المَطلَبُ الأوَّلُ: المُكاتَباتُ
تنوَّعت الكتاباتُ في العَصرِ المملوكيِّ بَيْنَ مُكاتباتٍ رَسميَّةٍ ديوانيَّةٍ، وبينَ المكاتَباتِ الإخوانيَّةِ التي يكتُبُها الصَّديقُ لصديقِه أو الابنُ لأبيه، ونحوُ ذلك، كما سبق بيانُه في آدابِ العُصورِ السَّابقةِ.
أولًا: المكاتباتُ الرَّسميَّةُ «الدِّيوانيَّةُ»ازدهَرَ ذلك النَّوعُ من المكاتباتِ ازدِهارًا ملحوظًا؛ إذ قد اهتمَّ المماليكُ بالكتاباتِ الدِّيوانيَّةِ، واشتَرَطوا فيمن يتولَّاها شُروطًا لا يستوفيها أحدٌ إلَّا بالمَوهبةِ والاجتِهادِ، وفي مقابِلِ ذلك كان لكاتِبِ الدِّيوانِ الذي يُسمَّى عندَهم بصاحِبِ السِّرِّ من الامتيازاتِ والرُّتَبِ ما يُشجِّعُ كُلَّ ذي موهبةٍ للالتِحاقِ بهذه الوظيفةِ؛ فالكتابةُ تَحُلُّ في المنزلةِ الثَّانيةِ في الدَّولةِ بَعدَ الوُزَراءِ، وقد كان الكاتِبُ يجلِسُ على يسارِ السُّلطانِ في كلِّ مجالِسِه
[94] يُنظَر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (4/ 46). .
ولهذا سارع الأُدَباءُ وطَلَبةُ العِلمِ في إدراكِ تلك الوظيفةِ والتَّنافُسِ عليها، فجرت أقلامُهم بألوانِ البيانِ والبديعِ، وانطلَقَت ألسِنَتُهم بكُلِّ لفظٍ بليغٍ فصيحٍ. وانطلاقًا من تلك الأهمِّيَّةِ حَرَص أكبرُ الكُتَّابِ على بيانِ القواعِدِ والشُّروطِ التي ينبغي لكُلِّ أديبٍ يَطلُبُ ذلك الأمرَ أن يتحَلَّى بها، فوَضَع القَلْقَشَنديُّ كتابَه (صُبحُ الأعشى في صناعةِ الإنشا) بَيَّنَ فيه أهمِّيَّةَ الكتابةِ، وما يليقُ بالأديبِ إذا أراد الاشتغالَ بتلك المهنةِ، وشُروطَ الكاتبِ التي لا بُدَّ منها، كما بَيَّنَ تفصيلًا أنواعَ الكتاباتِ الدِّيوانيَّةِ وأشكالَها، وعرَّف ببعضِ المُصطَلَحاتِ المشهورةِ في المكاتَباتِ ونحوِها، فاستوفى وأجاد.
وكذلك صَنَع شهابُ الدِّينِ أبو الثَّناءِ محمودُ بنُ فهدٍ، فصنَّف كتابَ (حُسنُ التَّوسُّل إلى صناعةِ التَّرسُّل) صدَّره ببيانِ الدَّافعِ إليه، فقال: (فإنَّه لمَّا جعَل اللهُ لي في كتابةِ الإنشاءِ رِزقًا، باشرتُ بسَبَبِه من وظائِفِها ما باشَرْتُ، وعاشَرْتُ من أجلِه من أكابِرِ أهلِها وأئمَّتِها مَن عاشَرْتُ، ورأيتُ مِن مذاهِبِهم في أساليبِها ما رأيتُ، ورَويتُ عنهم من قواعِدِها بالمجاوَرةِ والمحاوَرةِ ما رَوَيتُ، واطَّلعْتُ فيها بكثرةِ المباشَرةِ على طرائقَ، وأُلجِئتُ فيها باختلافِ الوقائِعِ إلى مضائِقَ أيِّ مضائِقَ، ونشأ لي من الوَلَدِ ووَلَدِ الوَلَدِ مَن عاناها، وترشَّح لي من بَنيَّ مَن لم أرضَ له بالتَّلبُّسِ بصورتِها دونَ التَّحَلِّي بمعناها؛ فأحببتُ أن أضعَ لهم ولمَن يرغَبُ في ذلك في هذه الأوراقِ مِن فصولِها قواعِدَ، وأقيمَ لهم فيها على ما لا يَسَعُ الجهلُ به من أصولِها وفروعِها شواهِدَ؛ ليأتوا هذه الصِّناعةَ من أبوابِها، ويَعلَموا من طُرُقِها ما هو الأخصُّ بأوضاعِها والأَولى بها)
[95] يُنظَر: ((حسن التوسل إلى صناعة الترسل)) (ص: 2). .
