المطلَبُ الأوَّلُ: تعريفُ الشِّعرِ المنثورِ ونَشأتُه:
يُدعَى هذا النَّوعُ من الشِّعرِ بالشِّعرِ الجديدِ، وهو باللُّغةِ الإنجليزيَّةِ (Free Verse)، وباللُّغةِ الفَرَنسيَّةِ (Vers Libres)، أي: الشِّعرُ الحُرُّ، أو بالحَريِّ: المُطلَقُ، وهو آخِرُ ما اتَّصل إليه الارتقاءُ الشِّعريُّ عندَ الإفرنجِ، وبالأخَصِّ عندَ الأمريكيِّينَ والإنجليزِ؛ فـ(مِلْتُن وشِكْسِبير) أطلقا الشِّعرَ الإنكليزيَّ من قيودِ القافيةِ، و(وُلْت وِتْمَن) الأمريكيُّ أطلقه من قيودِ العَروضِ، كالأوزانِ الاصطلاحيَّةِ والأبحُرِ العُرفيَّةِ، على أنَّ لهذا الشِّعرِ المُطلَقِ وَزنًا جديدًا مخصوصًا، وقد تجيءُ القصيدةُ فيه من أبحُرٍ عديدةٍ متنوِّعةٍ.
و(وُلْت وِتْمَن) هو مخترِعُ هذه الطَّريقةِ وحامِلُ لوائِها، وقد انضمَّ تحت اللِّواءِ بَعدَ موتِه كثيرٌ من شُعَراءِ أوربَّا العَصريِّينَ، وفي الوِلاياتِ المتَّحِدةِ اليومَ (جمعيَّاتٌ وِتْمَنيَّةٌ) ينضَمُّ إليها فريقٌ كبيرٌ من الأُدَباءِ
[895] يُنظر ((الريحانيات)) لأمين الريحاني (ص271). .
فهذا الاتِّجاهُ الشِّعريُّ هو اتِّجاهٌ جديدٌ ضِمنَ اتِّجاهاتِ الحَداثةِ، اعتمد أصحابُه في كلامِهم النَّثريِّ على الصُّوَرِ والأخيِلةِ وغَيرِ ذلك من خصائِصِ الشِّعرِ ما عدا الوَزنَ والقافيةَ اللَّذَينِ هما من قواعدِ الشِّعرِ.
ويُعَدُّ هذا الاتجاهُ امتدادًا لاتجاهِ الشِّعرِ الحُرِّ؛ فإنَّ محمَّد حَسَن عوَّاد الذي تُنسَبُ إليه الأسبقيَّةُ في الشِّعرِ الحُرِّ -كما ذكَرْنا سابقًا- قد آل به الأمرُ إلى كتابةِ ذلك اللَّونِ الذي أسمَوه بالشِّعرِ المنثورِ؛ حيثُ قال
[896] النص في جريدة الرياض، ع14140، 22 صفر 1728هـ- 12 مارس 2007م. :
يا حبيبي المحتَجِبَ وراءَ غَيمةٍ رَقيقة
غَيمةٍ بَلَغَت من الرِّقَّةِ مُستوى السَّرابِ
يا حُبِّي الأخيرَ باعتبارِ الزَّمَن
ويا حُبِّي الأوَّلَ باعتبارِه حَرارةَ النَّبضِ في الحَنايا
أنت تدري ما هِبَةُ الذَّوبِ لرُوحي
الذي جسَّدَتْه حياتي حَنينًا إليك
وحَدَبًا عليك
وارتماءً في يَدَيك
لكَمْ هو عَميقٌ هذا الحَنينُ!!
وكم هو مُشَهي هذا الحَدَبُ!!
وكم هو سعيدٌ هذا الارتماءُ!!
إنَّ لياليَّ الحالمةَ مَدينةٌ بأحلامِها لسَيِّدةِ النُّجوم
أسابيعَ كان شِعارُها: إنِّي أريدُ، إنِّي أريدُ.. وأريدُ المزيدَ.
ويُرَدِّدُ صَداها السَّاحِرُ: وأريدُ المَزيدَ.
أمَّا حوريَّةُ الخَمليشيُّ فقد نسَبَت أسبقيَّةَ الشِّعرِ المنثورِ إلى أمين الرَّيحانيِّ، فقالت: (وتُعتَبَرُ قصيدةُ "الحياةُ والموتُ" أوَّلَ قصيدةٍ من الشِّعرِ المنثورِ، نشَرها الرَّيحانيُّ في مجلَّةِ الهِلالِ سَنةَ 1905م، ويُعتَبَرُ الرَّيحانيُّ صاحِبَ فَضلِ السَّبقِ في إدخالِ هذا الشِّعرِ المنثورِ إلى الشِّعرِ العَرَبيِّ)
[897]«الشعر المنثور والتحديث الشعري» لحورية الخمليشي (ص67- 68). .
