المَطْلَبُ السَّادِسُ: المَقاماتُ
المَقاماتُ نَوْعٌ أدَبيٌّ مِن أنْواعِ النَّثْرِ العَربيِّ، غيْرَ أنَّه وَليدُ العَصْرِ العبَّاسيِّ، لم يَعرِفْه الجاهِليُّونَ ولا أدَباءُ عَصْرِ صَدْرِ الإسْلامِ ولا العَصْرِ الأُمَوِيِّ.
ويَرجِعُ أصْلُ تلك الكَلِمةِ "المَقامة" إلى المَكانِ الَّذي يَجْتمِعُ فيه القَوْمُ يَتَحادَثونَ في أمْرٍ مِن الأمورِ، ثُمَّ تَطوَّرَتْ دَلالتُها وصارَتْ تَدُلُّ على الجَماعةِ المُجْتَمِعينَ أنْفُسِهم، وما لَبِثَتْ أن تَطوَّرَتْ كذلك فصارَتْ ما يُقالُ مِن الحَديثِ والسَّمَرِ في الاجْتِماعاتِ، وهي بِهذا تُشبِهُ الخُطْبةَ والمَوْعظةَ والمُحاضَرةَ.
ومعَ مَجيءِ الإسلامِ تَخَصَّصَتِ الكَلِمةُ بشيءٍ ما، فصارَتْ تَقْتصِرُ على الأحاديثِ والخُطَبِ الَّتي يُلْقيها الصَّالِحونَ؛ ولِهذا عَقَدَ
ابنُ قُتَيْبةَ في كِتابِه "عُيونِ الأخْبارِ" بابًا بعُنوانِ "مَقاماتِ الزُّهْدِ"، وكذا صَنَعَ ابنُ عبْدِ رَبِّه في "العِقْدِ الفَريدِ"؛ حيثُ أوْرَدَ مَجْموعةً مِن العِظاتِ تحتَ عُنوانِ: "مَقاماتِ العِبادِ عِنْدَ الخُلَفاءِ"، ومَجْموعُ ما في الكِتابَينِ مِن المَقاماتِ يَدورُ حَوْلَ الأمْرِ بالمَعْروفِ والنَّهْيِ عن المُنكَرِ
[672] يُنظر: ((الفنون الأدبية في العَصْر العباسي)) لشعبان مرسي (ص:67). .
والمَقامةُ في الأدَبِ: قِصَّةٌ تَدورُ حَوادِثُها في مَجلِسٍ واحِدٍ
[673] ينظر: ((أدباء العرب)) للبستاني (2/389). .
قالَ القَلْقَشَنْدِيُّ: (سُمِّيَتِ الأحْدوثةُ مِن الكَلامِ مَقامةً؛ لأنَّها تُذكَرُ في مَجلِسٍ واحِدٍ يَجْتمِعُ فيه الجَماعةُ مِن النَّاسِ لسَماعِها)
[674] ((صبح الأعشى)) للقلقشندي (14/124). .
وتَتَميَّزُ المَقاماتُ بحِرْصِها على التَّدْبيجِ الفَنِّيِّ والإكْثارِ مِن المُحسِّناتِ البَديعيَّةِ؛ حيثُ إنَّ الغَرَضَ المَنْشودَ مِنها إنَّما هو بَيانُ المَلَكةِ اللُّغويَّةِ، واكْتِمالُ السَّليقةِ العَربيَّةِ في التَّأليفِ والتَّنْميقِ؛ ولِهذا تَجِدُ في المَقامةِ مِن أصْنافِ المُحسِّناتِ اللَّفْظيَّةِ والمَعْنويَّةِ ما لا تَراه في الشِّعْرِ نفْسِه.
ظُهورُ فَنِّ المَقاماتِ:ظَلَّتِ "المَقاماتُ" بمَعنى الخُطَبِ والوَعْظِ حتَّى جاءَ
بَديعُ الزَّمانِ الهَمَذانيُّ،
أحْمَدُ بنُ الحُسَينِ بنِ يَحْيى بنِ سَعيدٍ، فوَضَعَ نَوْعًا فَريدًا مِن الأدَبِ، وهو عِبارةٌ عن قِطْعةٍ أدَبيَّةٍ، تَعْتمِدُ على قِصَّةٍ قَصيرةٍ، تَعْتمِدُ على الخَيالِ في تَأليفِ حَوادِثِها، وتَهتَمُّ بجانِبِ الضَّحِكِ والفُكاهةِ، معَ تَوْجيهِ النَّقْدِ اللَّاذِعِ لطَبَقاتِ المُجْتمَعِ.
