المطلَبُ الثَّاني: الرَّسائِلُ (المقالاتُ)
شاع عِندَ الأُدَباءِ قديمًا وحديثًا تسميةُ ذلك النَّوعِ من النَّثرِ الذي يَعمِدُ الكاتِبُ فيه إلى بيانِ وِجهةِ نَظَرِه في أمرٍ ما، أو نقدِه لشَيءٍ، أو وَصفِه، ونحوِ ذلك: (رسالةً) وإن لم يُقصَدْ منها إرسالُها إلى غيرِه، ومنه سُمِّيت مقالاتُ الجاحِظِ وابنِ المُقَفَّعِ وغَيرِهما رسائِلَ.
وقد تنوَّعت تلك الرَّسائِلُ في عَصرِ المماليكِ بَيْنَ وَصفِ الغَزوِ والحَربِ، أو رِحلاتِ الصَّيدِ، وبَينَ الموازَناتِ والمفاخَراتِ، والرَّسائِلِ العِلميَّةِ والمعارَضاتِ، وغيرِ ذلك.
فمن تلك الرَّسائِلِ ما كتبه القاضي علاءُ الدِّينِ بنُ عبدِ الظَّاهِرِ في وَصفِ ما دار في مَعركةِ مَرْجِ الصُّفَّرِ بَيْنَ المَلِكِ النَّاصِرِ محمَّدِ بنِ قَلاوونَ وبَينَ التَّتارِ بقيادةِ غازانَ، سمَّاها (الرَّوض الزَّاهِر في غَزوة المَلِك النَّاصِر)، وهي رسالةٌ طويلةٌ أسهَبَ فيها في بيانِ الوقعةِ ووصفِها وبيانِ نتائِجِها، يقولُ فيها: (وكنتُ ممَّن شَمِلَته نفَحاتُ الرَّحمةِ فيها، وهبَّتْ عليه رياحُ النَّصرِ التي كانت تُرَجِّيها، وشاهدْتُ صِدقَ العزائِمِ المَلَكيَّةِ النَّاصِريَّةِ، التي طلعَت في سماءِ النَّقعِ نجومًا وقَّادة، وشَهِدتُ في محضَرِ الغَزْوِ على إقرارِ العِدَى بالعَجْزِ، وكيف لا وذاك الموطِنُ محلُّ الشَّهادةِ؟ ورأيتُ كيف أثبتَ السَّيفُ لنا الحقَّ؛ لأنَّه القاضي في ذلك المجالِ، وكيف نَفِذَت السِّهامُ لأجْلِ تصميمِه في الحُكمِ، فلم تُمْهِلْ حتَّى أخذَت دينَ الآجالِ وهو حالٌّ، وقد أحببتُ أن أذكُرَ من أمرِها مُلْحةً تنشَرِحُ منها الصُّدورُ، وآتي بلُمعةٍ تُعرِبُ عن ذلك النُّورِ، وها أنا أذكُرُ نبَأَ السَّفَرِ من افتتاحِه، وأشرَحُ حديثَ هذه الغَزاةِ من وَقتِ صباحِه).
وفيها: (ولَمَّا كان بَعدَ الظُّهرِ أقدَم العَدُوُّ -خذله اللهُ- بعزائمَ كالسُّيوفِ الحِدادِ، وجاء على قُرْبٍ من مَقْدَمِنا، فكان هو والخِذلانُ على مُوافاةٍ، وجِئْنا نحن والنَّصرُ على ميعاد، وأتى كقِطعِ اللَّيلِ المُظلِمِ بهِمَمٍ لا تكادُ، لولا دَفْعُ اللهِ عن بُزاتِها
[103] البُزاةُ: جمعُ بازي، وهو طائرٌ يُصادُ به كالصَّقرِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (5/314). تُحجِمُ، معتقدًا أنَّ اللهَ قد بسَط يدَه في البلادِ -ويأبى اللهُ إلَّا أن يَقبِضَها- متخيِّلًا أنَّ هذه الكَرَّةَ مِثلُ تلك -ويأبى اللهُ إلَّا أن يُخلِفَ لهذه الأمَّةِ بالنَّصرِ ويعوِّضَها- متوهِّمًا أنَّ جيشَه الغالبُ، وعزمَه القاهِرُ، متحَقِّقًا أنَّه منصورٌ، وكيف ذاك ومعنا النَّاصِرُ؟! والتقى الفريقانِ بعزائِمَ لم يَشُبْها في الحَربِ نُكولٌ ولا تقصير، فكان جَمْعُنا -وللهِ الحمدُ- جمعَ سلامةٍ وجمْعُهم جمعَ تكسير، وحَمِيَ الوَطيس، وحَمَل في يومِ السَّبتِ الخميسُ
[104] الخميسُ: الجيشُ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (7/89). على الخَميس، ودارت رَحا الحَربِ الزَّبون
