موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الرَّابِعُ: الشِّعْرُ الحُرُّ


مرَّ بناءُ الشِّعْرِ بتطَوُّراتٍ مختَلِفةٍ في المراحِلِ الزَّمَنيَّةِ المُختَلِفةِ الَّتي عاشها الإنسانُ العَرَبيُّ، وكانت تلك التَّطَوُّراتُ تلبيةً لرَغبةِ شاعِرِ عَصْرِه في التَّجْديدِ، وتطويعًا للشِّعرِ في خِدمةِ قَضايا عَصْرِه ومُواكَبَتِها.
وقد تحرَّر الشِّعْرُ العبَّاسيُّ خاصَّةً مِن كَثيرٍ مِنَ القُيودِ الخاصَّةِ بالوَزْنِ والقافيةِ، استِجابةً لطبيعةِ الشِّعْرِ الغِنائيِّ الَّذي يعتَمِدُ على سُهولةِ الأوزانِ وخِفَّةِ الموسيقى، فظهَرَت المُسمَطاتُ والموَشَّحاتُ وغَيْرُها من ألوانِ الشِّعْرِ وفُنونِه.
وفي العَصْرِ الحَديثِ حدَثَت طَفْرةٌ هائِلةٌ في مجالِ التَّجْديدِ والتَّطْويرِ في الشِّعْرِ الحُرِّ، نهض بأكثَرِ أعباءِ ذلك التَّطويرِ شُعَراءُ المَهْجَرِ، فسارعوا في التَّخَلُّصِ مِن القُيودِ المتعَلِّقةِ بالوَزْنِ والقافيةِ، وقد سُمِّي ذلك الشِّعْرُ بالشِّعْرِ المُرسَلِ، وسُمِّيَ كذلك بالشِّعْرِ الجَديدِ، وشِعْرِ التَّفْعيلةِ، إلى أنِ استقَرَّ الأُدَباءُ والنُّقَّادُ على تَسميتِه بالشِّعْرِ الحُرِّ.
وتقومُ فِكرةُ الشِّعْرِ الحُرِّ على اعتِمادِه على شَطْرٍ واحِدٍ فحَسْبُ، أي: ليس في البَيتِ عَجُزٌ وصَدْرٌ، وإنَّما هو شَطْرٌ واحِدٌ يقومُ على تفعيلةٍ واحِدةٍ تتكَرَّرُ في البَيتِ، وللشَّاعِرِ تَغييرُ تلك التَّفْعيلةِ في كُلِّ بَيتٍ، أو يلتزِمُ بها في مجموعةِ أبياتٍ ثمَّ يُغَيِّرُها في المجموعة الَّتي تليها، كما له أن يتمَسَّكَ بتلك التَّفْعيلةِ إلى آخِرِ البَيتِ؛ فالشِّعْرُ مِن هذه النَّاحيةِ مَوزونٌ وغيرُ مَوزونٍ؛ موزونٌ لأنَّه يعتَمِدُ على التَّفْعيلةِ، وغيرُ مَوزونٍ لاختِلافِ تَفعيلةِ كُلِّ بيتٍ عن سابقَتِها، ففي الغالبِ الأعمِّ لا تَستطيعُ أنْ تَنسُبَ قَصيدةً إلى بحْرٍ مُعيَّنٍ، وإنْ جاءت بعضُها على بحْرٍ واحدٍ.
والشَّاعِرُ حُرٌّ في أمرِ القافيةِ، فله أنْ يَختارَ أكثَرَ مِن قافيةٍ في القَصيدةِ، دونَ نِظامٍ أو قانونٍ مُعَيَّنٍ.
وقد بدَأَت الدَّعْوةُ إلى ذلك النَّوعِ مِن الشِّعْرِ على أيدي الَّذين تأثَّروا بالأدَبِ الغَربيِّ، خاصَّةً الأمريكيَّ منه، كما في شِعْرِ الشَّاعِرِ الأمريكيِّ والت هوتمان، وفي طَليعةِ هؤلاء: مُطران خليل مُطران، وأبو شادي، ومَدْرَسةُ أبولُّو.
على أنَّ ذلك الشِّعْرَ الَّذي أطلَقوا عليه اسمَ الشِّعْرِ الحُرِّ إنَّما كان يتمَثَّلُ في الخُروجِ عن الوَزنِ الشِّعْريِّ المَخصوصِ، مع ملاحَظةِ أنغامٍ مُوسيقيَّةٍ خاصَّةٍ، وهذا ما يتجَلَّى في شِعرِ شُعَراءِ أبولُّو والمَهْجَرِ، كما كَتَب العَقَّادُ نَفْسُه بَعْضَ القَصائدِ الَّتي أهمل فيها القافيةَ مع مراعاةِ الوَزنِ الشِّعْريِّ للشَّطرَينِ، إلَّا أنَّه اعتذَرَ وتراجَعَ عنها.
ثمَّ تطَوَّر الشِّعْرُ بَعْدَ ذلك على يَدِ نازِكِ الملائِكةِ، وبدر شاكر السَّيَّاب، وغيرِهما، حتَّى صارت القافيةُ أمرًا مُهمَلًا، لا طائِلَ مِن ورائِه في الشِّعْرِ الحديثِ، واستعاض الشُّعَراءُ عنه بالنغمة الدَّاخِليَّةِ المتولِّدةِ مِن تَوالي التَّفْعيلاتِ والتَّسجيعِ بَيْنَ كَلِماتِ الشَّطْرِ الواحِدِ.