كَتَبَ
بَديعُ الزَّمانِ اثْنَتَينِ وخَمْسينَ مَقامةً، جَعَلَها في مَوْضوعاتٍ شَتَّى، مِنها الوَعْظُ والنَّقْدُ والوَصْفُ والمَدْحُ، وأكْثَرُ مَوْضوعاتِه عَدَدًا الكُدْيةُ؛ حيثُ يُصوِّرُ فيها
بَديعُ الزَّمانِ أصْنافًا وألْوانًا مِن النَّاسِ يَتَحايَلونَ لكَسْبِ المالِ بطُرُقٍ عَديدةٍ، مِنها التَّسوُّلُ والخِداعُ والكَذِبُ والغِشُّ والوَعْظُ وغيْرُ ذلك.
كما تَحدَّثَ عن البُخَلاءِ مُتأثِّرًا ب
الجاحِظِ في ذلك، وتَحدَّثَ كذلك عن بعضِ الشَّخْصيَّاتِ المُعقَّدةِ ومُحْدثِي النِّعْمةِ.
وقد رَكَّزَ
بَديعُ الزَّمانِ في مَقاماتِه على نَقْدِ المُجْتمَعِ وكَشَفَ السِّتارَ عن عُيوبِ أهْلِ عَصْرِه؛ فإذا أوْرَدَ حَديثًا عن قاضٍ ظالِمٍ يَأكُلُ أمْوالَ اليَتامى، فإنَّه يَدينُ طائِفةَ القُضاةِ جَميعًا، ويَتَّهمُهم بالجَوْرِ في الحُكْمِ، والرِّشْوةِ، وحُبِّ المالِ، والسَّعْيِ في جَمْعِه سواءٌ كانَ مِن حَلالٍ أم مِن حَرامٍ ... كما أنَّه إذا صَوَّرَ واعِظًا يَحُضُّ النَّاسَ على الخَيْرِ ثُمَّ يَخرُجُ مِن المَسجِدِ فيَشرَبُ الخَمْرَ، فإنَّه يُمثِّلُ نَمَطًا مِن الوُعَّاظِ وعُلَماءِ الدِّينِ الَّذين يَأمُرونَ النَّاسَ بالبِرِّ ويَنسَونَ أنْفُسَهم، وكَثيرونُ هم.
غيْرَ أنَّ
بَديعَ الزَّمانِ رُبَّما خَرَجَ عنِ النَّقْدِ إلى غَرَضٍ آخَرَ، كالمَدْحِ، ومُجرَّدِ الوَصْفِ، والحَضِّ على العِلمِ، والوَعْظِ والدَّعْوةِ إلى الزُّهْدِ وتَحْقيرِ مَذاهِبَ مُعَيَّنةٍ ... ورُبَّما نَسْتفيدُ بطَريقةٍ غيْرِ مُباشِرةٍ مِن تلك المَقاماتِ في بَيانِ أحْوالِ النَّاسِ في ذلك العَصْرِ؛ حيثُ انْتِشارُ اللَّهْوِ والمُجونِ، والعُكوفُ على الخَمْرِ، وفَسادُ القُضاةِ والوُلاةِ والعُمَّالِ، وتَأثيرُ الحَياةِ المُتْرَفةِ على النَّاسِ، وتَعْتمِدُ المَقاماتُ على الحِكايةِ المُؤَثِّرةِ الفُكاهيَّةِ الَّتي يَغلِبُ عليها السَّجْعُ كَثيرًا، وتَدورُ تلك الحِكاياتُ حَوْلَ البَطَلِ الَّذي اتَّخَذَه
بَديعُ الزَّمانِ، وسَمَّاه "أبا الفَتْحِ الإسْكَنْدريَّ"، وهو صاحِبُ تلك الأهْوالِ والأفْعالِ، مَرَّةً يكونُ واعِظًا، وأخرى يكونُ لِصًّا، وثالِثةً يكونُ قاضِيًا، وغيْرَ ذلك. المُهِمُّ أنَّه في كلِّ مَرَّةٍ يَتَحايَلُ للحُصولِ على المالِ الَّذي يُنفِقُه على لَذَّاتِه الخاصَّةِ، ويَتَتبَّعُ أمْرَ ذلك البَطَلِ رَجُلٌ مَشْهورٌ بالعِلمِ، مُحِبٌّ للاسْتِطْلاعِ، شَديدُ الذَّكاءِ، يُدْعى عيسى بنَ هِشامٍ، وهو الَّذي يَرْوي حِكاياتِ أبي الفَتْحِ، وهما شَخْصيَّتانِ مِن نَسْجِ خَيالِ
بَديعِ الزَّمانِ.