[105] الزَّبونُ: الشَّديدةُ المتدافِعةُ، من "ناقةٍ زَبونٍ" أي: تضرِبُ برِجلِها بشِدَّةٍ عِندَ الحَلبِ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (5/2130). ، وغنَّت السُّيوفُ بشُربِ الكُماةِ
[106] الكُمَاةُ: الشِّجعانُ، واحِدُها: كَمِيٌّ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (10/220). كأسَ المَنُون، والسُّلطانُ قد ثَبَت في موقِفِ المنايا، حتَّى كأنَّه في جَفنِ الرَّدَى وهو نائِم، ورأى الأبطالَ من أوليائِه جرحى في سبيلِ اللهِ والأعداءَ مهزومين، والوَجهُ منه وضَّاحٌ والثَّغرُ باسِم، وقابَلَ العدوَّ بصَدرِه وقاتَلَ حتَّى أفنى حديدَ بيضِه وسُمرِه، وخاطَر بنَفسِه والموتُ أقرَبُ إليه من حَبلِ الوَريد. ونكَّب عن ذِكرِ العواقِبِ جانبًا، ولم يستصحِبْ إلَّا سيفَه المُبيد، واشتَدَّ أزْرًا بأُمَرائِه الذين رأوا الحياةَ في هذا اليومِ مَغْرَمًا، وعَدُّوا المماتَ فيه مَغْنَمًا، وقالوا: لا حياةَ إلَّا بنصرِ الإسلام، ولا استقرارَ حتى تطَأَ بَيْنَ يدَيِ السُّلطانِ سنابكُ
[107] السَّنابِكُ: أطرافُ حوافِرِ الخَيلِ، واحِدُها سُنْبُكٌ. يُنظَر: ((العين)) للخليل بن أحمد (5/427). الخيولِ هذه الهام، وما أعدَدْنا العزائمَ إلَّا لهذا الموقِف، ولا أحدَدْنا الصَّوارِمَ وخَبَأْناها إلَّا لنَبذُلَها في السَّفكِ فنُسرِف، وهم بَيْنَ يدَيْ سُلطانِهم يحثُّون جيوشَهم على المصابرةِ، ويقولونَ: هذا يومٌ تصيبُنا فيه إحدى الحُسنَيَينِ: فإمَّا سعادةُ الدُّنيا وإمَّا جنَّةُ الآخرةِ، وقالت الملائِكةُ للجُيوشِ المنصورةِ: يا خيلَ اللهِ اركَبي، ويا يدَ النَّصرِ اكتُبي! وقامت الحربُ على ساق،
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 29-30] )
[108] ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (32/ 35). .
ومِن رسائِلِ المفاخَراتِ ونحِوها ما كتَبه علاءُ الدِّينِ بنُ عبدِ الظَّاهِرِ في المفاخَرةِ بَيْنَ السَّيفِ والرُّمحِ، جعلَها في رسالةٍ أرسلَها إلى بطلٍ من الأبطالِ؛ ليَحكُمَ بَيْنَهما فيما ذهبا إليه، فيقولُ فيها: (فإنَّ السَّيفَ قد شرَع يتقوَّى بحَدِّه، ولا يقفُ بمعرفةِ نَفسِه عِندَ حَدِّه، والرُّمحُ يتكَثَّرُ بأنابيبِه، ويستطيلُ بلسانِ سِنانِه، ولم يَثْنِ في وَصفِ نفسِه فَضلَ عِنانِه، وقد أطرَقْتُهما حِماك لتحكُمَ بَيْنَهما بالحَقِّ السَّوِيِّ، وتُنصِفَ بَيْنَ الضَّعيفِ والقَويِّ؛ أمَّا السَّيفُ فإنَّه يقولُ: أنا الذي لصَفحَتي الغَرَرُ ولحَدِّي الغِرار
[109] الغِرارُ: حدُّ السَّيفِ، وهو النَّهجُ والمثالُ الذي يُعْمَلُ على منوالِه النِّصالُ ونحوُها. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (8/18). ، وتحتَ ظِلالي في سَبيلِ اللهِ الجنَّةُ وفي إظلالي على الأعداءِ النَّار، ولي البروقُ التي هي للبصائِرِ لا الأبصارِ خاطِفة، وطالَما لمعَت فسَحَّت سُحُبُ النَّصرِ واكِفة، ولي الجُفونُ التي ما لها غيرُ نَصرِ اللهِ مِن بَصَر، وكم أغفَت فمَرَّ بها طيفٌ من الظَّفَر! وكم بكَت عليَّ الأجفانُ لمَّا تعوَّضْتُ عنها الأعناقَ غُمودًا! وكم جلَبْتُ الأمانيَّ بِيضًا والمنايا سُودًا! وكم ألحقْتُ رأسًا بقَدَم! وكم رَعَيتُ في خَصيبٍ نَبْتُه اللِّمَم
