثِه بَعْدَ أن لم يكنْ، مُترَقِّيًا في النَّماءِ، وثَباتِه إلى أجَلِه في البَقاءِ، ثُمَّ مَحارِه مُنْقضيًا إلى غايةِ الفَناءِ، ولو لم يكنْ له مُفتَتَحُ عَدَدٍ، ولا مُنْقطَعُ أمَدٍ، ما ازدادَ بنُشوءٍ، ولا تَحَيَّفَه نُقْصانٌ، ولا تَفاوَتَ على الأزْمانِ، ثُمَّ ما يوجَدُ عليه مَنْفعتُه مِن ثَباتِ بعضِه لبعضٍ، وقِوامِ كُلِّ شيءٍ مِنه بما يُسِّرَ له، في بَدءِ اسْتِمْدادِه إلى مُنْتهى نَفادِه، كما احْتَجَّ اللهُ عزَّ وجَلَّ على خَلْقِه، فقالَ:
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 67] ، وقالَ عَزَّ وجَلَّ:
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27].
وكلُّ ما تَقدَّمَ مِن الأخْبارِ عن آياتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ودَلالاتِه في سَماواتِه الَّتي بَنى، وأطْباقِ الأرْضِ الَّتي دَحا، وآثارِ صُنْعِه فيما بَرَأَ وذَرَأَ- ثابِتٌ في فِطَرِ العُقولِ، حتَّى يَستَجِرَّ أُولي الزَّيْغِ ما يُدخِلون على أنْفُسِهم مِن الشُّبْهةِ فيما يَجْعلونَ له مِن الأضْدادِ والأنْدادِ، جَلَّ عمَّا يُشرِكون، ولولا تَوحُّدُه بالتَّدْبيرِ عن كلِّ مُعينٍ وظَهيرٍ، لكانَ الشُّرَكاءُ جُدَراءَ أن تَخْتلِفَ بهم إرادتُهم فيما يَخْلُقونَ، ولم يكنِ التَّخلُّفُ فيه مِن إثْباتِه وإزالتِه ليَخْلوَ مِن أحَدِ وَجْهَيه، وأيُّهما كانَ فيه فالعَجْزُ والنَّقْصُ ممَّا أتاه وبَرَأَه، جَلَّ البَديعُ خالِقُ الخَلْقِ ومالِكُ الأمْرِ عن ذلك، وتعالى عُلُوًّا كَبيرًا، كما قالَ سُبْحانَه:
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المُؤْمِنون: 91].
ثُمَّ مِن عَظيمِ نِعْمةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ على خَلْقِه افْتِقادُه إيَّاهم، ثُمَّ يُسدِّدُهم ويَدُلُّهم على مَنافِعِهم، ويُجنِّبُهم مَضارَّهم، ويَهْديهم لِما فيه صَلاحُهم، ويُرغِّبُهم في المُحافَظةِ على التَّمَسُّكِ بدينِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ الَّذي جَعَلَه عِصْمةً لهم، وحاجِزًا بيْنَهم.
ولولا ما تَقَدَّمَ به مِن تَلافيهم واسْتِدْراكِهم بفَضْلِ رَحمتِه لاجْتاحَهم التَّلَفُ؛ لقُصورِ مَعْرفتِهم عن التَّأتِّي لأقْواتِهم ومَعايِشِهم، ولم يكونوا ليَقْتصِروا على حُظوظِهم وأقْسامِهم عمَّا بَنَوا عليه مِن الجَمْعِ والرَّغْبةِ، ولَتَهالكوا ببَغْيِ بعضِهم على بعضٍ، وعُدْوانِ قَوِيِّهم على ضَعيفِهم، ولكنَّه بَعْدَ تَعْريفِه إيَّاهم مُلْكَ قُدْرتِه، وجَلالةَ عِزَّتِه، بَعَثَ إليهم أنْبِياءَه ورُسُلَه مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ بالآياتِ الَّتي لا تَنالُها أيْدي المَخْلوقينَ، فرَضُوا بما قَسَطَ بيْنَهم، وارْتَدَعوا عن التَّباغي والتَّظالُمِ؛ لِما وُعِدوا مِن الثَّوابِ الجَسيمِ، وخُوِّفوا مِن العِقابِ الأليمِ، ولم يَكونوا ليُطيعوا أمْرًا لآمِرٍ، ولا نَهْيًا لناهٍ إلَّا بحُجَّةٍ يَتَبيَّنُ بها الحَقُّ لمَن خالَفَه مِن المُبْطِلينَ، وتَخْويفٍ يَتَّقونَ به مُقارَفةَ ما حُرِّمَ عليهم، ورَجاءٍ يَتَجشَّمونَ له مَؤونةَ ما تَعبَّدوا به، فافْتَتَحَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بأبيهم آدَمَ عليه السَّلامُ، فعَلَّمَه الأسْماءَ كلَّها، وأمَرَ المَلائِكةَ بالسُّجودِ له -كما اقْتَصَّ في وَحْيِه المُنزَلِ- وكَرَّمَ وَلَدَه وفَضَّلَهم، فقالَ جَلَّ وعَزَّ:
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطّيِّباتِ وجَعَلَ ما فَطَرَهم عليه مِن العَطْفِ على ذراريِّهم وأبْنائِهم سَبَبًا لِما أرادَ مِن بَقائِهم وتَناسُلِهم، وما اخْتَصَّهم به مِن العِلمِ والفَهْمِ حُجَّةً عليهم؛ ليَمْتحِنَ طاعتَهم، ويَبْلُوَهم أيُّهُم أحْسَنُ عَمَلًا ...) [666] ((جمهرة رسائل العرب)) لأحمد زكي صفوت (3/317). .ورِسالةُ إسْماعيلَ بنِ صَبيحٍ الَّتي كَتَبَها عن الرَّشيدِ إلى عُمَّالِه بشأنِ البَيْعةِ لابنَيه الأمينِ والمَأمونِ: (بِسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ: أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّ اللهَ وَليُّ أميرِ المُؤْمِنينَ ووَليُّ ما وَلَّاه، والحافِظُ لما اسْتَرْعاه وأكْرَمَه به مِن خِلافتِه وسُلْطانِه، والصَّانِعُ له فيما قَدَّمَ وأخَّرَ مِن أمورِه، والمُنْعِمُ عليه بالنَّصْرِ والتَّأييدِ في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها، والكالِئُ والحافِظُ والكافي مِن جَميعِ خَلْقِه، وهو المَحْمودُ على جَميعِ آلائِه، المَسْؤولُ تَمامَ حُسْنِ ما أمْضى مِن قَضائِه لأميرِ المُؤْمِنينَ، وعادتِه الجَميلةِ عِنْدَه، وإلْهامِ ما يَرْضى به، ويُوجِبُ له عليه أحْسَنَ المَزيدِ مِن فَضْلِه.
وقدْ كانَ مِن نِعْمةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ عِنْدَ أميرِ المُؤْمِنينَ وعِنْدَك وعِنْدَ عَوامِّ المُسلِمينَ ما تَوَلَّى اللهُ مِن مُحمَّدٍ وعبْدِ اللهِ ابنَي أميرِ المُؤْمِنينَ مِن تَبْليغِه بهما أحْسَنَ ما أمَّلَتِ الأمَّةُ ومَدَّتْ إليه أعْناقَها، وقَذَفَ اللهُ لهما في قُلوبِ العامَّةِ مِن المَحبَّةِ والمَودَّةِ والسُّكونِ إليهما، والثِّقةِ بهما لعِمادِ دينِهم، وقَوامِ أمورِهم، وجَمْعِ أُلْفتِهم، وصَلاحِ دَهْمائِهم، ودَفْعِ المَحْذورِ والمَكْروهِ مِن الشَّتاتِ والفُرْقةِ عنهم، حتَّى ألْقَوا إليهما أزِمَّتَهم، وأعْطَوهما بَيْعتَهم وصَفَقاتِ أيْمانِهم بالعُهودِ والمَواثيقِ، ووَكيدِ
الأيْمانِ المُغلَّظةِ عليهم، أرادَ اللهُ فلم يكنْ له مَرَدٌّ، وأمْضاه فلم يَقدِرْ أحَدٌ مِن العِبادِ على نَقْضِه ولا إزالتِه، ولا على صَرْفٍ له عن مَحبَّتِه ومَشيئتِه، وما سَبَقَ في عِلمِه مِنه، وأميرُ المُؤْمِنينَ يَرْجو تَمامَ النِّعْمةِ عليه وعليهما في ذلك وعلى الأمَّةِ كافَّةً، لا عاقِبَ لأمْرِ اللهِ ولا رَادَّ لقَضائِه ولا مُعقِّبَ لحُكْمِه)
[667] ((المقتطف من أزاهر الطرف)) لابن سعيد المغربي (1/ 82)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (3/ 477). .