وأهمُّ ما يميِّزُ الشِّعْرَ الحُرَّ مِن الخَصائِصِ:
1. الوَحْدةُ الموضوعيَّةُ؛ فالقَصيدةُ كُلُّها بناءٌ مُتكامِلٌ متَّحِدُ الموضوعِ، وكلُّ بيَتٍ يَخدُمُ الموضوعَ بصُورةٍ جُزئيَّةٍ.
2. يعتَمِدُ الشِّعْرُ الحُرُّ على تفعيلةٍ واحِدةٍ تتكَرَّرُ في الأبياتِ، ويَستطيعُ الشَّاعِرُ أن يُغَيِّرَ تلك التَّفْعيلةَ في كُلِّ بِضعةِ أبياتٍ.
3. تختَلِفُ القافيةُ في الأبياتِ اختِلافًا غيرِ مُنضَبِطٍ، وهو ما يُفقِدُ القَصيدةَ الرَّنَّةَ الموسيقيَّةَ والتَّناسُقَ الغِنائيَّ.
4. بساطةُ الألفاظِ وسُهولَتُها، والخَلْطُ بَيْنَ الفُصْحى والعامِّيَّةِ.
5. كَثرةُ الرُّموزِ والإيحاءاتِ في القَصيدةِ؛ ممَّا يُعَسِّرُ الفَهْمَ ويُصَعِّبُ التَّحْليلَ، وقد استغَّلَّ هذا الغُموض بعض ذَوِي الاتجاهات المنْحَرِفة كالحداثيين وغيرهم.
6. الإكثارُ منِ الصُّوَرِ والأخيِلَةِ، الَّتي تساهِمُ في التَّأثُّرِ بالفِكرةِ الَّتي يَطرَحُها الشَّاعِرُ.
وقد صدَرَت أُولى قَصائِدِ هذا النَّوعِ مِن الشِّعْرِ على يَدَي نازِكِ الملائِكةِ، في قَصيدتِها "الكوليرا" سنة 1947م، وفي العامِ نَفْسِه أصدر بدر شاكر السَّيَّاب دِيوانَه "أزهار ذابِلة"، وفيها قَصيدتُه "هل كان حُبًّا؟" الَّتي تَتْبَعُ ذلك النَّوعَ مِنَ الشِّعْرِ الجديدِ [874] يُنظر: ((أهدى سبيل إلى علمَي الخليل)) لمحمود مصطفى (ص: 119)، ((قضايا الشعر المعاصر)) لنازك الملائكة (ص: 5)، ((الأدب العربي الحديث)) لمسعد العطوي (ص: 123). .
وهذا مطلع قصيدة الكوليرا لنازِكِ الملائِكةِ:
سكَنَ اللَّيلُ
أصْغِ إلى وَقْعِ صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْقِ الظُّلْمةِ، تحتَ الصَّمتِ، على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو، تَضْطَرِبُ
حُزنٌ يتدَفَّقُ، يلتَهِبُ
يتعثَّرُ فيه صَدى الآهاتْ
في كُلِّ فُؤادٍ غَلَيانُ
في الكُوخِ السَّاكِنِ أحْزانُ
في كُلِّ مَكانٍ رُوحٌ تَصْرُخُ في الظُّلُماتْ [875] ((ديوان نازك الملائكة)) (2/138).
ومَطلَع قَصيدة بَدر شاكِر السَّيَّاب "هل كان حُبًّا؟":
هل تُسَمِّينَ الَّذي ألقى هُياما؟
أمْ جُنونًا بالأماني أمْ غَراما؟
ما يكونُ الحُبُّ؟ نَوْحًا وابتِساما؟ [876] ((ديوان أزهار ذابلة)) لبدر شاكر السياب (ص: 68).
مَوقِفُ النَّقَّادِ المُحْدَثينَ مِنَ الشِّعْرِ الحُرِّ:
اختَلَف النُّقَّادُ المحْدَثونَ في الشِّعْرِ الحُرِّ وقَبولِه على فَريقَينِ:
الفَريقُ الأوَّلُ: مُؤَيِّدٌ لهذا النَّوعِ مِنَ الشِّعْرِ، وعلى رأسِه طه حسين؛ حَيثُ ذَهَب إلى أنَّ الدَّعْوةَ إلى التَّجْديدِ ليست أمرًا جديدًا أو مُبتكَرًا، بل سَبَق إلى ذلك الشُّعَراءُ القُدَماءُ على اختِلافِ مَذاهِبِهم وعُصورِهم، وإنَّما الجَديرُ بالبَحْثِ في الشِّعْرِ الجَديدِ النَّظَرُ في مُراعاةِ هذا الشِّعْرِ لظُروفِ عَصْرِه ومُقتَضَياتِه، مع الْتِزامِه بالقُوَّةِ والصِّدقِ في العاطِفةِ، ومُوافَقَتِه للُّغةِ وقَواعِدِها.