بَينَ الشِّعرِ الحُرِّ والمَنثورِ:يتجَلَّى من تعريفاتِ البلاغيِّينَ والنُّقَّادِ لمُصطَلَحَيِ الشِّعرِ الحُرِّ والشِّعرِ المنثورِ أنَّ الشِّعرَ الحُرَّ وإن تخفَّف كثيرًا من الوَزنِ والقافيةِ إلَّا أنَّه ما زال محتَفِظًا بشيءٍ منهما؛ فالتَّفعيلةُ موجودةٌ فيه وإن اختلَفَت، والقوافي وإن تغايَرَت فإنَّها تُزَيِّنُ خاتمةَ الأبياتِ، بخلافِ الشِّعرِ المنثورِ؛ حيثُ لا يتمَسَّكُ بوزنٍ، والقوافي وإن أتت فيه فليس لها ضابطٌ ترجِعُ إليه، وإنَّما هي أسجاعٌ تتوارَدُ على فِقْراتِ النَّثرِ وعِباراتِه؛ ولهذا وقف اللُّغَويُّون والشُّعراءُ من ذلك اللَّونِ الجديدِ موقِفَ العَداءِ والإنكارِ.
مَوقِفُ أنصارِ الشِّعرِ المنثورِ من اللُّغةِ العَرَبيَّةِ:اتَّخذ أصحابُ الشِّعرِ المنثورِ مَوقِفًا معاديًا من اللُّغةِ العَرَبيَّةِ، ويمكِنُ في هذا الصَّدَدِ عَرضُ قَولِ جُبران خليل جُبران
[898]المصدر السابق (ص82- 83)، وقد وصفتِ الخمليشي هذا النص فقالت: إنه من الشعر المنثور. :
(لكُم لُغَتُكم ولي لُغَتي
لكُم من اللُّغةِ العَرَبيَّةِ ما شِئتُم، ولي منها ما يوافِقُ أفكاري وعواطفي.
لكُم منها الألفاطُ وترتيبُها، ولي منها ما تُومِئُ إليه الألفاظُ ولا تَلمُسُه، ويصبو إليه التَّرتيبُ ولا يَبلُغُه.
لكُم منها جُثَثٌ مُحَنَّطةٌ باردةٌ جامدةٌ، تحسَبونَها الكُلَّ بالكُلِّ، ولي منها أجسادٌ لا قيمةَ لها بذاتِها، بل كُلُّ قيمتِها بالرُّوحِ التي تحُلُّ فيها.
لكُم منها مَحجَّةٌ مُقَرَّرةٌ مقصودةٌ، ولي منها واسِطةٌ مُتقَلِّبةٌ لا أستكفي بها إلَّا إذا أوصَلَت ما يختَبِئُ في قلبي إلى القُلوبِ، وما يجولُ في ضميري إلى الضَّمائرِ.
لكُم منها قواعِدُها الحاتمةُ وقوانينُها اليابسةُ المحدودةُ، ولي منها نَغْمةٌ أحوِّلُ رنَّاتِها ونَبَراتِها وقراراتِها إلى ما تُثبِتُه رَنَّةً في الفِكرِ، ونَبرةً في المَيلِ، وقرارًا في الحاسَّةِ.
لكُم منها القواميسُ والمُعجَماتُ والمُطَوَّلاتُ، ولي منها ما غربَلَتْه الأذُنُ وحَفِظَته الذَّاكرةُ من كلامٍ مألوفٍ مأنوسٍ تتداولُه ألسِنةُ النَّاسِ في أفراحِهم وأحزانِهم.
لكُم لُغتُكم ولي لُغَتي.
لكُم منها العَروضُ والتَّفاعيلُ والقَوافي، وما يُحشَرُ فيها من جائزٍ وغيرِ جائزٍ، ولي منها جَدولٌ يتسارَعُ مُترَنِّمًا نحوَ الشَّاطئِ، فلا يدري ما إذا كان الوَزنُ في الصُّخورِ التي تقِفُ في سبيلِه، أم القافيةُ في أوراقِ الخريفِ التي تسيرُ معه.
لكُم لُغتُكم ولي لُغَتي.
لكُم لُغتُكم عجوزًا مُقعَدةً، ولي لُغَتي صَبيَّةً غارقةً في بحرٍ من أحلامِ شَبابِها، وما عسى أن تصيرَ إليه لُغتُكم وما أودَعْتُموه لُغتَكم عندَما يُرفَعُ السِّتارُ عن عَجوزِكم وصَبيَّتي؟!.
