المَطْلَبُ الثَّاني: نَشْأةُ المُوَشَّحاتِ
نَشَأَتِ المُوَشَّحاتُ نَتيجةً للتَّطوُّرِ الَّذي أصابَ الشِّعْرَ في العَصْرِ العبَّاسيِّ والأنْدَلُسيِّ في الوَزْنِ والقافِيةِ، وقدْ ذَكَرْنا عنْدَ الحَديثِ عن الشِّعْرِ في العَصْرِ العبَّاسيِّ أنَّ الشُّعَراءَ ابْتَكروا ألْوانًا جَديدةً مِن الشِّعْرِ نَتيجةَ التَّلاعُبِ بالأوْزانِ والقَوافي، كالرُّباعيَّاتِ والمُسَمَّطاتِ وغيْرِها.
أمَّا المُوَشَّحاتُ فقدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ فيها؛ حيثُ ذَهَبَ بعضُهم إلى أنَّ المُوَشَّحاتِ فَنٌّ مَشرِقيٌّ، ابْتَكرَه الشُّعَراءُ المَشارِقةُ، غيْرَ أنَّه لم يَشتَهِرْ فيهم شُهرةَ الشِّعْرِ العَموديِّ، ولا شُهْرتَه في الأنْدَلُسِ.
قالَ الدُّكتورُ شوقي ضيف: "وهذا كلُّ ما عنْدَهم مِن تَجْديدٍ، وهو تَجْديدٌ شَكْليٌّ اضْطَرَّتُهم إليه ظُروفُ الغِناءِ، وحَقًّا هُمْ قد جَدَّدوا كَثيرًا في الأوْزانِ، ولكنَّا عَرَفْنا في غيْرِ هذا المَوضِعِ أنَّهم سُبِقوا بذلك، سَبَقَهم العبَّاسيُّونَ إذ أوْشَكوا أن يُغيِّروا صورةَ "الرُّقُمِ الموسيقيَّةِ" القَديمةِ تَغْييرًا تامًّا، وإذَنْ لا يَبْقى للأنْدَلُسيِّينَ في مُوَشَّحاتِهم سِوى التَّجْديدِ في القافِيةِ"
[759] ((الفن ومذاهبه في الشِّعْر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 451). .
وأيضًا يَتَبنَّى وِجْهةَ النَّظَرِ تلك الدُّكْتورُ كامل الكيلاني؛ حيثُ ذَكَرَ أنَّ المُوَشَّحاتِ مَشرِقيَّةُ الأصْلِ، وأنَّها وَفَدَتْ على أهْلِ الأنْدَلُسِ كما وَفَدَ عليهم الشِّعْرُ العَربيُّ، بَيْدَ أنَّهم أكْثَروا مِن المُوَشَّحاتِ حتَّى عُرِفوا بها، والدَّليلُ على ذلك -على حَدِّ قَوْلِه- أنَّ ابنَ المُعْتَزِّ له مُوَشَّحٌ مَشْهورٌ، مَطْلَعُه:
أيُّها السَّاقي إليك المُشْتَكى
قد دَعَوْنَاك وإن لم تَسْمَعِ
[760] ينظر: ((نظرات في تاريخ الأدب الأندلسي)) لكامل الكيلاني (272-273). في حينِ ذَهَبَ أكْثَرُ العُلَماءِ والنُّقَّادِ إلى أنَّ المُوَشَّحاتِ فَنٌّ أنْدَلُسيٌّ خالِصٌ، ابْتَكَرَه الأنْدَلُسيُّونَ ونَظَموا عليه الكَثيرَ، وجَعَلوا له قَواعِدَ وأصولًا، ثُمَّ انْتَقلَ بَعْدَ ذلك إلى المَشرِقِ معَ الحُجَّاجِ وطَلَبةِ العِلمِ وغيْرِهم، فاسْتَخدَمَه المَشارِقةُ وأضافوا عليه.
يقولُ أبو القاسِمِ ابنُ سَناءِ المُلْكِ الكاتِبُ: "فإنَّ المُوَشَّحاتِ مِمَّا تَرَكَ الأوَّلُ للآخِرِ، وسَبَقَ بها المُتأخِّرُ المُتَقدِّمَ، وأجْلَبَ بها أهْلُ المَغرِبِ على أهْلِ المَشرِقِ"
[761] ((دار الطراز في عمل الموشحات)) لابن سناء الملك (ص:29). .
ويقولُ
ابنُ خَلْدونَ: "وأمَّا أهْلُ الأنْدَلُسِ فلمَّا كَثُرَ الشِّعْرُ في قُطْرِهم، وتَهذَّبَتْ مَناحيه وفُنونُه، وبَلَغَ التَّنْميقُ فيه الغايةَ، اسْتَحْدَثَ المُتأخِّرونَ مِنهم فَنًّا مِنه سَمَّوه بالمَوَشَّحِ، يَنْظِمونَه أسْماطًا أسْماطًا، وأغْصانًا أغْصانًا، يُكثِرونَ مِن أعاريضِها المُخْتلِفةِ"
[762] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/817). .
ولقد فَنَّدَ الدُّكتورُ مُحمَّد زَكَريَّا العناني ما قالَه الدُّكْتورُ كامل الكيلاني، وبَيَّنَ خَطَأَه؛ حيثُ قالَ: "والحَقيقةُ الَّتي لم يَنْتبِهْ لها كامل كيلاني ومَن تابَعَه في رأيِه هذا أنَّ كلَّ الاعْتِباراتِ تَقودُ إلى رَفْضِ نِسْبةِ هذه المُوَشَّحةِ لابنِ المُعْتَزِّ، وإلى القَوْلِ بأنَّها أنْدَلُسيَّةُ التَّأليفِ، على النَّحْوِ الَّذي تُؤَكِّدُه مَصادِرُ عَديدةٌ، مِثلُ دارِ الطِّرازِ، والمُغرِبِ في حُلَى المَغرِبِ، ومُعجَمِ الأدَباءِ، والوافي بالوَفيَاتِ، وعُقودِ الآلِ في المُوَشَّحاتِ والأزْجالِ...، وأهَمُّ مِن هذا كلِّه المُطرِبُ ل
ابنِ دِحْيَةَ تِلْميذِ ابنِ زُهْرٍ"
[763] ((الموشحات الأندلسية)) لمُحمَّد زكريا العناني (ص: 18) .
فلم يَنسُبْ أحَدٌ مِن النُّقَّادِ هذه القَصيدةَ لابنِ المُعْتَزِّ، ولو كانَ ابنُ المُعْتَزِّ وَشَّاحًا مَشْهورًا ما خَفِيَ أمْرُه على أحَدٍ مِنهم، ويُضافُ على ذلك أنَّ
ابنَ دِحْيَةَ يَنسُبُ هذا المُوَشَّحَ إلى شَيْخِه أبي بَكْرٍ مُحمَّدِ بنِ أبي مَرْوانَ بنِ زُهْرٍ المَعْروفِ بالحَفيدِ الوَشَّاحِ الأنْدَلُسيِّ
[764] يُنظر: ((المطرب من أشعار أهل المغرب)) لابن دحية الكلبي (ص: 205). .
على أنَّ القائِلينَ بأنَّ المُوَشَّحاتِ أنْدَلُسيَّةُ النَّشْأةِ اخْتَلَفوا في مُبْتَكِرِها؛ فذَهَبَ بعضُهم إلى أنَّه مُحمَّدُ بنُ مَحْمودٍ القُبَّريُّ الضَّريرُ، ورأى آخَرونَ أنَّه مُقدَّمُ بنُ مُعافًى، وتَذهَبُ جَماعةٌ أخرى إلى أنَّه ابنُ عبْدِ رَبِّه صاحِبُ العِقْدِ الفَريدِ.
وأيًّا مَن يكونُ ذلك فإنَّهم جَميعًا في عَصْرٍ واحِدٍ؛ حيثُ عاشوا في عَصْرِ الأميرِ عبْدِ اللهِ بنِ مُحمَّدٍ المَرْوانيِّ، وإن كانَ ابنُ عبْدِ رَبِّه أقْرَبَ النَّاسِ لذلك؛ فإنَّه كانَ عَروضيًّا يُتقِنُ الدَّوائِرَ الخَليليَّةَ، ويَعرِفُ المُسْتعْمَلَ مِنها والمُهمَلَ، وشَرَحَ شيئًا مِن ذلك في كِتابِه "العِقْدِ الفَريدِ"، كما أنَّه كانَ مُهْتَمًّا بالغِناءِ وتَجْديدِ الموسيقا، وإن كانَ لم يُثبِتْ شيئًا مِن ذلك في كِتابِه المَذْكورِ؛ لأنَّ عادةَ المُؤَلِّفينَ حينَئذٍ كانَتْ مُنصَبَّةً على الأدَبِ الرَّفيعِ مِن الشِّعْرِ والنَّثْرِ، دونَ النَّظَرِ إلى المُوَشَّحاتِ إلَّا على أنَّها أدَبٌ يُغَنَّى به في المَجالِسِ العامَّةِ، فلمَّا تَقَدَّمَ الزَّمانُ عُنِيَ بها النَّاسُ، وذَكَروها في كُتُبِهم
[765] يُنظر: ((محاضرات في الفنون الأدبية بالأندلس)) لشعبان مرسي (ص: 152). .