ولهذا يقولُ في إحدى مَقالاتِه: (إنِّي لا أرى بهذا التَّجديدِ في أوزانِ الشِّعْرِ وقوافيه بأسًا، ولا على الشَّبابِ المجَدِّدينَ أن يَنحَرِفوا عن عَمودِ الشِّعْرِ، فليس عَمودُ الشِّعْرِ وَحْيًا قد نَزَل من السَّماءِ، وقديمًا خالف أبو تمامٍ عَمودَ الشِّعْرِ، وضاق به المحافِظونَ أشَدَّ الضِّيقِ، وهو زَعيمُ الشِّعْرِ العَرَبيِّ كُلِّه غَيرَ مُنازعٍ، ولستُ أرفُضُ الشِّعْرَ لأنَّه انحرَفَ عن عَمودِ الشِّعْرِ القَديمِ، أو خالَفَ الأوزانَ الَّتي أحصاها الخَليلُ، وإنَّما أرفُضُه حينَ يُقَصِّرُ في أمرَينِ: أوَّلُهما: الصِّدقُ والقُوَّةُ وجَمالُ الصُّوَرِ وطَرافتُها.
وثانيهما: أن يكونَ عَربيًّا لا يُدرِكُه فَسادُ اللُّغةِ والإسفافُ في اللَّفْظِ، وقَديمًا قال أَرِسْطو: "يجِبُ قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ أن تتكَلَّمَ اليُونانيَّةَ"، فلْنَقُلْ: يجِبُ قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ أن نتكَلَّمَ العَرَبيَّةَ) [877] ((أهدى سبيل إلى علمي الخليل)) لمحمود مصطفى (ص: 122). .
الفَريقُ الثَّاني: مُعارِضٌ للشِّعرِ الحُرِّ، مُهاجِمٌ له. وهم أكثَرُ النُّقَّادِ والأُدَباءِ. وعلى رأسِهم عبَّاس العقَّاد الَّذي كان قد أيَّد الشِّعْرَ المُرْسَلَ أوَّلَ مَرَّةٍ، وكتب ذلك في مُقَدِّمةِ كِتاب "الدِّيوان"، غَيرَ أنَّه رَجَع عن ذلك، واعتَذَر بأنَّه حين كتَبَ ذلك كان ظانًّا أنَّ الأُذُنَ ستستسيغُ ذلك التَّجْديدَ بَعْدَ فَترةٍ، غَيرَ أنَّ ذلك لم يحْدُثْ، ولا يزالُ إلى اليَومِ تنقَبِضُ النَّفْسُ لاختِلافِ القَوافي بَيْنَ البَيتِ والبَيتِ عن الاستِرسالِ في السَّمْعِ، وأنَّ سَليقةَ العَرَبيِّ تَنفِرُ مِن إلغاءِ القافيةِ كلَّ النُّفورِ [878] يُنظر: ((أهدى سبيل إلى علمي الخليل)) لمحمود مصطفى (ص: 123). .
ومِنَ المُعارِضينَ كذلك للشِّعْرِ الحُرِّ الدُّكتورُ شوقي ضيف؛ حيثُ عَرَض لذلك التَّجْديدِ، وبيَّن أنَّ ذلك التَّجديدَ إنَّما هو عبارةٌ عن خَلعِ هُوِيَّةِ العَرَبيِّ ومَلامِحِه، وارتداءِ هُوِيَّةِ الأجنَبيِّ، وذلك ناتِجٌ عن شِدَّةِ التَّأثُّرِ بالأدَبِ الغَربيِّ، ثمَّ بيَّن أنَّ التَّجْديدَ الحَقيقيَّ إنَّما يكونُ بتطويعِ الشِّعْرِ العَرَبيِّ -بخصائِصِه ولُغَتِه وأُسلوبِه ونِظامِه- لقَضايا العَصْرِ ومُشكِلاتِه، كما كان ذلك عندَ الباروديِّ وشوقي وحافِظ ومُطْران وغَيرِهم؛ فإنَّهم جميعًا تأثَّروا بالثَّقافةِ الغَربيَّةِ، وطوَّروا في الشِّعْرِ بما يناسِبُ رُوحَ عَصْرِهم، فعبَّروا عن مشاكِلِ العَصْرِ ومُستجَدَّاتِه، واستَخدَموا الشِّعْرَ في قَضاياهم الخاصَّةِ والعامَّةِ، إلَّا أنَّهم لم يُغَيِّروا في قواعِدِ ذلك الشِّعْرِ وأُصولِه [879] يُنظر: ((الفن ومذاهبه في الشعر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 515). .

تعريفٌ بأبرَزِ شُعَراءِ الشِّعرِ الحُرِّ:
1- مُحمَّد حَسَن عَوَّاد:
وُلِد محمَّد حَسَن قاسِم عوَّاد في مدينةِ جُدَّةَ سَنةَ (1320ه - 1902م)، وتوفِّيَ سَنةَ (1400ه - 1980م)، والتَحَق العوَّادُ بمدرسةِ الفَلاحِ الأهليَّةِ في جُدَّةَ، إبَّانَ العَهدِ الهاشميِّ، لكنَّه كان جريئًا، له فِكرُه الخاصُّ، فلم يتقبَّلْ تسطيحَ مؤسَّساتِ التَّعليمِ النِّظاميِّ، قال عن نفسِه: ((وكان مِن نتاجِ تمرُّدي على طريقةِ المَدرَسةِ أنِّي عرَفْتُ الشِّعرَ قَبلَ أن أعرِفَ نَظمَ الشِّعرِ)).