أقولُ: إنَّ لُغتَكم ستصيرُ إلى اللَّاشيءِ.
أقولُ: إنَّ السِّراجَ الذي جَفَّ زيتُه لن يضيءَ طويلًا.
أقولُ: إنَّ الحياةَ لا تتراجَعُ إلى الوَراءِ.
أقولُ: إنَّ أخشابَ النَّعشِ لا تُزهِرُ ولا تُثمِرُ.
أقولُ لكم: إنَّ ما تحسَبونَه بيانًا ليس بأكثَرَ مِن عُقمٍ مُزرَكشٍ وسَخافةٍ مُكَلَّسةٍ.
أقولُ لكم: إنَّ النَّظْمَ والنَّثرَ عاطِفةٌ وفِكرٌ، وما زاد على ذلك فخُيوطٌ واهيةٌ وأسلاكٌ مُتقَطِّعةٌ!).
فهذا هُجومٌ واضِحٌ على اللُّغةِ العَرَبيَّةِ، ليس فيه تأويلٌ، وليس له محمَلٌ آخَرُ.
موقِفُ النُّقَّادِ من الشِّعرِ المنثورِ: كثيرٌ من النُّقَّادِ باختلافِ اتِّجاهاتِهم ومَدارِسِهم هاجموا الشِّعرَ المنثورَ، وعرَفوا أنَّه نمطٌ دخيلٌ على الشِّعرِ العَرَبيِّ، حتى روَّادُ مَدرَسةِ الشِّعرِ الحُرِّ الذين تحلَّلوا من عَمودِ الشِّعرِ العَرَبيِّ شاركوا في الهجومِ على ذلك النَّثرِ الذي أقحَموه في فَنِّ الشِّعرِ؛ قالت نازك الملائِكة: (فلقد بدَأْنا مؤخَّرًا نقرأُ قصائِدَ لا قافيةَ لها على الإطلاقِ، وارتفعَت أصواتٌ غيرُ قليلةٍ تنادي بنَبذِ القافيةِ نبذًا تامًّا، وكان هذا صدًى للشِّعرِ الغَرْبيِّ، وهو قد عرَف الشِّعرَ المُرسَلَ الذي يخلو من القافيةِ منذُ مَسرَحِ شِكْسِبير، فكان هذا الشَّاعِرُ الإنكليزيُّ الكبيرُ يكتُبُ شِعرًا لا قافيةَ له في الغالِبِ، فلا يأتي بقافيةٍ إلَّا في خاتمةِ الفصلِ إيذانًا بانتهائِه، والشِّعرُ الغَرْبيُّ اليومَ أغلَبُه بلا قافيةٍ، ومن هناك جاءَتنا الفِكرةُ، فاستجاب لها بعضُ الشَّبابِ ومضَوا في تطبيقِها، على أنَّنا لا نملِكُ إلَّا أن نلاحِظَ أنَّ الذين ينادونَ اليومَ بنَبذِ القافيةِ هم غالبًا الشُّعراءُ الذين يرتَكِبونَ الأخطاءَ النَّحويَّةَ واللُّغَويَّةَ والعَروضيَّةَ؛ ولذلك نخشى أن تكونَ مُناداةُ بعضِهم بها تهرُّبًا إلى السُّهولةِ وتخلُّصًا من العِبءِ اللُّغَويِّ الذي تُلقيه القافيةُ على الشَّاعِرِ، وأنا أؤمِنُ بأنَّ الحُرِّيَّةَ ينبغي ألَّا تُمنَحَ إلَّا لإنسانٍ قادرٍ على أن يلتَزِمَ القُيودَ، وإلَّا أصبحَت قَيدًا)
[899]((قضايا الشعر المعاصر)) لنازك الملائكة (ص188- 189). .
وقالت في موضِعٍ آخَرَ: (نزَع فريقٌ من الشُّبَّانِ إلى التَّطَرُّفِ في التَّحلُّلِ من الأوزانِ، وظَنَّ الشِّعرَ نثرًا، وتوهَّم الوزنَ والقافيةَ قيدًا، ونظَم المقطوعاتِ المنثورةَ ودعاها شِعرًا، وأضاع بذلك عُنصرًا أساسيًّا من أهَمِّ خصائِصِ الشِّعرِ، وهو موسيقى التَّفعيلةِ؛ لأنَّ الوزنَ والقافيةَ -كما نرى- ليسا قيدَينِ في الشِّعرِ من حَقِّ الشَّاعِرِ أن ينطَلِقَ ويتحرَّرَ منهما، وإنَّما هما خاصَّتانِ من أهمِّ خصائِصِ الشِّعرِ الجديدِ؛ ليتمَيَّزَ بهما عن النَّثرِ الفَنِّيِّ)
[900]المصدر السابق (ص348- 349). .