وقد انْتَشَرَتْ تلك المَقاماتُ انْتِشارًا بالِغًا، فوَصَلَتْ مِصْرَ والحِجازَ والأنْدَلُسَ وسائِرَ بِلادِ العالَمِ الإسلاميِّ آنَئذٍ، واهْتَمَّ بها تَلاميذُ
بَديعِ الزَّمانِ جدًّا، وحاكُوا على مِنْوالِها
[675] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (14/ 124)، ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 247)، ((محاضرات في الفنون الأدبية بالأندلس)) لشعبان مرسي (ص: 198)، ((فن المقامات في الأدب العربي)) لشادي مجلي سكر (ص: 6). .
الحَريريُّ ومَقاماتُه:كانَ أبو مُحمَّدٍ القاسِمُ بنُ عليٍّ الحَريريُّ أهَمَّ تَلامِذةِ
بَديعِ الزَّمانِ الَّذين اهْتَمُّوا بالمَقاماتِ ونَسَجوا على مِنْوالِها، حتَّى إنَّه عَمَدَ إلى مَقاماتِ
الهَمَذانيِّ فحاكاها في المَوْضوعاتِ والأسْجاعِ، بلْ ألَّفَ خَمْسينَ مَقامةً على غِرارِ صَنيعِ
الهَمَذانيِّ، إلَّا أنَّه امْتازَ على
بَديعِ الزَّمانِ بكَثْرةِ مَحْفوظِه اللُّغويِّ، وقُدْرتِه على اسْتِخْدامِ الألْفاظِ، وسَعةِ إشارتِه في مَقاماتِه، وغَزارةِ المَسائِلِ العِلميَّةِ، فَضْلًا عمَّا أُوتيَه مِن الشُّهْرةِ والحَظِّ والمالِ، فاشْتَهرتْ مَقاماتُه شُهْرةً طَغَتْ على مَقاماتِ
بَديعِ الزَّمانِ، حتَّى صارَتِ "المَقاماتُ" عَلَمًا على مَقاماتِ الحَريريِّ دونَ غيْرِه، وكَثُرَتْ على مَقاماتِه الشُّروحُ.
وقدْ جَعَلَ الحَريريُّ بَطَلَ مَقاماتِه رَجُلًا سَمَّاه "أبا زيدٍ السَّروجيَّ"، وراوِيتَه الحارِثَ بنَ هَمَّامٍ، ودارَتْ مَوْضوعاتُه على نفْسِ مَوْضوعاتِ المَقاماتِ الأُولى، فكانَتْ على الوَعْظِ والألْغازِ وغيْرِها، وأهَمُّ مَوْضوعاتِه كذلك وأكْبَرُها عَدَدًا الكُدْيةُ.
لكنَّ الَّذي يُؤخَذُ على الحَريريِّ اهْتِمامُه بالتَّزْيينِ اللَّفْظيِّ، فكانَ يَكتُبُ كَلِماتٍ تُقرَأُ مِن اليَمينِ كما تُقرَأُ مِن اليَسارِ والمَعنى صالِحٌ فيهما، مِثلُ: "الإنْسانُ صَنيعُ الإحْسانِ"، وكَلِماتٍ تُقرَأُ مِن اليَمينِ كما تُقرَأُ مِن اليَسارِ بنفْسِ النُّطْقِ والمَعنى، مِثلُ: "ساكِب كاسٍ"، ويَكتُبُ كَلِماتٍ تَتَألَّفُ مِن حَرْفٍ مُعجَمٍ وآخَرَ مُهمَلٍ وهكذا بتَرْتيبٍ، أو كَلِمةً تَتَكوَّنُ مِن حُروفٍ كُلُّها مُعجَمةٌ وبجانِبِها حُروفٌ أخرى كلُّها مُهمَلةٌ. وهذا وإن كانَ لا عَلاقةَ له بالمَقاماتِ فإنَّ النَّاسَ قد ألِفوا في العَصْرِ العبَّاسيِّ المَيلَ إلى الزَّخْرفةِ في كلِّ شيءٍ؛ في المَباني والمَلابِسِ، والكَلامِ والكِتابةِ، وغيْرِها
[676] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (14/ 125)، ((الفنون الأدبية في العَصْر العباسي)) لشعبان مرسي (ص: 75). .
وقد تَلا
الهَمَذانيَّ والحَريريَّ أصْحابُ مَقاماتٍ كَثيرةٍ، مِنهم
الزَّمَخْشَريُّ، و
ابنُ الجَوْزيِّ، و
السُّيوطيُّ، وغيْرُهم.
ومِن مَقاماتِ الهَمَذانيِّ:المَقامةُ البَغْداذِيَّةُحَدَّثَنا عيسى بنُ هِشامٍ قالَ:
اشْتَهيْتُ الأزاذَ، وأنا ببَغْداذ، وليس معي عَقْدٌ على نَقْدٍ، فخَرَجْتُ أنْتَهِزُ مَحالَّه حتَّى أحَلَّني الكَرْخَ، فإذا أنا بسَواديٍّ يَسوقُ بالجَهْدِ حِمارَه، ويُطَرِّفُ بالعَقْدِ إزارَه، فقلتُ: ظَفِرْنا واللهِ بصَيْدٍ، وحَيَّاك اللهُ أبا زيدٍ، مِن أين أقْبَلْتَ؟ وأين نَزَلْتَ؟ ومتى وافَيْت؟ وهَلُمَّ إلى البَيْتِ، فقالَ السَّوادِيُّ: لستُ بأبي زيدٍ، ولكنِّي أبو عُبَيدٍ، فقلْتُ: نَعمْ، لَعَنَ اللهُ
الشَّيْطانَ، وأبْعَدَ النِّسيانَ، أنْسانيكَ طولُ العَهْدِ، واتِّصالُ البُعْدِ، فكيف حالُ أبيك؟ أشابٌّ كعَهْدي، أم شابَ بَعْدي؟ فقالَ: قد نَبَتَ الرَّبيعُ على دِمْنتِه، وأرْجو أن يُصيِّرَه اللهُ إلى جَنَّتِه، فقلْتُ: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ العَليِّ العَظيمِ، ومَدَدْتُ يَدَ البِدارِ إلى الصِّدارِ أريدُ تَمْزيقَه، فقَبَضَ السَّواديُّ على خَصْري بجُمْعِه، وقال: نَشَدْتُك اللهَ لا مَزَّقْتَه، فقلْتُ: هَلُمَّ إلى البَيْتِ نُصِبْ غَداءً، أو إلى السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، والسُّوقُ أقْرَبُ، وطَعامُه أطْيَبُ، فاسْتَفزَّتْه حُمَّةُ القَرَمِ، وعَطَفَتْه عاطِفةُ اللَّقَمِ، وطَمِعَ، ولم يَعلَمْ أنَّه وَقَعَ، ثُمَّ أتَيْنا شَوَّاءً يَتَقاطَرُ شِوَاؤُهُ عَرَقًا، وتَتَسايَلُ جُوذاباتُه مَرَقًا، فقلْتُ: افْرِزْ لأبي زَيدٍ مِن هذا الشِّواءِ، ثُمَّ زِنْ له مِن تلك الحَلْواءِ، واخْتَرْ له مِن تلك الأطْباقِ، وانضِدْ عليها أوَراقَ الرُّقاقِ، ورُشَّ عليه شيئًا مِن ماءِ السُّمَّاقِ، ليَأكُلَه أبو زيدٍ هَنيَّا، فأنْخَى الشَّوَّاءُ بساطورِه، على زُبْدةِ تَنُّورِه، فجَعَلَها كالكُحْلِ سَحْقًا، وكالطِّحْنِ دَقًّا، ثُمَّ جَلَسَ وجَلَسْتُ، ولا يَئِسَ ولا يَئِسْتُ، حتَّى اسْتَوْفَيْنا، وقلْتُ لصاحِبِ الحَلْوى: زِنْ لأبي زيدٍ مِن اللُّوزينجِ رِطْلَينِ فهو أجْرى في الحُلوقِ، وأمْضى في العُروقِ، وليكُنْ لَيْلِيَّ العُمرِ، يَوْمِيَّ النَّشْرِ، رَقيقَ القِشْرِ، كَثيفَ الحَشْوِ، لُؤْلُؤيَّ الدُّهْنِ، كَوكَبيَّ اللَّوْنِ، يَذوبُ كالصَّمْغِ قَبْلَ المَضْغِ، ليَأكُلَه أبو زيدٍ هَنيًّا، قالَ: فوَزَنَه ثُمَّ قَعَدَ وقَعَدْتُ، وجَرَّدَ وجَرَّدْتُ، حتَّى اسْتَوْفَيْناه، ثُمَّ قُلْتُ: يا أبا زيدٍ ما أحَوَجَنا إلى ماءٍ يُشَعشَعُ بالثَّلْجِ، ليَقمَعَ هذه الصَّارَّةَ، ويَفثَأَ هذه اللُّقَمَ الحارَّةَ، اجْلِسْ يا أبا زيدٍ حتَّى نَأتيَك بسَقَّاءٍ، يَأتيك بشَرْبةِ ماءٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ وجَلَسْتُ، بحيثُ أراه ولا يَراني؛ أنْظُرُ ما يَصنَعُ، فلمَّا أبْطَأْتُ عليه قامَ السَّوادِيُّ إلى حِمارِه، فاعْتَلَقَ الشَّوَّاءُ بإزارِه، وقال: أين ثَمَنُ ما أكَلْتَ؟ فقال: أبو زيدٍ: أكَلْتُه ضَيْفًا، فلَكَمَه لَكْمة، وثَنَّى عليه بلَطْمة، ثُمَّ قالَ الشَّوَّاءُ: هاك، ومتى دَعَوْناك؟ زِنْ يا أخا القِحَةِ عِشرينَ، فجَعَلَ السَّوادِيُّ يَبْكي ويَحُلُّ عُقَدَه بأسْنانِه ويقولُ: كم قلْتُ لذاك القُرَيد: أنا أبو عُبَيد، وهو يقولُ: أنتَ أبو زيد. فأنْشَدْتُ:
أعْمِلْ لرِزْقِك كلَّ آلَه
لا تَقْعُدَنَّ بكلِّ حاله
وانْهَضْ بكلِّ عَظيمةٍ
فالمَرْءُ يَعجِزُ لا مَحاله
[677] ((مقامات بديع الزمان الهمذاني)) (ص: 66). ومِن مَقاماتِ الحَريريِّ:المَقامةُ الكوفيَّةُ:حَكى الحارِثُ بنُ هَمَّامٍ قالَ: سَمَرْتُ بالكوفةِ في لَيلةٍ أديمُها ذو لَوْنَينِ، وقَمَرُها كتَعْويذٍ مِن لُجَينِ، معَ رُفقةٍ غُذوا بلِبانِ البَيانِ، وسَحبوا على سَحْبانَ ذَيلَ النِّسيانِ، ما فيهم إلَّا مَن يُحفَظُ عنه ولا يُتَحَفَّظُ مِنه، ويَميلُ الرَّفيقُ إليه ولا يَميلُ عنه، فاسْتَهْوانا السَّمَرُ، إلى أن غَرَبَ القَمَرُ، وغَلَبَ السَّهَرُ، فلمَّا رَوَّقَ اللَّيلُ البَهيمُ، ولم يَبْقَ إلَّا التَّهْويمُ، سَمِعْنا مِن البابِ نَبأةَ مُسْتنبِحٍ، ثُمَّ تَلَتْها صَكَّةُ مُسْتَفتِحٍ، فقُلْنا: مَن المُلِمُّ، في اللَّيلِ المُدْلَهِمِّ؟ فقالَ:
يا أهْلَ ذا المَغْنى وُقيتُم شَرًّا
ولا لَقيتُم ما بَقيتُم ضُرَّا
قد دَفَعَ اللَّيلُ الَّذي اكْفَهَرَّا
إلى ذَراكمْ شَعِثًا مُغْبَرَّا
أخا سِفارٍ طالَ واسْبَطَرَّا
حتَّى انْثَنى مُحْقَوْقِفًا مُصْفَرَّا
مِثلَ هِلالِ الأُفْقِ حينَ افْتَرَّا
وقد عَرا فِناءَكم مُعْتَرَّا
وأمَّكم دونَ الأنامِ طُرَّا
يَبْغي قِرًى مِنكم ومُسْتَقَرَّا
فدونَكم ضَيْفًا قَنوعًا حُرَّا
يَرْضى بما احْلَوْلى وما أمَرَّا
ويَنْثَني عنكم يَنُثُّ البِرَّا
قالَ الحارِثُ بنُ هَمَّامٍ: فلمَّا خَلَبَنا بعُذوبةِ نُطْقِه، وعَلِمْنا ما وَراءَ بَرْقِه، ابْتَدَرْنا فَتْحَ البابِ، وتَلقَّيْناه بالتَّرْحابِ، وقُلْنا للغُلامِ: هيَّا هيَّا، وهَلُمَّ ما تَهَيَّا! فقالَ الضَّيْفُ: والَّذي أحَلَّني ذُراكم، لا تَلَمَّظْتُ بقِراكم، أو تَضْمَنوا لي ألَّا تَتَّخِذوني كَلًّا، ولا تَجَشَّموا لأجْلي أكْلًا، فرُبَّ أكْلةٍ هاضَتِ الآكِل، وحَرَمَتْه مَآكِل، وشَرُّ الأضْيافِ مَن سامَ التَّكْليف، وآذى المُضيف، خُصوصًا أذًى يَعْتلِقُ بالأجْسامِ، ويُفْضي إلى الأسْقامِ، وما قيلَ في المَثَلِ الَّذي سارَ سائِرُه: خَيْرُ العَشاءِ سَوافِرُه، إلَّا ليُعَجَّلَ التَّعَشِّي، ويُجْتَنَبَ أكْلُ اللَّيلِ الَّذي يُعْشي، اللَّهُمَّ إلَّا أن تَقِدَ نارُ الجوعِ، وتَحولَ دونَ الهُجوعِ.
قالَ: فكأنَّه اطَّلَعَ على إرادتِنا، فرَمى عن قَوْسِ عَقيدتِنا، لا جَرَمَ أنَّا آنَسْناه بالْتزامِ الشَّرْطِ، وأثْنينا على خُلُقِه السَّبْطِ، ولمَّا أحْضَرَ الغُلامُ ما راجَ، وأذْكى بيْنَنا السِّراجَ، تَأمَّلْتُه فإذا هو أبو زيدٍ، فقلْتُ لصَحْبي: ليَهْنأْكم الضَّيفُ الوارِدُ، بلِ المَغْنَمُ البارِدُ، فإن يكُنْ أفَلَ قَمَرُ الشِّعْرَى فقدْ طَلَعَ قَمَرُ الشِّعْرِ، أو اسْتَسَرَّ بَدرُ النَّثْرةِ فقدْ تَبلَّجَ بَدْرُ النَّثْرِ، فسَرَتْ حُميَّا المَسرَّةِ فيهم، وطارَتْ السِّنةُ عن مآقيهم، ورَفَضوا الدَّعةَ الَّتي كانوا نَوَوها، وثابوا إلى نَشْرِ الفُكاهةِ بعْدَما طَوَوها، وأبو زيدٍ مُكِبٌّ على إعْمالِ يَدَيه، حتَّى إذا اسْتَرْفَعَ ما لديه، قلْتُ له: أطْرِفْنا بغَريبةٍ مِن غَرائِبِ أسْمارِك، أو عَجيبةٍ مِن عَجائِبِ أسْفارِك.