وعَمِل العوَّادُ مُدَرِّسًا ومفَتِّشًا في حَقلِ التَّعليمِ، كما عَمِل في المحاكِمِ والأمنِ العامِّ وغُرفةِ جُدَّةَ التِّجاريَّةِ والصِّناعيَّةِ، وامتهَن الصِّحافةَ ورأَس تحريرَ عَدَدٍ من الصُّحُفِ المحلِّيَّةِ، وكان عُضوًا بمجلِسِ الشُّورى، ثمَّ رئيسًا لنادي جُدَّةَ الأدبيِّ، وحضر عِدَّةَ مُؤتمراتٍ، من بينِها مُؤتَمَرُ بيتِ مري في لُبنانَ، ومؤتَمَرُ الأُدَباءِ السُّعوديِّينَ في مكَّةَ المكَرَّمةِ، ومؤتَمَرُ سُوقِ عُكاظٍ الحديثةِ في الرِّياضِ  [880]يُنظر: ((السبق التاريخي لمحمد حسن عواد في كتابة شعر التفعيلة))، محمد بن سالم الصفراني، المجلة العلمية لجامعة الملك فيصل (العلوم الإنسانية والإدارية)، مج11، ع2، 1431هـ- 2010م، (ص270- 272)؛ و((تكملة معجم المؤلفين)) لمحمد خير رمضان (ص473). .
وللعَوَّادِ دَواوينُ ومُؤَلَّفاتٌ في الشِّعرِ والقِصَّةِ تَبلُغُ نحوَ خمسةٍ وعِشرينَ مؤلَّفًا بَينَ مطبوعٍ ومحفوظٍ؛ منها: «آماسٌ وأطلاسٌ»، «عُكاظُ الجديدةُ»، «من وَحيِ الحياةِ العامَّةِ»، «خواطِرُ مُصَرِّحةٌ»، «تأمُّلاتٌ في الأدَبِ والحياةِ»، «مُؤتَمَرُ أُدَباءِ العَرَبِ في لبنانَ»، «محَرِّرُ الرَّقيقِ»، «بقايا الآماسِ»، «مَلحَمةُ السَّاحِرِ العظيمِ»، «نحوُ كِيانٍ جديدٍ»، «في الأفُقِ الملتَهِبِ»، «رُؤى أبولون»، «التَّضامُنُ الإسلاميُّ»، «قِمَمُ الأولمبِ»، «آفاقُ الأولمبِ»، «المنتَجَعُ الفَسيحُ».
وكان العوَّادُ شاعرًا وأديبًا وناقدًا يدعو إلى نَبذِ التقليدِ، والاندِفاعِ إلى التَّجديدِ، ويرى في هذا التَّجديدِ (غايةَ العَصرِ ومَطلَبَ الوَطَنِ والأخلاقِ) كما في كتابِه «خواطِرُ مُصَرِّحةٌ»، وهو أشهَرُ الشُّعَراءِ الرُّومانسيِّينَ في السُّعوديَّةِ، ويقولُ: إنَّه أوَّلُ من فَتَح بابَ الشِّعرِ الحُرِّ، وإنَّه سَبَق بذلك الشَّاعِرةَ نازِك الملائِكة  [881]((تكملة معجم المؤلفين)) لمحمد خير رمضان (ص473- 474). .
شِعْرُه:
قال محمَّد رفيق الإسلام: «أحسَّ العَوَّادُ وزُملاؤه بأنَّ الشِّعرَ لم يكُنْ ذلك الذي نظَمَه شُيوخُه في زمانِهم، وإنَّما هو شيءٌ آخَرُ يُستقى من شِعرِ المَهجريِّينَ والغَربيِّينَ؛ لأنَّ بلاغةَ العَرَبِ أعجَزُ من أن تقومَ به، وأنَّ ما أُثِر عن العَرَبِ في القديمِ والحديثِ لا بلاغةَ فيه، وإنَّما البلاغةُ فيما كَتَب الغربيُّون ونَصارى الشَّاميِّينَ من المُهجَّرينَ! ثمَّ دعا بحماسٍ مُفرطٍ إلى تخليصِ الشِّعرِ ممَّا سمَّاه بالقُيودِ المُثقِلةِ، كالوَزنِ والقافيةِ، كما دعا إلى الوَحدةِ العُضويَّةِ في القصيدةِ العَرَبيَّةِ»  [882]((محمد حسن عواد وتجديده في الشعر)) محمد رفيق الإسلام، المجلة العربية، جامعة داكا، المجلد السادس عشر، يونيه 2018م. .