وفي المقابِلِ برز نقَّادٌ آخَرون يدافِعون عن ذلك النَّمَطِ من الشِّعرِ الجديدِ، وهم مع دفاعِهم هذا لا يُنكِرون أنَّ ذلك النَّمَطَ الجديدَ واردٌ إلينا من الغَرْبِ، قالت حوريَّة الخَمليشيُّ: (وهكذا نلاحِظُ أنَّه كُلَّما اتَّصل العَرَبُ بالشِّعرِ الأورُبِّيِّ بحثوا عن وسائِطَ جديدةٍ تُمكِّنُهم من الخُروجِ بالقصيدةِ العربيَّةِ إلى أشكالٍ فَنيَّةٍ حديثةٍ؛ لهذا تعدَّدت مُصطَلَحاتُ الشِّعرِ بتعَدُّدِ تصنيفاتِه، فوَجد النُّقَّادُ أنفُسَهم أمامَ مُصطَلحاتٍ متعَدِّدةٍ تُحيلُ على جِنسٍ شِعريٍّ واحدٍ، وهو الشِّعرُ المنثورُ)
[901]((الشعر المنثور والتحديث الشعري)) لحورية الخمليشي (ص60). .
وقالت وهي تُؤرِّخُ للشِّعرِ المنثورِ: (ولعَلَّ الرَّيحانيَّ كان يَهدُفُ إلى تحديثِ الشِّعرِ العَرَبيِّ؛ ليرقى إلى مُستوى شِعرِ الأُمَمِ الراقيةِ المُعاصرةِ له، متَّخِذًا من شِعرِها النَّموذجَ الشِّعريَّ الذي يجبُ أن يحذوَ حَذوَه الشُّعَراءُ العَرَبُ)
[902]المصدر السابق (ص67). .
فهي بذلك تؤكِّدُ على الدَّعوةِ إلى الشِّعرِ المنثورِ واتِّخاذِه مَثَلًا أعلى بَينَ الشُّعَراءِ العَرَبِ.
وقالت سلمى الجيوسيُّ: (إنَّ القولَ بأنَّ اللُّغةَ من خِلالِ الشِّعرِ المنثورِ يمكِنُها أن تتحَرَّرَ وتقترِبَ أخيرًا من لُغةِ الكلامِ اليوميِّ- فِكرةٌ لا تقومُ على أساسٍ راسخٍ؛ فالشِّعرُ المنثورُ عندَ أَدُونيسَ مثلًا يكشِفُ عن طبيعةِ اللُّغةِ نَفسِها في شِعرِه المنظومِ، ولا شَكَّ في أنَّنا لا نجِدُ أيَّ عَلاقةٍ بَينَ شِعرِه والمُصطَلَحِ الاجتماعيِّ المعاصِرِ، كما أنَّ لُغتَه أقرَبُ إلى القديمِ من لُغةِ أغلَبِ شُعَراءِ جيلِه، وهو شديدُ التَّأثُّرِ بالشَّاعِرِ الفَرنسيِّ سان جون بِيرْس، ولُغتُه غَنيَّةٌ وغيرُ عاديَّةٍ، كلُغةِ بِيرْس، وهو مُولَعٌ مِثلَه بلُغةِ
البلاغةِ العاليةِ)
[903]((الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث)) لسلمى الجيوسي (ص699). .
وأنصارُ هذا الاتِّجاهِ حاولوا عَبَثًا التَّأصيلَ لمذهَبِهم من خِلالِ نِسبةِ بعضِ النُّصوصِ النَّثريَّةِ إلى الشِّعرِ النَّثريِّ، كما فعلوا في نصٍّ نثريٍّ لأحمَد شوقي، يقولُ فيه: (الوَطَنُ مَوضِعُ الميلاد، ومجمَعُ أوطارِ الفُؤاد، ومَضجَعُ الآباءِ والأجداد، الدُّنيا الصُّغرى، وعَتَبةُ الدَّارِ الأُخرى، الموروثُ الوارِث، الزَّائِلُ عن حارثٍ إلى حارث، مُؤَسِّسٌ لِبانٍ، وغارِسٌ لجانٍ، وحَيٌّ مِن فانٍ، دَوالَيك حتى يَكسِفَ القَمَران، وتَسكُنَ هذي الأرضُ مِن دَوَران.