وألَّف كذلك ابنُ فَضلِ اللهِ العُمَريُّ كتابَه (التَّعريف بالمُصطَلَحِ الشَّريف)، وجاء النُّوَيريُّ بكتابِه (نهايةُ الأَرَب)، والمَقريزيُّ بكتابَيه (الخُطَط) و(السُّلوك)، فاكتمل عِقدُ تلك المَهمَّةِ، واتَّضَحَت ماهيَّتُها لأُدَباءِ الأُمَّةِ.
وقد أبدع القَلْقَشَنديُّ ببيانِ مَنزلةِ الكاتِبِ وأهمِّيَّتِه في الدَّولةِ الإسلاميَّةِ، فصاغ وصيَّةً يوصي بها السُّلطانُ كاتبَ سرِّه، فيقولُ: (ولْيَعلَمْ أنَّه هو لدينا المُستشارُ المؤتَمَن، والسَّفيرُ الذي كلُّ أحدٍ بسِفارتِه مُرْتَهِن، وهو إذا كتب بَنانُنا، وإذا نَطَق لسانُنا، وإذا خاطَب مَلِكًا بعيدَ المدى عُنوانُنا، وإذا سدَّد رأيَه في نحورِ الأعداءِ سَهمُنا المُرسَلُ وسِنانُنا؛ فليُنزِلْ نَفسَه مكانَها، ولْينظُرْ لدينا رُتبتَه العَليَّةَ إذا رأى مثلَ النُّجومِ عيانَها. فلْيُراقِبِ اللهَ في هذه الرُّتبة، ولْيَتوَقَّ لدينِه؛ فإنَّ اللهَ لا يَضيعُ عِندَه مِثقالُ حَبَّة، ولْيَخَفْ سُوءَ الحِسابِ وليتَّقِ اللهَ ربَّه)
[96] يُنظَر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) (11/ 309). .
وقد كان مِن أبرَزِ المكاتَباتِ الرَّسميَّةِ في ذلك الوَقتِ ما يُكتَبُ على لسانِ الخليفةِ العبَّاسيِّ بالعَهدِ إلى السُّلطانِ المملوكيِّ؛ فبَعدَ أن قَهَرَ اللهُ التَّتارَ في عَينِ جالوتَ، أراد الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ أن يُحييَ الخِلافةَ العبَّاسيَّةَ من جديدٍ؛ لكي يكونَ للمماليكِ سَنَدٌ شرعيٌّ يؤيِّدُه في الحُكمِ، فوَجَد أحدَ المنتَسِبين للعبَّاسيِّين، وهو المُستَنصِرُ باللهِ أحمَدُ بنُ الظَّاهِرِ، فبايعه خليفةً للمُسلِمين، ثمَّ جرت العادةُ أن يعهَدَ الخليفةُ بتفويضِ الأمورِ للسُّلطانِ المملوكيِّ، فهذا العهدُ الذي كَتَب به الحاكمُ بأمرِ اللهِ أبو العبَّاسِ أحمدُ بنُ الحُسَينِ ثاني خُلَفاءِ العبَّاسيِّينَ في القاهِرةِ للظَّاهِرِ بِيبَرْسَ، وهو من إنشاءِ الصَّاحِبِ فَخرِ الدِّينِ إبراهيمَ بنِ لُقمانَ، يقولُ فيه: (الحَمدُ لله الذي أضفى ملابِسَ الشَّرَف، وأظْهر دُرَرَه وكانت خافيةً بما استحكَمَ عليها من الصَّدَف، وشَيَّد ما وَهَى مِن علائِه حَتَّى أنسى ذِكرَ ما سَلَف، وقيَّض لنَصرِه مُلوكًا اتَّفَق على طاعتِهم من اخْتَلَف. أحْمَدُه على نِعَمِه التي رتَعَت الأعيُنُ منها في الرَّوْضِ الأُنُف، وألطافِه التي وَقَفَت الشُّكْرَ عليها فليس له عنها مُنصَرَف، وأشهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له شَهادةً تُوجِبُ من المخاوفِ أَمْنًا، وتُسَهِّلُ من الأمورِ ما كان حَزْنًا، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه الذي جبَرَ من الدِّينِ وَهْنًا، وصَفِيُّه الذي أظهَر من المكارِمِ فُنونًا لا فَنًّا، صَلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه الذين أضحَتْ مناقِبُهم باقيةً لا تفنى، وأصحابِه الذين أحسنوا في الدِّينِ فاستحَقُّوا الزِّيادةَ مِن الحُسنى.