ومن أشعارِه في دَعوتِه إلى الحَداثةِ والهُجومِ على المحافِظينَ قَولُه في قصيدتِه (إلى المُتَشاعِرينَ)  [883]((محمد حسن عواد وتجديده في الشعر)) محمد رفيق الإسلام، المجلة العربية، جامعة داكا، المجلد السادس عشر، يونيه 2018م. الخفيف:
أيُّها السَّابِحونَ في شاطئِ النَّظمِ
 تُريدونَ في الظَّلامِ ضِياءَ
تَبْعثونَ اليَراعَ خَلْفَ القَوافي
ضَلَّةً كَيْ تُماثِلوا الشُّعراءَ
انْظِموا ما أرْدتُمُ، لم تَنالوا
قُبَّةَ المُشتَري أوِ الجَوْزاءَ
إنَّما الشِّعرُ أيُّها القَومُ رُوحٌ
حَيَّةٌ تَملأُ الشُّعورَ بَهاءَ
وجَمالٌ مِنَ البيانِ تَجلَّى
فأَنارَ العواطفَ الظَّلْماءَ
وجَلالٌ مِن الحَقيقةِ يَبْدو
لأُولِي الذَّوقِ حِكمةً غرَّاءَ
ذاكُمُ الشِّعرُ لا سُطورٌ تَسارَتْ
وقَوافٍ مُنمَّقاتٍ وِلاءَ
ذاكمُ الشِّعرُ لا فَعُولُنْ فَعُولُنْ
فاعِلاتُنْ مُفاعِلُنْ تَتَراءى
إيهِ يا دَولةَ القَرِيضِ عُلُوًّا
وارتِقاءً إلى الجلالِ ارْتِقاءَ
إيهِ يا دَولةَ القَريضِ امتِناعًا
واعتِزازًا على النُّهَى وإباءَ
ألْجِمي ألسُنًا تُريدُ انصِلاتًا
واكفُفِي أنفُسًا تُريدُ اعتلاءَ
واصْعَدي لِلسَّماءِ خَشيةَ غِرٍّ
جاءَ يَبغِيكِ ضلَّةً وغَباءَ
فهو يريدُ أن يُبيِّنَ أنَّ الوَزنَ الشِّعريَّ في حدِّ ذاتِه ليس هو الغايةَ أو المقياسَ الذي يقاسُ به الشِّعرُ، وإنَّما الشِّعرُ هو المعنى الحَيُّ الذي عبَّر عنه عوَّادٌ بقَولِه: (رُوحٌ حيَّةٌ تملأُ الشُّعورَ إباءً)، وكأنَّما يريدُ عوَّادٌ بتعبيرِه الشِّعريِّ من خلالِ هذا الشَّكلِ المحافِظِ الذي يهاجِمُ أصحابَه؛ يريدُ أن يؤكِّدَ قُدراتِه الشِّعريَّةَ، حتى إذا هَجَر الوَزنَ بَعدَ ذلك واتَّجه إلى مَذهَبِه الحَداثيِّ الذي كان عوَّادٌ من أوائِلِ مُبتَكريه، لم يتَّهِمْه أحَدٌ بلُجوئِه إلى الحَداثةِ عَجزًا عن إقامةِ الوَزنِ وسُلوكِ القافيةِ.
وقد أكثَرَ عوَّادٌ من الهجومِ على المحافِظينَ وسَخِر منهم في أكثَرَ من قصيدةٍ مِن شِعرِه؛ فإضافةً إلى الأبياتِ السَّابقةِ قال في قصيدةٍ أخرى [884] الأبيات في ((المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية))، علي علي مصطفى صبح (ص158). الكامل:
مِن كُلِّ مَن جَعلَ التَّشاعُرَ مِهنةً
فإذا انْبَرَيْتَ له أَسَفَّ وبَرْطَمَا
فَقَدِ امتَطَوا عَوْجاءَ حِينَ تأثَّموا
والفِكرُ أكبَرُ أنْ يُرامَ تأثُّمَا
والفَنُّ يَرفُضُ أنْ يكونَ مُمَرَّغًا
والحُسنُ يَشجُبُ أنْ يُداهِنَ نُوَّمَا
مسخَ الفتى منهم رُواءَ شبابِهِ
فكأنَّه هَرِمٌ ولمَّا يَهْرَما
ورسالةُ التَّجديدِ عندَ لَفِيفِهم
خَطبٌ يُراهُ مُذَمَّمًا ومُحَرَّما
هي ذي المفاهيمُ التي أصلَيْتُها
نَقدًا وكانَ كما عرَفْتَ مُسَمَّما
هُمْ هؤلاءِ ولستَ أنتَ، هُمُ الأُولى
قَدْ خُوصِموا نَقدًا مضَى مُتَجهِّما
أمَّا عن مذهَبِه الذي اختاره لنَفسِه وسلَك عليه في شِعرِه؛ فقال الصَّفرانيُّ: (يبني العوَّادُ نصَّه على نظامِ شِعرِ التَّفعيلةِ؛ فقد أقام وَزنَه على أساسِ تفعيلةِ (فاعِلاتُنْ) التي يقومُ عليها بحرٌ صافٍ هو بحرُ الرَّمَلِ، وقد جعل العوَّادُ من تفعيلتِه وَحدةً مُوسيقيَّةً مُستَقِلَّةً بذاتِها، ووَّزعها بأعدادٍ مُتفاوِتةٍ على سُطورِ النَّصِّ، من غيرِ أن يلتَزِمَ بنظامٍ ثابتٍ في التَّوزيعِ ... واستنادًا إلى تاريخِ نَشرِه في صحيفةِ القِبلةِ، الواقِعِ في سَنةِ 1921م؛ نستطيعُ القَولَ: إنَّ الشَّاعِرَ السُّعوديَّ محمَّد حَسَن عوَّاد قد سَبَق كلًّا من: محمَّد فريد أبو حديد، وعلي أحمد باكَثير، ونازِك الملائكة، وبَدر شاكِر السَّيَّاب في كتابةِ شِعرِ التَّفعيلةِ  [885]((السبق التاريخي لمحمد حسن عواد في كتابة شعر التفعيلة)) لمحمد بن سالم الصفراني (ص274- 292). .