أوَّلُ هواءٍ حَرَّك المِروحَتَين، وأوَّلُ تُرابٍ مَسَّ الرَّاحَتَين، وشُعاعُ شَمسٍ اغتَرَق العَين؛ مجرى الصِّبا ومَلعَبُه، وعُرسُ الشَّبابِ ومَوكِبُه، ومُرادُ الرِّزقِ ومَطلَبُه، وسماءُ النُّبوغِ وكَوكَبُه، وطريقُ المجدِ ومَركَبُه، أبو الآباءِ مُدَّت له الحياةُ فخَلَد، وقضى للهِ ألَّا يبقى له وَلَد؛ فإن فاتك منه فائِتٌ فاذهَبْ كما ذهَبَ أبو العلاءِ عن ذِكرٍ لا يفوت، وحديثٍ لا يموت.
مَدرسةُ الحَقِّ والواجِب، يقضي العُمُرَ فيها الطَّالِب، ويقضي وشَيءٌ منهما عنه غائِب؛ حَقُّ اللهِ وما أقدَسَه وأقدَمَه! وحَقُّ الوالِدَينِ وما أعظَمَه! وحقُّ النَّفسِ وما ألزَمَه! إلى أخٍ تُنصِفُه، أو جارٍ تُسعِفُه، أو رفيقٍ في رحالِ الحياةِ تتألَّفُه، أو فَضلٍ للرِّجالِ تُزَيِّنُه ولا تُزَيِّفُه، فما فوقَ ذلك من مصالحِ الوَطَنِ المقَدَّمةِ، وأعباءِ أماناتِه المعَظَّمة؛ صيانةُ بنائِه، والضَّنانةُ بأشيائِه، والنَّصيحةُ لأبنائِه، والموتُ دونَ لوائِه؛ قيودٌ في الحياةِ بلا عَدَد، يكسِرُها الموتُ وهو قَيدُ الأَبَد.
رأسُ مالِ الأُمَم؛ فيه من كُلِّ ثَمَرٍ كَريم، وأثَرٍ ضَئيلٍ أو عَظيم، ومدَّخَرٍ حديثٍ أو قَديم؛ ينمو على الدِّرهَمِ كما ينمو على الدِّينار، ويربو على الرَّذاذِ كما يربو على الوابِلِ المِدْرار؛ بحرٌ يَتقبَّلُ من السُّحُبِ ويتقبَّلُ من الأنهار.. فيا خادِمَ الوَطَنِ ماذا أعدَدْتَ للبناءِ مِن حَجَر، أو زِدتَ في الغَنَّاءِ مِن شَجَر؟ عليك أن تبلُغَ الجُهدَ، وليس عليك أن تَبنيَ السَّدَّ؛ فإنَّما الوَطَنُ كالبُنيانِ، فقيرٌ إلى الرَّأسِ العاقِل، والسَّاعدِ العامِل، وإلى العَتَبِ الوَضيعة، والسُّقوفِ الرَّفيعة، وكالرَّوضِ محتاجٌ إلى رَخيصِ الشَّجَرِ وثَمينِه، ونجيبِ النَّباتِ وهَجينِه؛ إذْ كان ائتلافُه في اختلافِ رياحينِه، فكُلُّ ما كان منها لطيفًا مَوقِعُه، غيرَ نابٍ به مَوضِعُه، فهو من نوابغِ الزَّهرِ قَريب، وإنْ لم يكُنْ في البديعِ ولا الغَريب)
[904]((أسواق الذهب)) لأحمد شوقي (ص16- 20). .
فشوقي شاعِرُ الكلاسيكيَّةِ الذي لم يَهفُ أبدًا أن يخالِفَ موروثَ الآباءِ من قواعِدِ الشِّعرِ وأحكامِه، لم يكُنْ يُفَكِّرُ أن يصوغَ شيئًا كهذا ثمَّ يُسَمِّيَه شِعرًا، ومع هذا فقد قدَّم أحدُهم لإحدى طَبَعاتِ كتاب "أسواقُ الذَّهَب" الذي تنتمي إليه تلك القِطعةُ، فقال: «وهذه القِطعةُ من الشِّعرِ المنثورِ أنشودةٌ عذبةٌ للوَطَنِ، جمَع فيها كاتِبُها جميعَ الأنغامِ التي يُثيرُها ضَربُ الوَطَنيَّةِ الصَّادقةِ على أوتارِ القُلوبِ!»
[905]المصدر السابق (ص15). .
ولو صدَق هذا الاعتبارُ لكانت كُلُّ الفنونِ القوليَّةِ شِعرًا، ولَمَا سُمِّي شيءٌ منها نَثرًا!