المَطْلَبُ الثَّالثُ: ابنُ عَمَّارٍ
هو أبو بَكْرٍ، مُحمَّدُ بنُ عَمَّارٍ، المَهْريُّ الأنْدَلُسيُّ، وُلِدَ في قَريةٍ مِن قُرى مَدينةِ شِلْبٍ، لأسْرةٍ فَقيرةٍ، غيْرَ أنَّها حَرَصَتْ على تَعْليمِه، فتَعلَّمَ عُلومَ العَربيَّةِ على أيْدي مَشايِخَ كَثيرينَ، مِنهم الأعْلَمُ الشَّنْتَمَريُّ، ثُمَّ رَحَلَ إلى قُرْطُبةَ ليُكمِلَ فيها تَعْليمَه، واسْتَيْقَظَتْ هناك مَلَكتُه الشِّعْريَّةُ على شيءٍ غيْرِ قَليلٍ مِن ضَنْكِ العَيْشِ وبُؤْسِه، فعاشَ في شَظَفِ الحَياةِ وبُؤْسِ الزَّمانِ، وقلَّما كانَ يَملِكُ قوتَ يَوْمِه فقاسى شَدائِدَ الزَّمانِ، وقَهْرَ الحَياةِ، ولم يكنْ له شيءٌ يَتَكسَّبُ به سِوى شِعْرِه، فلم يُبالِ مَن يَمدَحُ، حتَّى إنَّه مَدَحَ فَلَّاحًا أعْطاه مِخْلاةَ شَعيرٍ لحِمارِه، فلمَّا تَولَّى الوِزارةَ مَلَأَ له المِخْلاةَ دَراهِمَ، وقالَ: لو كانَ مَلَأَها بُرًّا لمَلَأْتُها له ذَهَبًا.
وظَلَّ يَجوبُ الأنْدَلُسَ يَمدَحُ النَّاسَ والجُنْدَ والأُمَراءَ، حتَّى وَصَلَ إلى المُعْتَضِدِ بنِ عَبَّادٍ، فمَدَحَه بقَصيدتِه الَّتي أوَّلُها:
أدِرِ الزُّجاجةَ فالنَّسيمُ قد انْبَرى
والنَّجْمُ قد صَرَفَ العِنانَ عن السُّرى
فاسْتَحْسَنَها المُعْتَضِدُ وأجْزَلَ له العَطاءَ، ثُمَّ أمَرَ أن يُكتَبَ في ديوانِ الشُّعَراءِ، وتَعرَّفَ حينَئذٍ على المُعْتَمِدِ بنِ المُعْتَضِدِ، وتَصادَقا وجَرَتْ بيْنَهما المَودَّةُ حتَّى كانَ المُعْتَمِدُ لا يَسْتَطيعُ الاسْتِغناءَ عنه لَيلًا أو نَهارًا، غيْرَ أنَّ المُعْتَضِدَ طَرَدَه لِما رَأى مِن سوءِ حالِهما وانْهِماكِهما في اللَّهْوِ والخَمْرِ، وقدْ كانَ يُعِدُّ المُعْتَمِدَ لوِلايةِ العَهْدِ مِن بَعْدِه.
فلمَّا تُوفِّيَ المُعْتَضِدُ وتَولَّى ابنُه المُعْتَمِدُ، اسْتَدْعى ابنَ عَمَّارٍ وقَرَّبَه إليه، وأجابَه إلى طَلَبِه ووَلَّاه وِلايةَ شِلْبٍ، غيْرَ أنَّه لم يَسْتَطِعِ الصَّبْرَ عنه، فاسْتَدْعاه وجَعَلَه وَزيرَه ومُسْتَشارَه، لا يَقطَعُ أمْرًا مِن غيْرِ مَشورتِه، ولا يَجلِسُ مَجلِسًا مِن غيْرِ صُحْبتِه.
وقد أغْرى ابنُ عَمَّارٍ المُعْتَمِدَ يَوْمًا بالاسْتِيلاءَ على مُرْسِيَةَ، فلمَّا فَتَحَها ابنُ عَمَّارٍ اسْتَحوَذَ عليها واسْتَأثَرَ بها لنفْسِه دونَ المُعْتَمِدِ، فما زالَ المُعْتَمِدُ يُخطِّطُ له حتَّى أُتِيَ به إليه مُكَبَّلًا، فأوْدَعَه السِّجْنَ، ولم تَنفَعْه قَصائِدُه الَّتي أنْشَدَه إيَّاها ليُسامِحَه ويَعْتذِرَ له، كقَصيدتِه الَّتي مَطلَعُها:
سَجاياك إن عافَيْتَ أنْدى وأسْمَحُ
وعُذْرُك إن عاقَبْتَ أجْلى وأوْضَحُ
ولم يَنفَعْه عِنْدَ المُعْتَمِدِ تَذلُّلُه فيها وتَضَرُّعُه، وكانَ بقُرْطُبةَ، فكانَ يُحضِرُه كلَّ لَيلةٍ راسِفًا في قُيودِه ويُوَبِّخُه على سوءِ فِعلِه، وانْحَدَرَ به إلى إشْبيليَة، وأوْدَعَه غَياهِبَ السُّجونِ إلى أن اسْتَثارَتْه عليه زَوْجتُه الرُّمَيْكيَّةُ فأجْهَزَ عليه وقَتَلَه
[752] يُنظر: ((بغية الملتمس)) لأحمد ابن يحيى الضبي (ص: 113)، ((المطرب من أشعار أهل المغرب)) لابن دحية الكلبي (ص: 169). .
وقدْ كانَ ابنُ عَمَّارٍ مُتَمكِّنًا مِن صِناعتِه اللَّفْظيَّةِ، مُحكِمًا أدَواتِه الفَنِّيَّةَ، ماهِرًا في ضُروبِ القَوْلِ، شِعْرُه غَرَّبَ وشَرَّقَ، وأشْأَمَ في نَغَمِ الحُداةِ وعلى ألْسِنةِ الرُّواةِ وأعْرَقَ؛ فلا جَرَمَ كانَ شاعِرًا لا يُجارى، وساحِرًا لا يُبارى، إذا مَدَحَ اسْتَنْزَلَ العُصْمَ، وإن هَجا أسْمَعَ الصُّمَّ، وإن تَغزَّلَ -ولا سِيَّما في المُعذَّرينَ مِن الغِلْمانِ- أسْمَعَ سِحْرًا لا يَعرِفُه أهْلُ البَيانِ، فكانَ يَضرِبُ في أنْواعِ الإبْداعِ بأعْلى السِّهامِ، ويَأخُذُ مِن التَّوْليدِ والاخْتِراعِ بأوْفَرِ الأقْسامِ
[753] ينظر: ((الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة)) لابن بسام الشنتريني (3/369). .
ومِن قَصائِدِه:أَدِرِ الزُّجاجةَ فالنَّسيمُ قدِ انْبَرى
والنَّجْمُ قد صَرَفَ العِنانَ عن السُّرى
والصُّبْحُ قد أهْدى لنا كافورَهُ
لمَّا اسْتَردَّ اللَّيلُ منَّا العَنْبَرا
والرَّوْضُ كالحَسْنا كَساهُ زَهْرُهُ
وَشْيًا وقَلَّدَهُ نَداهُ جَوْهَرا
أو كالغُلامِ زَها بوَرْدِ رياضِهِ
خَجَلًا وتاهَ بآسِهنَّ مُعذِّرًا
رَوْضٌ كأنَّ النَّهْرَ فيهِ مِعْصَمٌ
صافٍ أطَلَّ على رِداءٍ أخْضَرا
وتَهُزُّهُ ريحُ الصَّبا فتَظُنُّهُ
سَيْفَ ابنِ عبَّادٍ يُبَدِّدُ عَسْكَرا
عَبَّادٌ المُخْضَرُّ نائِلُ كَفِّه
والجَوُّ قد لَبِسَ الرِّداءَ الأغْبَرا
قَدَّاحُ زَنْدِ المَجْدِ لا يَنفَكُّ مِن
نارِ الوَغى إلَّا إلى نارِ القِرى
يَخْتالُ أنِّي مِن ذَراه بجَنَّةٍ
لمَّا سَقاني مِن نَداه الكَوْثرا
وعَلِمْتُ حَقًّا أنَّ رَبْعي مُخْصِبٌ
لمَّا سَألْتُ به الغَمامَ المُمْطِرا
مَن لا تُوازِنُه الجِبالُ إذا احْتَبى
مَن لا تُسابِقُه الرِّياحُ إذا جَرى
ماضٍ وصَدْرُ الرُّمْحِ يَكهَمُ والظُّبا
تَنْبو، وأيْدي الخَيلِ تَعثُرُ في البَرى
لا خَلْقَ أقْرَأُ مِن شِفارِ حُسامِه
إن كنْتَ شَبَّهْتَ المَواكِبَ أسْطُرا
السَّيْفُ أصْدَقُ مِن زِيادٍ خُطْبةً
في الحَرْبِ إن كانَت يَمينُك مِنبَرا
وإليكها كالرَّوْضِ زارَتْه الصَّبا
وحَنا عليها الطَّلُّ حتَّى نَوَّرا
نَمَّقْتُها وَشيًا بذِكْرِك مُذهَبًا
وفَتَقْتُها مِسْكًا بحَمْدِك أذْفَرا
مَن ذا يُنافِحُني وذِكْرُك مَنْدَلٌ
أوْرَدْتُه مِن نارِ فِكْري مِجْمَرا
فلئِنْ وَجَدْتَ نَسيمَ حَمْدي عاطِرًا
فلقد وَجَدْتُ نَسيمَ بِرِّك أعْطَرا
[754] ((ديوان ابن عمار)) (ص: 8).