ومِن شِعرِ محمَّد حَسَن عوَّاد الحداثيِّ قصيدةُ «نَطلُبُ العِزَّةَ أو يُهراقُ دَمٌ»  [886]المصدر السابق (ص295- 298). :
نَهْضَتي
بي فَسِيري
أَمَمًا نحوَ الجَلالْ
ثُمَّ مُدِّي لي رُواقًا مِن جِهادْ
في ميادينِ الحَياهْ
إنَّما يَرقَى بَنُو الأوطانِ بالسَّيرِ الأَمَمْ
وقد تناوَل العَوَّادُ في شِعرِه قضايا الأمَّةِ العَرَبيَّةِ، داعيًا قادَتَها إلى أن يَسلُكوا سُبُلَ النَّهضةِ؛ حتَّى تعودَ الأمَّةُ إلى صَدارتِها التي كانت عليها من قَبلُ، وهو في هذا الصَّدَدِ يُكثِرُ من الحَسرةِ والألمِ على واقِعِ الأمَّةِ الذي آلت إليه، ومن ذلك قَولُه  [887]المصدر السابق (ص301- 302). :
هَتَفَ القَلَمْ
فشَجا الأُمَمْ
ودَعا بني العَرَبِ الكِرامِ إلى الصُّعودْ
نحوَ الحقيقةِ غيرَ أنَّهمُ رُقودْ
ذهَبَتْ سُدًى صَرَخاتُ قلبِكَ يا يَراعْ
عِشْنا سُدَى
طُولَ المَدَى
أفلا زِحامَ على الحياةِ ولا اقتِحامْ
حتى متى قُوَّادُ فِكرتِنا نِيامْ
هُبُّوا معًا نُعنَى بِفَوضَى الاجتِماعْ
حكَّامَنا
خُطَّابَنا
كتَّابَنا شُعَراءَنا المتيقِّظينْ
لا تُهمِلوا مَرَضًا ألمَّ بنا سِنِينْ
داوُوا الحياةَ وبرِّروا عِلَلَ الصِّراعْ
سُلُّوا اليَراعْ
ودَعُوا النِّزاعْ
وابغوا العِراكَ فلا حياةَ بلا عِراكْ
واستَمطِروا هِمَمًا تحِنُّ إلى الحِراكْ
وإلى الحياةِ وغادِروا سَقَطَ المَتاعْ
ليس المديحْ
يَشفي الجَريحْ
ويحلِّلُ الأوصابَ مِنْ ألمِ الخُمولْ
ما إنْ يُرامُ المجدُ في أدبٍ يزولْ
المجدُ رفْعُ الرُّوحِ عن نومِ التِّلاعْ
وخُذوا الزِّمامْ
وإلى الأمامْ
فهُنا على لُجَجِ المزاعمِ زَحمَهْ
تَقِفُ النُّفوسُ بها وما هي نِعمَهْ
أبدًا وإنَّ الوَهمَ يجتَذِبُ الضَّياعْ
وهذا المذهَبُ الجديدُ الذي سلَكه محمَّد حَسَن عَوَّاد من الشِّعرِ الحُرِّ؛ قد أثبت الواقِعُ أنَّه أضرَّ بالشِّعرِ العَرَبيِّ ولم ينفَعْه؛ قال الشَّاعِرُ حَسَن عبد اللهِ القُرَشي، وهو شاعِرٌ سُعوديٌّ كان يَنظِمُ الشِّعرَ العَموديَّ، ويكتُبُ شِعرَ التَّفعيلةِ: «والذي يضُرُّ -في اعتقادي- بقضيَّةِ الشِّعرِ الحُرِّ ويحُدُّ من عناصِرِ رُسوخِها وتثبيتِ جُذورِها؛ هو أنَّ كثيرًا ممَّن يَكتُبونه يَجِدونه مَعْبرًا سَهلًا لرَصدِ خَطَراتِهم الشِّعريَّةِ، مُبتَعِدينَ عن مناهجِه وأشكالِه الصَّحيحةِ، وبعضُهم -وهذا مؤسِفٌ حَقًّا- ضعيفُ اللُّغةِ، هزيلُ التَّعبيرِ إلى حَدِّ الفَقرِ والخَواءِ، فتأتي بالتَّالي نماذِجُهم الشِّعريَّةُ غايةً في الرَّكاكةِ والابتِذالِ والضُّحولةِ والإِصفاءِ» [888] مِن كلمة للشاعر حسن عبد الله القرشي في موقع الإثنينية الإلكتروني. http://alithnainya.com/ .
2- نازِك الملائِكة:
وُلِدَتْ نازك الملائِكة عام 1923م، في بغدادَ بالعِراقِ، وحصَّلَت دُروسَها من الابتدائيَّةِ إلى الثَّانويَّةِ في بغدادَ، وتخرَّجَت سَنةَ 1939م من دارِ المعلِّمينَ العالية ببَغدادَ، فَرع اللُّغةِ العَرَبيَّةِ، وتابعَت دروسًا خاصَّةً في جامعةِ بِرْنِسْتون وفي جامِعةِ وِسْكونسِنْ لإعدادِ الماجستيرِ في الأدَبِ المقارِنِ، ثمَّ عَمِلت بالتَّدريسِ في جامِعاتِ: بغدادَ والبَصرةِ والكُوَيتِ، وأقامت في لَنْدَن والولاياتِ المتَّحِدةِ، وزارت فرَنسا وإيطاليا وسُوريَا ومِصرَ والكُوَيتِ، وتُوُفِّيتْ سَنةَ 2007م.
ولنازِك الملائكة بجانِبِ دَواوينِها مُؤَلَّفاتٌ أُخرى في الأدَبِ والنَّقدِ.
دَورُها في اتِّجاهِ شِعرِ التَّفعيلةِ:
قالت نازِك الملائِكة: (كانت بدايةُ حَرَكةِ الشِّعرِ الحُرِّ سَنةَ 1947م، في العِراقِ، ومن العِراقِ -بل من بغدادَ نَفسِها- زحَفَت هذه الحَرَكةُ وامتدَّت حتى غَمَرت الوَطَنَ العَرَبيَّ كُلَّه، وكادت -بسَبَبِ تطرُّفِ الذين استجابوا لها- تَجرُفُ أساليبَ شِعرِنا العَرَبيِّ الأخرى جميعًا.