فقالَ: لقد بَلَوْتُ مِن العَجائِبِ ما لم يَرَه الرَّاؤونَ، ولا رَواه الرَّاوونَ، وإنَّ مِن أعْجَبِها ما عايَنْتُه اللَّيلةَ قُبَيْلَ انْتِيابِكم، ومَصيري إلى بابِكم، فاسْتَخْبَرْناه عن طُرفةِ مَرْآه في مَسرَحِ مَسْراه، فقالَ: إنَّ مَراميَ الغُرْبةِ لَفَظَتْني إلى هذه التُّربةِ، وأنا ذو مَجاعةٍ وبوسى، وجِرابٍ كفُؤادِ أمِّ موسى، فنَهَضْتُ حينَ سَجا الدُّجى، على ما بي مِن الوَجى؛ لأرْتادَ مُضيفًا، أو أقْتادَ رَغيفًا، فساقَني حادي السَّغَبِ، والقَضاءُ المُكنَّى أبا العَجَبِ، إلى أن وَقَفْتُ على بابِ دارٍ، فقلْتُ على بِدارٍ:
حُيِّيتُمُ يا أهْلَ هذا المَنزِلِ
وعِشْتُمُ في خَفْضِ عَيْشٍ خَضِلِ
ما عندَكم لابنِ سَبيلٍ مُرمِلِ
نِضْوِ سُرًى خابِطِ لَيلٍ ألْيَلِ
جَوِي الحَشا على الطَّوى مُشتَمِلِ
ما ذاقَ مذْ يَوْمانِ طَعْمَ مَأكَلِ
ولا لهُ في أرضِكم مِن مَوئِلِ
وقد دَجا جُنْحُ الظَّلامِ المُسبِلِ
وهْو مِن الحَيْرةِ في تَمَلْمُلِ
فهلْ بهذا الرَّبْعِ عَذْبُ المَنهَلِ
يقولُ لي: أَلْقِ عَصاكَ وادْخُلِ
وأبْشِرْ ببِشْرٍ وقِرًى مُعجَّلِ
قالَ: فبَرَزَ إليَّ جَوْذَرٌ، عليه شَوْذَرٌ، وقالَ:
وحُرْمةِ الشَّيْخِ الَّذي سَنَّ القِرى
وأسَّسَ المَحْجوجَ في أُمِّ القُرى
ما عِندَنا لِطارِقٍ إذا عَرا
سِوى الحَديثِ والمُناخِ في الذَّرى
وكيف يَقْري مَن نَفى عنه الكَرى
طَوًى بَرى أعْظُمَهُ لمَّا انْبَرى
فما تَرى فيما ذَكَرْتُ ما تَرى
فقلْتُ: ما أصْنَعُ بمَنزِلٍ قَفْرٍ، ومُنزِلٍ حِلْفِ فَقْرٍ؟! ولكنْ يا فَتى، ما اسمُك، فقدْ فَتَنَني فَهْمُك؟ فقالَ: اسمي زيد، ومَنشَئي فَيْد، ووَرَدْتُ هذه المَدَرةَ أمْس، معَ أخْوالي مِن بَني عَبْس، فقلْتُ له: زِدْني إيضاحًا عِشْتَ ونُعِشْتَ، فقالَ: أخْبَرَتْني أمِّي بَرَّة، وهي كاسمِها بَرَّة، أنَّها نَكَحَتْ عامَ الغارةِ بماوان، رَجُلًا مِن سَراةِ سَروجَ وغسَّان، فلمَّا آنَسَ مِنها الإثْقال، وكان باقِعةً على ما يُقال، ظَعَنَ عنها سِرًّا، وهَلُمَّ جَرًّا، فما يُعرَفُ أحَيٌّ هو فيُتَوقَّعَ، أم أُودِعَ اللَّحْدَ البَلْقَعَ؟
قالَ أبو زيدٍ: فعَلِمْتُ بصِحَّةِ العَلاماتِ أنَّه وَلَدي، وصَدَفَني عن التَّعرُّفِ إليه صَفْرُ يَدي، ففُصِلْتُ عنه بكَبِدٍ مَرْضوضة، ودُموعٍ مَفْضوضة، فهلْ سَمِعْتُم يا أُولي الألْباب بأعْجَبَ مِن هذا العُجاب؟ فقُلْنا: لا، ومَن عنْدَه عِلمُ الكِتاب. فقالَ: أثْبِتوها في عَجائِبِ الاتِّفاق، وخَلِّدوها بُطونَ الأوْراق، فما سُيِّرَ مِثلُها في الآفاق، فأحَضَرْنا الدَّواةَ وأساوِدَها، ورَقَشْنا الحِكايةَ على ما سَرَدَها، ثُمَّ اسْتنَبْطْناه عن مُرْتآه، في اسْتِضْمامِ فَتاه، فقالَ: إذا ثَقُلَ رُدْني خَفَّ عليَّ أن أكْفُلَ ابني، فقُلْنا: إن كانَ يَكْفيك نِصابٌ مِن المال، ألَّفْناه لك في الحال، فقالَ: وكيف لا يُقْنِعُني نِصاب، وهل يَحتَقِرُ قَدْرَه إلَّا مُصاب؟ قال الرَّاوي: فالْتَزَم مِنه كُلٌّ مِنَّا قِسْطًا، وكَتَبَ له به قِطًّا، فشَكَرَ عنْدَ ذلك الصُّنْعَ، واسْتَنفَدَ في الثَّناءِ الوُسْعَ، حتَّى إنَّنا اسْتَطَلْنا القَوْل، واسْتَقْلَلْنا الطَّول.
ثُمَّ إنَّه نَشَرَ مِن وَشْيِ السَّمَر، ما أزْرى بالحِبَر، إلى أن أظَلَّ التَّنْوير، وجَشَرَ الصُّبْحُ المُنير، فقَضَّيناها لَيلةً غابَتْ شَوائِبُها، إلى أن شابَتْ ذَوائِبُها، وكَمَلَ سُعودُها إلى أن انْفَطَرَ عودُها، ولمَّا ذَرَّ قَرْنُ الغَزالة طَمَرَ طُمورَ الغَزالة، وقالَ: انْهَضْ بِنا لنَقْبِضَ الصِّلات، ونَستَنِضَّ الإحالات؛ فقدِ اسْتَطارَتْ صُدوعُ كَبِدي، مِن الحَنينِ إلى وَلَدي، فوَصَلْتُ جَناحَه حتَّى سَنَّيْتُ نَجاحَه، فحينَ أحْرَزَ العَيْنَ في صُرَّتِه، بَرَقَتْ أساريرُ مَسرَّتِه، وقالَ لي: جُزيْتَ خَيْرًا عن خُطا قَدَمَيك، واللهُ خَليفَتي عليك، فقُلْتُ: أريدُ أن أتَّبِعَك لأشاهِدَ وَلَدَك النَّجيب، وأُنافِثَه لِكَيْما يُجيب، فنَظَرَ إليَّ نَظْرةَ الخادِعِ إلى المَخْدوع، وضَحِكَ حتَّى تَغَرْغَرَتْ مُقْلتاه بالدُّموع، وأنْشَدَ:
يا مَن يَظُنُّ السَّرابَ ماءً
لمَّا رَوَيْتُ الَّذي رَوَيْتُ
ما خِلْتُ أنْ يسْتَسِرَّ مَكْري
وأنْ يُخِيلَ الَّذي عَنَيْتُ
واللهِ ما بَرَّةٌ بعِرْسي
ولا ليَ ابنٌ بهِ اكْتَنَيْتُ
وإنَّما لي فُنونُ سِحْرٍ
أبْدَعْتُ فيها وما اقْتَدَيْتُ
لم يَحْكِها الأصْمَعيُّ فيما
حَكى ولا حاكَها الكُمَيْتُ
تَخِذْتُها وُصْلةً إلى ما
تَجْنيهِ كَفِّي متى اشْتَهَيْتُ
ولو تَعافَيتُها لحالَتْ
حالي ولمْ أحْوِ ما حَوَيْتُ
فمَهِّدِ العُذْرَ أو فسامِحْ
إن كُنْتُ أجْرَمْتُ أو جَنَيْتُ
ثُمَّ إنَّه وَدَّعَني ومَضى، وأوْدَعَ قَلبي جَمْرَ الغَضا
[678] ((مقامات الحريري)) (ص: 47). .