الرَّسائِلُ الإخْوانيَّةُ: هي تلك الرَّسائِلُ الَّتي يُرْسِلُها الإنْسانُ إلى إخْوانِه وأصْدقائِه وأهْلِه وذَويه، يُعبِّرُ فيها عن اشْتِياقِه إليهم، أو مَحَبَّتِه لهم، ورُبَّما جاءَ فيها مَدْحٌ أو وَصْفٌ، أو رِثاءٌ أو تَهْنِئةٌ، أو عِتابٌ أو اعْتِذارٌ، أو اسْتِعطافٌ أو نَحْوُ ذلك، مِن غيْرِ أن يَتَكلَّفَ الكاتِبُ شيئًا مِن شُروطِ الكِتابةِ والنَّمَطيَّةِ والانْقِباضِ والتَّعامُلِ الرَّسْميِّ بَيْنَ طَرَفيِ الرِّسالةِ كما في الرَّسائِلِ الدِّيوانيَّةِ.
ومِن هذه الرَّسائِلِ: رِسالةُ جَبَلِ بنِ يَزيدَ إلى بعضِ إخْوانِه، قالَ:(تَمَّمَ اللهُ علينا وعليك النِّعَم، وأجْزَلَ لنا ولك مَحاسِنَ صالِحِ القِسَم، إنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى أجْرى بيْنَنا وبيْنَك لَطيفَ مَودَّةٍ، وخاصَّ أُخوَّةٍ، غيْرَ أنَّ المَعْرفةَ قد تُحمَدُ بَعْدَ الخِبرةِ، والثِّقةَ إنَّما تُعرَفُ بَعْدَ التَّجْرِبةِ، وقد أحْبَبْتُ أن يَعلَمَ مَن قِبَلَك الَّذي أحْدَثَ اللهُ لك مِن حالِ دَوْلتِك، وأن يَعلَمَ: هل أبْقَتْ لنا مِنك النِّعْمةُ سَعةً، أم تَرَكَتْ لنا مِنك صَفْحةً نَعرِفُ بها عَهْدَك، ونَأمُلُ بها وَصْلَك؛ فإنَّ أصْحابَ السُّلْطانِ بحالِ بَلْوى في التَّغيُّرِ والانْتِقالِ، إلَّا مَن نالَتْه مِن اللهِ تَبارَكَ وتعالى عِصْمةٌ، فإن كنْتَ على ما رَجَوْنا مِن الوَفاءِ، وحُسْنِ الحِفْظِ للمَودَّةِ والإخاءِ، فمِثلُك لم يَرْضَ لنَفْسِه إلَّا بأجْمَلِ الأخْلاقِ، وأوْفَقِها للسَّدادِ، وإن حَجَزَك عن ذلك ما تَأتي به الأقْدارُ في مُتَصرَّفِ اللَّيلِ والنَّهارِ، نَعذِرُك بما نَعذِرُ به أهْلَ السُّلْطانِ إذا غَيَّرَتْهم الحالُ، وتَنكَّرَت شَمائِلُهم بَيْنَ الإخْوانِ)
[668] ((جمهرة رسائل العرب في عصور العربية)) لأحمد زكي صفوت (3/ 119). .
وكِتابُ أبي مَنْصورٍ الثَّعالِبيِّ في الاشْتِياقِ: "شَوْقي إليك رَهينُ قَلْبي وقَرينُ صَدْري، والزَّعيمُ بتَعْليقِ فِكْري وتَفْريقِ صَدْري، سَميرُ ذِكْري ونَديمُ فِكْري، زادي في سَفَري وعَتادي في حَضَري، لا يَسْتقِلُّ به ولا يَقْوى عليه صَبْري، يكادُ يكونُ لِزامًا، ويُعَدُّ غَرامًا، لا يَرحَلُ مُقيمُه ولا يُصرَفُ غَريمُه، اسْتَخفَّ نَفْسي واسْتَفزَّها وحَرَّكَ جَوانحي وهَزَّها شَوقٌ أخَذَ بسَمْعِ خاطِري وبَصَرِه، وحالَ بَيْنَ مَورِدِ قَلْبِه ومَصدَرِه، شَوْقٌ قد اسْتَنْفَدَ جَلَدي ومَلَكَ خَلَدي، شَوْقٌ بَراني بَرْيَ الخِلالِ ومَحَقَني مَحْقَ الهِلالِ، شَوْقٌ تَرَكَني حَرَضًا وأوْسَعَني مَضَضًا، أراني الصَّبْرَ حَسْرةً والوَجْدَ يَمْنةً ويَسْرةً، شَوْقٌ يَزيدُ على الأيَّامِ تَوَقُّدًا وتَأجُّجًا وتَضرُّمًا وتَوهُّجًا، نارُ الشَّوْقِ حَشْوُ ضُلوعي، وماءُ الصَّبابةِ مِلْءُ جُفوني، أنا مِن لواعِجِ الشَّوقِ بَيْنَ غَمائِمَ لا تُمطِرُ إلَّا صَواعِقَ وسَمائِمَ، قد قَدَحْتَ في كَبِدِي مِن الحُرْقةِ بهذه الفُرْقةِ ما يَفوتُ أيْسَرُه حَدَّ الشِّكايةِ، ويَجوزُ أضْعَفُه كُنْهَ الكِنايةِ، شَوْقُ الرَّوْضِ الماحِلِ إلى الغَيْثِ الهاطِلِ"
[669] ((جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب)) للهاشمي (1/ 46). .
الرَّسائِلُ الأدَبيَّةُ:ظَهَرَ في العَصْرِ العبَّاسيِّ لَونٌ جَديدٌ مِن الرَّسائِلِ، تَميَّزَ بأنَّه كِتابةٌ مِن أديبٍ إلى آخَرَ، يُناقِشُه في مَسألةٍ، أو يَذكُرُ له رَأيًا في قَضيَّةٍ أدَبيَّةٍ، أو يَنقُلُ له خِبْرتَه في عَصْرٍ مِن العُصورِ، وتَتَميَّزُ تلك الرَّسائِلُ برَوْعةِ الألْفاظِ وكَثْرةِ الصُّوَرِ البَيانيَّةِ، والإكْثارِ مِن المُحَسِّناتِ البَديعيَّةِ اللَّفْظيَّةِ والمَعْنويَّةِ؛ إذ تُنبِئُ عن شَخْصيَّةِ أديبٍ كاتِبٍ بَليغٍ، ذَلَّتْ له بَلاغةُ القَلَمِ، وانْطَوَتْ جَوانِحُه على فَصاحةِ البَيانِ.
ويَتَجلَّى ذلك النَّوْعُ في كِتاباتِ ابنِ المُقَفَّعِ، ورَسائِلِ
الجاحِظِ، وهذا ما يَصِحُّ أن يُطلَقَ عليه "المَقالاتُ الأدَبيَّةُ".
فمِن تلك الرَّسائِلِ:رِسالةُ ابنِ المُقَفَّعِ عن أحَدِ إخْوانِه، كَتَبَه إلى بَعْضِ أصْدِقائِه: (إنِّي مُخْبِرُك عن صاحِبٍ لي كانَ أعْظَمَ النَّاسِ في عَيْني، وكانَ رأسَ ما عَظَّمَه في عَيْني صِغَرُ الدُّنْيا في عَيْنِه، كانَ خارِجًا مِن سُلْطانِ بَطْنِه، فلا يَتشَهَّى ما لا يَجِدُ، ولا يُكثِرُ إذا وَجَدَ، وكانَ خارِجًا مِن سُلْطانِ فَرْجِه؛ فلا يَدْعو إليه ريبةً، ولا يَستَخِفُّ له رَأيًا ولا بَدَنًا، وكانَ لا يَأشَرُ عِنْدَ نِعْمةٍ، ولا يَستَكينُ عِنْدَ مُصيبةٍ، وكانَ خارِجًا مِن سُلْطانِ لِسانِه؛ فلا يَتكلَّمُ بما لا يَعلَمُ، ولا يُماري فيما عَلِمَ، وكانَ خارِجًا مِن سُلْطانِ الجَهالةِ؛ فلا يَتقدَّمُ أبدًا إلَّا على ثِقَةٍ بمَنْفعةٍ، وكانَ أكْثَرَ دَهْرِه صامِتًا، فإذا نَطَقَ بَذَّ القائِلينَ، وكان يُرى ضَعيفًا مُسْتضعَفًا، فإذا جَدَّ الجِدُّ فهو اللَّيْثُ عادِيًا، وكانَ لا يَدخُلُ في دَعْوةٍ ولا يُشارِكُ في مِراءٍ، ولا يُدْلي بحُجَّةٍ حتَّى يَرى قاضيًا فَهِمًا، وشُهودًا عُدولًا، ولا يَلومُ أحَدًا على ما قد يكونُ العُذْرُ في مِثلِه حتَّى يَعلَمَ ما اعْتِذارُه، وكانَ لا يَشْكو وَجَعَه إلَّا إلى مَن يَرْجو عِنْدَه البُرْءَ، ولا يَسْتَشيرُ صاحِبًا إلَّا مَن يَرْجو عِنْدَه النَّصيحةَ، وكانَ لا يَتبرَّمُ ولا يَتَسخَّطُ ولا يَتَشكَّى ولا يَتَشهَّى، وكانَ لا يَنقِمُ على الوَلِيِّ، ولا يَغفُلُ عنِ العَدُوِّ، ولا يَحُضُّ نفْسَه دونَ إخْوانِه بشيءٍ مِن اهْتِمامِه وحَيلتِه وقُوَّتِه؛ فعليك بِهذه الأخْلاقِ إن أطَقْتَها -ولن تُطيقَ- ولكنَّ أخْذَ القَليلِ خَيْرٌ مِن تَرْكِ الجَميعِ)
[670] ((زهر الآداب وثمر الألباب)) لأبي إسحاق القيرواني (1/ 242)، ((جمهرة رسائل العرب في عصور العربية)) لأحمد زكي صفوت (3/ 54). .
ومِنها رِسالةُ الجاحِظِ في كَتْمِ الأسْرارِ وحِفْظِ اللِّسانِ: (أمَّا بَعْدُ؛ فإنِّي قد تَصَفَّحْتُ أخْلاقَك، وتَدَبَّرْتُ أعْراقَك، وتَأمَّلْتُ شِيَمَك، ووَزَنْتُك فعَرَفْتُ مِقْدارَك، وقَوَّمْتُك فعَلِمْتُ قيمتَك، فوَجَدْتُك قد ناهَزْتَ الكَمالَ، وأوْفيتَ على التَّمامِ، وتَوقَّلْتَ في دَرَجِ الفَضائِلِ، وكِدْتَ تكونُ مُنْقطِعَ القَرينِ، وقارَبْتَ أن تُلْفى عَديمَ النَّظيرِ، لا يَطمَعُ فَضْلٌ أن يَفوتَك، ولا يَأنَفُ شَريفٌ أن يَقصُرَ دونَك، ولا يَخشَعُ عالِمٌ أن يَأخُذَ عنك.
ووَجَدْتُك في خِلالِ ذلك على سَبيلِ تَضْييعٍ وإهْمالٍ لأمْرَينِ هما القُطْبُ الَّذي عليه مَقارُّ الفَضائِلِ، فكنْتَ أحَقَّ بالعَدْلِ وأقْمَنَ بالتَّأنيبِ ممَّن لم يَسبِقْ شأوَك، ولم يَتَسنَّمْ رُتبتَك؛ لأنَّه ليس مَلومًا على تَضْييعِ القَليلِ مَن قد أضاعَ الكَثيرَ، ولا يُسامُ إصْلاحَ يَوْمِه وتَقْويمَ ساعتِه مَن قد اسْتَحوَذَ الفَسادُ على دَهْرِه، ولا يُحاسَبُ على الزَّلَّةِ الواحِدةِ مَن لا يُعدَمُ مِنه الزَّلَلُ والعِثارُ، ولا يُنكَرُ المُنكَرُ على مَن ليس مِن أهْلِ المَعْروفِ؛ لأنَّ المُنكَرَ إذا كَثُرَ صارَ مَعْروفًا، وإذا صارَ المُنكَرُ مَعْروفًا صارَ المَعْروفُ مُنكَرًا.
وكيف يُعجَبُ ممَّن أمْرُه كُلُّه عَجَبٌ، وإنَّما الإنْكارُ والتَّعجُّبُ ممَّن خَرَجَ عن مَجْرى العادةِ، وفارَقَ السُّنَّةَ والسَّجيَّةَ، كما قالَ الأوَّلُ: خالِفْ تُذْكَرْ.
وقيلَ: الكامِلُ مَن عُدَّتْ سَقَطاتُه، وقيلَ: مَن اسْتَوى يَوْماه فهو مَغْبونٌ، ومَن كانَ يَوْمُه خَيْرًا مِن غَدِه فهو مَفْتونٌ، ومَن كانَ غَدُه خَيْرًا مِن يَوْمِه فذلك السَّعيدُ المَغْبوطُ. وفي هذا المَعنى قالَ الشَّاعِرُ:
رَأيْتُك أمْسِ خَيْرَ بَني مَعَدٍّ
وأنت اليَوْمَ خَيْرٌ مِنك أمْسِ
وأنتَ غدًا تَزيدُ الضِّعْفَ خَيْرًا
كذاك تَزيدُ سادةُ عبْدِ شَمْسِ
وقالَ آخَرُ في مَعْنٍ:أنتَ امْرُؤٌ هَمُّك المَعالي
ودَلْوُ مَعْروفِك الرَّبيعُ
وأنتَ مِن وائِلٍ صَميمٌ
كالقَلْبِ تُحْنى له الضُّلوعُ
في كلِّ عامٍ تَزيدُ خَيْرًا
يُشيعُه عنك مَن يُشيعُ
والأمْرانِ اللَّذانِ نَقِمْتُهما عليك: وَضْعُ القَوْلِ في غيْرِ مَوضِعِه، وإضاعةُ السِّرِّ بإذاعتِه.
وليس الخَطَرُ فيما أسومُك وأحاوِلُ حَمْلَك عليه بسَهْلٍ ولا يَسيرٍ، وكيف وأنا لا أعْرِفُ في دَهْري -على كَثيرِ عَدَدِ أهْلِه- رَجُلًا واحِدًا ممَّن يَنْتحِلُ الخاصَّةَ، ويُنسَبُ إلى العِلْيَةِ، ويَطلُبُ الرِّياسةَ، ويَخطُبُ السِّيادةَ، ويَتَحلَّى بالأدَبِ ويُديمُ الثَّخانةَ والزَّماتةَ، والحِلمَ والفَخامةَ، أرْضى ضَبْطَه للِسانِه، وأحْمَدُ حِياطتَه لسِرِّه، وذلك أنَّه لا شيءَ أصْعَبُ مِن مُكابَدةِ الطَّبائِعِ، ومُغالَبةِ الأهْواءِ؛ فإنَّ الدَّولةَ لم تَزَلْ للهَوى على الرَّأيِ طولَ الدَّهْرِ، والهَوى هو الدَّاعيةُ إلى إذاعةِ السِّرِّ، وإطْلاقِ اللِّسانِ بفَضْلِ القَوْلِ.
وإنَّما سُمِّيَ العَقْلُ عَقْلًا وحِجْرًا، قالَ تعالى:
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر: 5] لأنَّه يَزُمُّ اللِّسانَ ويَخطِمُه، ويُشكِلُه ويَربُثُه، ويُقيِّدُ الفَضْلَ ويَعقِلُه عن أن يَمْضيَ فُرُطًا في سَبيلِ الجَهْلِ والخَطَأِ والمَضرَّةِ، كما يُعقَلُ البَعيرُ، ويُحجَرُ على اليَتيمِ.
وإنَّما اللِّسانُ تُرْجمانُ القَلْبِ، والقَلْبُ خِزانةٌ مُستَحْفِظةٌ للخَواطِرِ والأسْرارِ، وكلُّ ما يَعيه مِن ذلك عن الحَواسِّ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، وما تُوَلِّدُه الشَّهَواتُ والأهْواءُ، وتُنتِجُه الحِكْمةُ والعِلمُ.
ومِن شأنِ الصَّدْرِ -على أنَّه ليس وِعاءً للأجْرامِ، وإنَّما يَعي بقُدْرةٍ مِن اللهِ لا يَعرِفُ العِبادُ كيف هي- أن يَضيقَ بما فيه، ويَستَثقِلَ ما حَمَلَ مِنه، فيَسْتريحَ إلى نَبْذِه، ويَلَذَّ إلْقاءَه على اللِّسانِ، ثُمَّ لا يَكادُ أن يَشفيَه أن يُخاطِبَ به نفْسَه في خَلَواتِه حتَّى يُفْضيَ به إلى غيْرِه ممَّن لا يَرْعاه ولا يَحوطُه، كلُّ ذلك ما دامَ الهَوى مُسْتولِيًا على اللِّسانِ، واسْتَعمَلَ فُضولَ النَّظَرِ فدَعَتْ إلى فُضولِ القَوْلِ.
فإذا قَهَرَ الرَّأيُ الهَوى فاسْتَوْلى على اللِّسانِ، مَنَعَه مِن تلك العادةِ، ورَدَّه عن تلك الدُّرْبةِ، وجَشَّمَه مَؤونةَ الصَّبْرِ على سَتْرِ الحِلمِ والحِكْمةِ.
ولا شيءَ أعْجَبُ مِن أنَّ المَنطِقَ أحَدُ مَواهِبِ اللهِ العِظامِ، ونِعَمِه الجِسامِ، وأنَّ صاحِبَها مَسْؤولٌ عنها، ومُحاسَبٌ على ما خُوِّلَ مِنها، أوْجَبَ اللهُ عليه اسْتِعْمالَها في ذِكْرِه وطاعتِه، والقِيامَ بقِسطِه وحُجَّتِه، ووَضْعَها مَواضِعَ النَّفْعِ في الدِّينِ والدُّنْيا، والإنْفاقَ مِنها بالمَعْروفِ لَفْظةً لَفْظةً، وصَرْفَها عن أضْدادِها.
فلم يَرْضَ الإنْسانُ أن عَطَّلَها عمَّا خُلِقَتْ له ممَّا يَنفَعُه حتَّى اسْتَعمَلَها في ضِدِّ ذلك ممَّا يَضُرُّه، فاجْتَمَعَ عليه الإثْمانِ اللَّذانِ اجْتَمَعا على صاحِبِ المالِ الَّذي كَنَزَه ومَنَعَه مِن حَقِّه، فوَجَبَ عليه إثْمُ المَنْعِ وإن كانَ لم يَصرِفْه في مَعصيةٍ، ثُمَّ صَرَفَه في أبْوابِ الباطِلِ والفِسْقِ فوَجَبَ عليه إثْمُ الإنْفاقِ فيها، وهذه غايةُ الغَبْنِ والخُسْرانِ، نَعوذُ باللهِ مِنهما.
فاللِّسانُ أداةٌ مُسْتعمَلةٌ، لا حَمْدَ له ولا ذَمَّ عليه، وإنَّما الحَمْدُ للحِلمِ، واللَّومُ على الجَهْلِ؛ فالحِلمُ هو الاسمُ الجامِعُ لكلِّ فَضْلٍ، وهو سُلْطانُ العَقْلِ القامِعُ للهَوى، فليس قَمْعُ الغَضَبِ وتَسْكينُ قُوَّةِ الشِّرَّةِ وإسْقاطُ طائِرِ الخُرْقِ بأحَقَّ بِهذا الاسمِ ولا أَولى بِهذا الرَّسْمِ مِن قَمْعِ فَرْطِ الرِّضا وغَلَبةِ الشَّهَواتِ، والمَنْعِ مِن سوءِ الفَرَحِ والبَطَرِ، ومِن سوءِ الجَزَعِ والهَلَعِ، وسُرْعةِ الحَمْدِ والذَّمِّ، وسوءِ الطَّبْعِ والجَشَعِ، وسوءِ مُناهَزةِ الفُرْصةِ، وفَرْطِ الحِرْصِ على الطَّلِبةِ، وشِدَّةِ الحَنينِ والرِّقَّةِ، وكَثْرةِ الشَّكْوى والأسَفِ، وقُرْبِ وَقْتِ الرِّضا مِن وَقْتِ السَّخَطِ، ووَقْتِ التَّسخُّطِ مِن وَقْتِ الرِّضا، ومِن اتِّفاقِ حَرَكاتِ اللِّسانِ والبَدَنِ على غيْرِ وَزْنٍ مَعْلومٍ ولا تَقْديرٍ مَوْصوفٍ، وفي غيْرِ نَفْعٍ ولا جَدْوى ...)
[671] ((الرسائل الأدبية)) للجاحظ (ص: 87). .