وكانت أوَّلَ قَصيدةٍ حُرَّةِ الوَزنِ تُنشَرُ قَصيدتي المُعَنْونةُ (الكُولِيرا)، وفي النِّصفِ الثَّاني من الشَّهرِ نَفسِه صَدَر في بغدادَ ديوانُ بَدر شاكر السَّيَّاب (أزهارٌ ذابلةٌ)، وفيه قصيدةٌ حُرَّةُ الوزنِ له من بحرِ الرَّمَلِ عُنوانُها (هل كان حُبًّا؟) وقد علَّق عليها في الحاشيةِ بأنَّها (من الشِّعرِ المُختَلِفِ الأوزانِ والقَوافي)، على أنَّ ظُهورَ هاتينِ القصيدتَينِ لم يَلفِتْ نظَرَ الجُمهورِ، وكان تعليقُ مجلَّةِ (العُروبة) على قَصيدتي هو التَّعليقَ الوحيدَ على هذه النَّقلةِ في أُسلوبِ الوَزنِ، ومَضَت سَنَتانِ صامتتانِ لم تَنشُرْ خلالَهما الصُّحُفُ شِعرًا حُرًّا على الإطلاقِ.
وفي صيفِ سَنةِ 1949م صدَر ديواني (شظايا ورَمادٌ)، وقد ضمَّنتُه مجموعةً من القصائِدِ الحُرَّةِ، وقَفْتُ عندَها في مُقدِّمةِ الكِتابِ المُسهَبةِ، وأشرتُ إلى وجهِ التجديدِ في ذلك الشِّعرِ، وبيَّنتُ موضِعَ اختلافِه عن أُسلوبِ الشَّطرينِ، ثمَّ جئتُ بمثالٍ من تنسيقِ التَّفعيلاتِ، وعيَّنتُ بعضَ البُحورِ الخليليَّةِ التي تصلُحُ لهذا الشِّعرِ، وما كاد هذا الدِّيوانُ يظهَرُ حتى قامت له ضَجَّةٌ شديدةٌ في صُحُفِ العِراقِ، وأُثيرَت حولَه مُناقَشاتٌ حاميةٌ في الأوساطِ الأدبيَّةِ في بغدادَ، وكان كثيرٌ من المعلِّقين ساخِطينَ ساخِرينَ، يتنبَّؤون للدَّعوةِ كُلِّها بالفشَلِ الأكيدِ، غيرَ أنَّ استجابةَ الجُمهورِ الكبيرِ كانت تحدُثُ في صَمتٍ وخفاءٍ خلالَ ذلك، فما كادت الأشهُرُ العَصيبةُ الأولى من ثورةِ الصُّحُفِ والأوساطِ تنصَرِمُ، حتى بدأت تظهَرُ قصائِدُ حُرَّةُ الوزنِ يَنْظِمُها شُعَراءُ يافعون في العِراقِ ويبعَثون بها إلى الصُّحُفِ، وبدأت الدَّعوةُ تنمو وتتَّسِعُ)  [889]((قضايا الشعر المعاصر)) لنازك الملائكة (ص35- 37). .
هكذا نسَبَت نازك الملائكة إلى نفسِها الرِّيادةَ في هذا المذهَبِ الجديدِ، وقد تقدَّم أنَّ محمَّد حسَن عوَّاد قد سبقها إليه، وقالت سلمى الجيوسي متابِعةً نازك الملائكة في التَّأكيدِ على ريادتِها في هذا الاتجاهِ: (وكان ديوانُ نازك الملائكة الثَّاني بعنوانِ «شظايا ورَمادٌ» الذي نُشِر ببغدادَ، هو الذي بدأ حركةَ الشِّعرِ الحُرِّ رسميًّا وإعلاميًّا، وبالرَّغمِ من أنَّ إحدى عَشرةَ قصيدةً فقط من بَينِ قصائِدِ الدِّيوانِ الاثنتَينِ والثَّلاثين كُتِبت بالشِّعرِ الحُرِّ؛ فإنَّ الشَّاعرةَ في مقَدِّمتِها تعرِضُ آراءَها في الشِّعرِ الحُرِّ؛ هَدَفِه وأفضليَّتِه الفنِّيَّةِ، وقد كسَبت الحركةُ دَعمًا عندما نشَر بدر شاكر السَّيَّاب ديوانَه الثَّاني (أساطير) عام 1950م في النَّجَفِ، وفيه بِضعُ قصائِدَ من الشِّعرِ الحُرِّ)  [890]((الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث)) للدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي (ص598). .