[110] اللِّمَمُ: جمعُ لِمَّةٍ، وهي شَعرُ الرَّأسِ المجاوِزُ شَحمةَ الأذُنِ، يعني بها الرُّؤوسَ نَفْسَها. يُنظَر: ((المعجم الوسيط)) (2/840). ! وكم جاء النَّصرُ الأبيضُ لمَّا أسْلْتُ النَّجيعَ
[111] النَّجيعُ: دَمُ الجَوفِ. يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/395). الأحمَر! وكم اجتُنيَ ثَمرُ التَّأييدِ مِن وَرقِ حَديديَ الأخضَر؟ وكم من آيةِ ظَفَرٍ تلوتُها لمَّا صَلَّيتُ، واتَّقد لهيبُ فِكري فأصلَيتُ! فوصفي هو كذاتي المشهور، وفَضلي هو المأثور، فهل يتطاوَلُ الرُّمحُ إلى مُفاخَرتي وأنا الجوهَرُ وهو العَرَضُ؟! وهو الذي يُعتاضُ عنه بالسِّهامِ وما عنِّي عِوَض، وإن كان ذاك ذا أسِنَّةٍ فأنا أُتقَلَّدُ كالمنَّة، كم حَمَلَتْه يدٌ فكانت حمَّالةَ الحَطَب! وكم فارسٍ كَسَبه بحَمَلاتِه فما أغنى عنه ما كَسَب! حدُّه ليس مِن جِنسِه، ونَفعُه ليس من شأنِ نفسِه، وأين سُمْرُ الرِّماح من بِيضِ الصِّفاح؟ وأين ذو الثَّعالِب مِن الذي يُحمَى به أسودُ الضَّرائِب؟ وهل أنت إلَّا طويلٌ بلا بَرَكة، وعامِلٌ كم عزلَتْك النِّبالُ بزائِدِ حَرَكة؟!
فنَطَق الرُّمحُ بلِسانِ سِنانِه مُفتَخِرًا، وأقبل في عَلَمِه مُعتَجِرًا، وقال: أنا الذي طُلتُ حتى اتَّخَذت أسِنَّتيَ الشُّهُب، وعَلَوتُ حتَّى كادت السَّماءُ تَعقِدُ عليَّ لواءً من السُّحُب، كم مَيَّل نسيمُ النَّصرِ غُصني ومَيَّد
[112] أي: ميَّل وحرَّك. يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/288). ! وكم وهَى به للمُلحِدين ركنٌ وللمُوَحِّدين تَشَيَّد! وكم شمسِ ظَفَرٍ طلَعَت وكانت أسنَّتي شُعاعَها! وكم دماءٍ أطرْتُ شُعاعَها! وطالما أثمَر غُصني الرُّؤوسَ في رياضِ الجِهاد، وغدَت أسنَّتي وكأنَّما صيغَتْ من سرورٍ فما يَخطُرْنَ إلَّا في فُؤاد، وكم شُبِّهَتْ أعطافُ الِحسانِ بما لي من مَيَل، وضُرِبَ بطُوِل ظِلِّ قَناتيَ المَثَل، وزاحَمتُ في المواكِبِ للرِّياحِ بالمناكِبِ، وحَسْبيَ الشَّرَفُ الأسنى أنَّ أعلى الممالِكِ ما عليَّ يُبنى، ما لَمَع سِناني في الظَّلماء إلَّا خاله المارِدُ من رُجومِ السَّماء، فهل للسَّيفِ فَخرٌ يُطاوِلُ فَخري أو قَدْرٌ يُسامي قَدْري؟! ولو وقف السَّيفُ عِندَ حَدِّه لعَلِم أنَّه القصيرُ وإن كان ذا الحُلَى، وأنا الطَّويلُ ذو العُلَى، وطالما صدَع هامًا فعاد كَهامًا
[113] الكَهَامُ: الواهِنُ الكليلُ. يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/145). ، وقَصُرَ عِندَ العِدَى، وألَمَّ بصَفحتِه كَلَفُ الصَّدى، وفُلَّ حَدُّه، وأذابه الرُّعبُ لولا غِمْدُه، فهل يَطعَنُ فيَّ بعَيب وأنا الذي أطعَنُ حقيقةً بلا رَيب؟! ...)
[114] ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (22/ 37). .