وبعدُ؛ فإنَّ أَولى الأولياءِ بتَقْديمِ ذِكرِه وأحَقَّهم أن يُصبِحَ القَلَمُ ساجِدًا راكِعًا في تسطيرِ مناقِبِه وبرِّه: مَن سعى فأضحى بسَعيِه الجَميلِ مُتَقَدِّمًا، ودعا إلى طاعتِه فأجاب من كان مُنجِدًا ومُتْهِمًا، وما بَدَت يَدٌ من المَكرُماتِ إلَّا كان لها زَندًا ومِعصَمًا، ولا استباح بسَيفِه حِمَى وغًى إلَّا أضرَمه نارًا وأجراه دَمًا.
ولمَّا كانت هذه المناقِبُ الشَّريفةُ مُختَصَّةً بالمقامِ العالي المَولويِّ السُّلطانيِّ المَلَكيِّ الظَّاهِرِيِّ الرُّكنيِّ، شَرَّفه اللهُ تعالى وأعلاه، ذَكَرَهُ الدِّيوانُ العَزيزُ النَّبَويُّ الإماميُّ المُستَنصِريُّ أعزَّ اللهُ تعالى سُلْطانَه؛ تنويهًا بشَريفِ قَدْرِه، واعترافًا بصُنعِه الذي تَنفَدُ العبارةُ المُسهَبةُ ولا تقومُ بشُكرِه، وكيف لا وقد أقامَ الدَّولةَ العبَّاسيَّةَ بَعدَ أن أقعَدَتْها زَمانةُ الزَّمانِ، وأذهَبَت ما كان لها من محاسِنَ وإحسان، وعَتَب دَهرَها المُسيءَ لها فأعتَبَ، وأرضى عنها زمانَها وقد كان صال عليها صَولةَ مُغضَبٍ، فأعاده لها سِلْمًا بَعدَ أن كانَ عليها حَربًا، وصَرَف اهتمامَه فرَجَع كُلُّ متضايِقٍ مِن أمورِها واسِعًا رَحْبًا، ومَنَح أميرَ المُؤمنينَ عندَ القُدومِ عليه حُنُوًّا وعَطفًا، وأظهَر له من الولاءِ رَغبةً في ثوابِ اللهِ ما لا يخفى، وأبدى من الاهتمامِ بالبَيعةِ أمرًا لو رامه غيرُه لامتنع عليه، ولو تمسَّك بحَبلِه متمَسِّكٌ لانقطَعَ به قبلَ الوُصولِ إليه؟! لَكنَّ اللهَ ادَّخر هذه الحَسنةَ ليُثَقِّلَ بها في الميزانِ ثوابَه، ويخَفِّفَ بها يَومَ القيامةِ حِسابَه، فهذه مَنقَبةٌ أبى اللهُ إلَّا أن يُخَلِّدَها في صحيفةِ صُنعِه، وتَكرِمةً قَضَت لهذا البيتِ الشَّريفِ بجَمعِه، بَعدَ أن حَصَل الإياسُ مِن جَمعِه، وأميرُ المُؤمنينَ يشكُرُ لك هذه الصَّنائع، ويَعرِفُ أنَّه لولا اهتمامُك لاتَّسَع الخَرقُ على الرَّاقِع، وقد قلَّدك الدِّيارَ المِصريَّةَ والبِلادَ الشَّاميَّةَ والدِّيارَ البَكريَّةَ والحِجازيَّةَ واليَمَنيَّةَ والفُراتيَّةَ، وما يتجَدَّدُ من الفُتوحاتِ غَورًا ونَجدًا، وفوَّض أمرَ جُندِها ورعاياها إليك حينَ أصبَحْتَ في المكارِمِ فَردًا، ولا جَعَل منها بَلَدًا من البِلادِ ولا حِصنًا من الحُصونِ مُستثنًى، ولا جِهةً من الجِهاتِ تُعَدُّ في الأعلى ولا الأدنى ...)
[97] يُنظَر: ((مآثر الإنافة في معالم الخلافة)) للقلقشندي (3/ 121). .
وقد كانت الكتاباتُ الدِّيوانيَّةُ مختَلِفةَ الأغراضِ؛ فقد يكتُبُ السُّلطانُ إلى واليه في ترغيبٍ أو ترهيبٍ، أو توليةٍ أو عزلٍ، أو طلبًا لمدَدٍ أو قطعًا لفتنةٍ تَناهى أمرُها إليه، كما يكتُبُ إلى سلطانٍ آخَرَ يُهَنِّئُه بالنَّصرِ أو يتوعَّدُه بالعِقابِ والحَربِ، أو يَطلُبُ المدَدَ منه لملاقاةِ عَدُوٍّ أو يعقِدُ معه اتِّفاقًا وصُلحًا، ونحوَ ذلك، كما أنَّ سُلطانَ المُسلِمين يكتُبُ إلى سلاطينِ وأمراءِ بلادِ الكُفرِ في مِثلِ تلك الأمورِ.
ومن أمثلةِ تلك المكاتباتِ ما كتبه النَّاصِرُ محمَّدُ بنُ قَلاوونَ لواليه على اليَمَنِ، يُوبِّخُه على اقتناءِ المالِ والسِّلاحِ لغيرِ حَربِ العَدوِّ، فيقولُ فيها: (وهذه المملكةُ اليمنيَّةُ قد اجتمع فيها من الأموالِ ما يُرْبي عن الحَصرِ والحدِّ، ويزيدُ على الإحصاءِ والعدِّ، لا يُنفَقُ منها شيءٌ في الِجهادِ، ولا يُعَدُّ منها مصروفٌ إلَّا بما لا تُحمَدُ عاقِبتُه في المعادِ، قد صُدَّ عنها جندُ اللهِ الذين يُنفِقونها سرًّا وجهرًا، ويَستنزِلون بها أرواحَ أعداءِ اللهِ على حُكمِ سُيوفِهم قَسرًا وقَهرًا، وأبيحَت لمن تأبَّى الجهادَ جانبًا، ورضيَ باللَّهِو صاحبًا، واقتنى السِّلاحَ لغيرِ يومِ الباسِ، واعتنى بارتباطِ الجيادِ بَطَرًا ورِئاءَ النَّاسِ.
وكان كتابُنا قد تقدَّم في أمرِ المجاهِدين وما يحتاجونه من الإعانةِ بما يُحمَلُ إليهم من الأموالِ بالمملكةِ اليمنيَّةِ؛ ليُصرَفَ ذلك في حقِّه، ويَصِلَ إلى مُستحِقِّه، ويكونَ قد أُعِدَّ منها للإنفاقِ في سبيلِ اللهِ جانِبٌ بحيثُ لا يُضاعُ، ووصَل إلى مجاهِدي الأمَّةِ نَصيبٌ من مالِ اللهِ الذي هو في يَدِ مَن ولَّاه شيئًا من أمورِ عِبادِه على حُكمِ الإيداعِ، ويدخُلُ ذلك في زُمرةِ الذين يَكنِزون الذَّهَبَ والفِضَّةَ لا يُنفِقونها؛ فحصَلَت المكابَرةُ في الجوابِ عن ذلك، وأيُّ عذرٍ في المكابرةِ عن مِثلِ هذا الأمرِ، وشَغْلِ الوَقتِ بذِكْرِه؟! ...)
[98] يُنظَر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (7/ 375). .
ثانيًا: الكتاباتُ الإخوانيَّةُوهي تلك التي يكتُبُ بها الأديبُ إلى صديقِه أو أخيه أو نحوِ ذلك، على سَبيلِ التَّوادِّ والتَّواصُلِ، وربَّما كانت مُرسَلةً من الرَّئيسِ إلى المرؤوسِ أو العَكسِ، غيرَ أنَّها خَلَعت عن مَنكِبِها إزارَ المكاتَبةِ الرَّسميَّةِ، وتحَرَّر كاتبُها من رِبقةِ الرَّسائِلِ الدَّيوانيَّةِ، ومع ذا فلا يتجاوَزُ حُدودَ مكانتِه ومَنزلةَ المُرسَلِ إليه، فلا يخاطِبُه باسمِه المجرَّدِ، ولا يُفرِطُ في التَّدلُّلِ عليه. وتكونُ تلك المكاتَباتُ في التَّهنئةِ والتَّعازي والدَّعاوى، والشَّوقِ والعتابِ، والاعتذارِ والشَّكوى، ونحوِ ذلك.
فمن ذلك ما كتَبه الشَّيخُ شِهابُ الدِّينِ أبو الثَّناءِ في التَّهنئةِ بقُدومٍ مِن سَفَرٍ: (أدام اللهُ ظِلَّه، ورفَع محلَّه، وشَكَر إنعامَه وفَضْلَه، وأعزَّ أنصارَه، وضاعَف اقتدارَه، ولا زال مؤيَّدًا في حرَكاتِه، مسدَّدًا في سائِرِ فَعَلاتِه، مصحوبًا بالسَّلامةِ في المَهامِهِ
[99] المَهامِهُ: جمعُ مَهْمَهةٍ، وهي الصَّحراءُ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (36/505). والقِفارِ، مخصوصًا من اللهِ تعالى بالأعوانِ والأنصارِ.
المملوكُ يُنهي عِلْمَه بحُلولِ رِكابِه العالي بمَغْناه، واستِقرارِ خاطِرِه الشَّريفِ في محلِّه ومثواه، وجَمْعِ الشَّملِ بالأهلِ بَعدَ طولِ الغَيبةِ، وبعدَ القُفولِ والأَوبةِ، فتضاعَف لذلك فرحُه وسرورُه، وزال عن قلبِه قليلُ الهمِّ وكَثيرُه؛ فاللَّهُ يمنحُ المولى أطيَبَ المنازِلِ، وأسرَّ الرَّواحِلِ، ويجعَلُ تجارةَ مَجدِه رابحةً، وأوامِرَ دوامِ عزِّه لائحةً، لا زالت الأعيُنُ قريرةً برؤيتِه، وقُلوبُ الإخوانِ قارَّةً بمُشاهدتِه، والأوجُهُ وَسيمةً، والنِّعَمُ الظَّاعنةُ مقيمةً، إن شاء اللهُ تعالى)
[100] يُنظَر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (9/ 39). .
ومنه في التَّعزيةِ قَولُ صلاحِ الدِّينِ الصَّفَديِّ مُعزِّيًا علاءَ الدِّينِ بنِ فَضلِ اللهِ في وفاةِ أخيه شهابِ الدِّينِ: (يُقَبِّلُ الأرضَ ويُنهي ما عندَه من الألَمِ الذي بَرَّح، والسَّقَمِ الذي جَرَّ ذُيولَ الدَّمعِ على الخُدودِ وجَرَّح؛ لِما قدَّره اللهُ من وفاةِ القاضي شِهابِ الدِّينِ سقَتْه بألطَفِ أندائِها وأغزَرِها سارياتُ الغَمام؛ فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعون، قَولَ مَن غاب شهابُه، وآب التِهابُه، وذاب قَلبُه فصار للدَّمعِ قليبًا، وشاب فَودُه لمَّا شَبَّ جَمرُ فُؤادِه، ولا غَرْوَ فيَومُه جَعَل الوِلدانَ شِيبًا، فيا أسفا على ذلك الوَجهِ المليءِ بالمَلاحةِ، واللِّسانِ الذي طالَما سَحَر العُقولَ ببيانِه! فصاحت يا مَلِكَ الفصاحةِ، واليَدِ التي كم روَّضت الطُّروسَ
[101] الطُّروسُ: جمعُ طِرسٍ، وهو الكِتَابُ المَمْحُوُّ الذي يُسْتَطاعُ أنْ تُعَادَ فيه الكِتَابَةُ. يُنظَر: ((المحيط في اللغة)) للصاحب بن عبَّاد (2/247). أقلامُها! وأنشأت أسجاعًا لم تُذكَرْ معها باناتُ الحِمى ولا حِمامُها! ... فرَحِم اللهُ ذلك الوَجهَ وبلَّغه ما يرجوه، وضَوَّأه بالمغفرةِ يومَ تَبيَضُّ وجوهٌ وتَسوَدُّ وُجوه، لقد فَقَد المجدُ المؤَثَّلُ منه رُكنًا تتكثَّرُ به الجبالُ، فما تُقِلُّه ولا تَستَقِلُّه ...)
[102] يُنظَر: ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (8/ 174). .