مَوقِفُها من الشِّعرِ القديمِ ومن اللُّغةِ العَرَبيَّةِ:
هاجمت نازك الملائكة -كغَيرِها من الحَداثيِّينَ- المذهَبَ الشِّعريَّ القديمَ المحافِظَ، وممَّا قالتْه في ذلك: (وقد يرى كثيرون معي أنَّ الشِّعرَ العربيَّ لم يقِفْ بَعدُ على قدَمَيه بَعدَ الرَّقدةِ الطَّويلةِ التي جثَمَت على صدرِه طيلةَ القُرونِ المنصَرِمةِ الماضيةِ؛ فنحن عمومًا ما زِلْنا أسرى تُسيِّرنا القواعِدُ التي وضعها أسلافُنا في الجاهليَّةِ وصَدرِ الإسلامِ، ما زِلْنا نلهَثُ في قصائدِنا، ونجُرُّ عواطِفَنا المقيَّدةَ بسلاسِلِ الأوزانِ القديمةِ وقَرقَعةِ الألفاظِ الميِّتةِ، وسُدًى يحاوِلُ أفرادٌ منَّا أن يخالِفوا، فإذ ذاك يتصدَّى لهم ألفُ غَيُورٍ على اللُّغةِ، وألفُ حريصٍ على التَّقاليدِ الشِّعريَّةِ التي ابتكَرها واحدٌ قديمٌ أدرك ما يناسِبُ زمانَه، فجَمَّدْنا نحن ما ابتكَر واتَّخَذْناه سُنَّةً، كأنَّ سلامةَ اللُّغةِ لا تَتِمُّ إلَّا إنْ هي جَمَدت على ما كانت عليه منذُ ألفِ عامٍ، وكأنَّ الشِّعرَ لا يستطيعُ أن يكونَ شِعرًا إن خرجَت تفعيلاتُه على طريقةِ الخليلِ)  [891]((ديوان نازك الملائكة.. الأعمال الكاملة)) (2/ 7- 8). .
شِعْرُها:
نازك الملائكة لها شِعرٌ مَوزونٌ مُقفًّى على المذهَبِ المحافِظِ، لكِنَّها هجَرَت ذلك الاتِّجاهَ واتَّخَذت لنَفسِها اتِّجاهَ شِعرِ التَّفعيلةِ، كما سبق ذِكرُه، ومن شِعْرِها ذي الاتِّجاه الحَداثيِّ الذي سلَكت فيه واعتَمَدتْه لنفسِها مذهبًا، وافتخَرت بريادتِها فيه على حَدِّ قولِها (مَرثيَّةُ يومٍ تافهٍ)  [892]((ديوان نازك الملائكة، الأعمال الكاملة)) (2/ 94- 97). تفعيلة الرَّمَل:
لاحتِ الظُّلمةُ في الأفْقِ السَّحيقِ
وانتَهى اليومُ الغَريبُ
ومضَتْ أصداؤهُ نحوَ كُهوفِ الذِّكرياتِ
وغدَتْ تَمضي كما كانت حَياتي
شَفةٌ ظَمأى وكُوبٌ
عكَسَتْ أعماقُهُ لونَ الرَّحيقِ
وإذا ما لَمَسَتْه شَفَتايا
لم تَجِدْ مِنْ لذَّةِ الذِّكرى بَقايا
لم تَجِدْ حتَّى بَقايا
انتَهى اليومُ الغَريبُ
انتَهى وانتَحبَتْ حتَّى الذُّنوبُ
وبَكَتْ حتَّى حَماقاتي الَّتي سمَّيتُها
ذِكرَياتي......
وقالت في قصيدةِ (جامعةُ الظِّلالِ)  [893]((ديوان نازك الملائكة)) (2/ 101- 105). :
أخيرًا لمسْتُ الحياهْ
وأدركتُ ما هي أيُّ فراغٍ ثَقيلْ
أخيرًا تبيَّنتُ سرَّ الفقاقيعِ واخَيبَتاهْ
وأدركتُ أنِّي أضعْتُ زمانًا طويلْ
ألُمُّ الظِّلالَ وأخبِطُ في عَتْمة المُستحيلْ
ألمُّ الظِّلالَ ولا شيءَ غيرُ الظِّلالْ
ومرَّتْ عليَّ اللَّيالْ
وها أنا أُدْرِكُ أنِّي لمسْتُ الحياهْ
وإن كنتُ أصرُخُ واخَيبَتاهْ
ومرَّ عليَّ زمانٌ بطيءُ العُبورْ
دقائقُهُ تتمطَّى مَلالًا كأنَّ العُصورْ
هنالكَ تغفو وتنسى مَواكبُها أن تدورْ
زمانٌ شديدُ السَّوادِ، ولَونُ النُّجومْ
يذكِّرُني بعُيونِ الذِّئابْ
وضوءٌ صغيرٌ يلوحُ وراءَ الغُيومْ
...
والعَجيبُ حقًّا أنَّ نازك الملائِكةِ التي حاربت الاتجاهَ المحافِظَ وهاجمَت اللُّغةَ العَرَبيَّةَ، وطالما فخَرت بالرِّيادةِ -التي نسبَتْها إلى نفسِها- في شِعرِ التَّفعيلةِ؛ تقولُ بَعدَ ذلك عنه: (وإنِّي لعلى يقينٍ مِن أنَّ تيارَ الشِّعرِ الحُرِّ سيتوقَّفُ في يومٍ غيرِ بعيدٍ، وسيرجِعُ الشُّعَراءُ إلى الأوزانِ الشَّطريَّةِ بَعدَ أن خاضوا في الخُروجِ عليها والاستِهانةِ بها، وليس معنى هذا أنَّ الشِّعرَ الحُرَّ سيموتُ، وإنَّما سيبقى قائمًا يستعمِلُه الشَّاعرُ لبعضِ أغراضِه ومقاصِدِه، دونَ أن يتعصَّبَ له ويترُكَ الأوزانَ العَرَبيَّةَ الجَميلةَ)  [894]((اتجاهات الشعر العربي المعاصر)) للدكتور إحسان عباس (ص30). .

انظر أيضا: