الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الثَّاني: اللَّعِبُ بالشِّطْرَنْجِ


اختَلَف العُلَماءُ في حُكمِ اللَّعِبِ بالشِّطْرَنْجِ بغَيرِ عِوَضٍ، على ثَلاثةِ أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: يَحرُمُ اللَّعِبُ بالشِّطْرَنْجِ بعِوَضٍ وبغَيرِ عِوَضٍ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [1116] ((لهداية)) للمرغيناني (4/380)، ((تبيين الحقائق للزيلعي مع حاشية الشلبي)) (6/31)، ((الفتاوى الهندية)) (5/352). ، والمالِكيَّةِ [1117] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/167)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (4/241)، ((منح الجليل)) لعليش (8/395). ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/349). ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (13/283). ، والحَنابِلةِ [1118] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/313)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (4/48). ، وهو اختيارُ الحَليميِّ والرُّويانيِّ مِنَ الشَّافِعيَّةِ [1119] ((روضة الطالبين)) للنووي (11/225). .
الدَّليلُ مِنَ الآثارِ:
سُئِلَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما عنِ الشِّطْرَنْجِ، فقال: (هو شَرٌّ مِنَ النَّردِ) [1120] أخرجه البيهقي (21462). صحَّحه ابنُ القيم في ((الفروسية)) (ص: 252). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّردَ مُحَرَّمٌ، ووَصفُ الشِّطْرَنْجِ بأنَّه شَرٌّ مِنَ النَّردِ فيه دَلالةٌ على تَحريمِه.
القَولُ الثَّاني: يُكرَهُ اللَّعِبُ بالشِّطْرَنْجِ إذا كان بغَيرِ عِوَضٍ، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [1121] ((حاشية الجمل على شرح المنهج)) لزكريا الأنصاري (5/380)، ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/320). ، وقَولٌ للمالِكيَّةِ [1122] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/167)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (4/241)، ((منح الجليل)) لعليش (8/395). ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (13/283). ، وقَولٌ للحَنابِلةِ [1123] ((الإنصاف)) للمرداوي (12/40). ؛ وذلك لأنَّه فيه تَضييعٌ للوَقتِ فيما لا يُجدي [1124] ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/320)، ((حاشية الجمل على شرح المنهج)) (5/380). .
القول الثالث: يَجوزُ اللَّعِبُ بالشِّطْرَنْجِ بدونِ كَراهةٍ إذا كان بغَيرِ عِوَضٍ [1125] قال المُنذِريُّ: (واختَلَفوا في اللَّعِبِ بالشِّطْرَنْجِ؛ فذَهَبَ بَعضُهم إلى إباحَتِه؛ لأنَّه يُستَعانُ به في أُمورِ الحَربِ ومكائِدِه، لَكِنْ بشُروطٍ ثَلاثةٍ: أحَدُها: ألَّا يُؤَخِّرَ بسَبَبِه صَلاةً عن وقتِها. والثَّاني: ألَّا يَكونَ فيه قِمارٌ. والثَّالثُ: أن يَحفظَ لسانَه حالَ اللَّعِبِ عنِ الفُحشِ والخَنا ورَديءِ الكَلامِ، فمَتى لَعِبَ به أو فعَلَ شَيئًا مِن هذه الأُمورِ كان ساقِطَ المُروءةِ مَردودَ الشَّهادةِ). ((الترغيب والترهيب)) (4/24). ، وهو قَولٌ للمالِكيَّةِ [1126] قَيَّدَ المالكيَّةُ القَولَ بالإباحةِ بأن يَلعَبَه مَعَ نَظائِرِه في الخَلوةِ بلا إدمانٍ، وألَّا يُلهِيَه عنِ العِبادةِ، وألَّا يلعَبَه مَعَ الأوباشِ -السِّفلةِ مِنَ النَّاسِ- في الطُّرُقاتِ. ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/154)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/167)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (4/241). ، وقَولٌ للشَّافِعيَّةِ [1127] ((روضة الطالبين)) للنووي (11/225)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4/343)، ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (4/326). ، وقَولُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ [1128] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (اختِلافُ أهلِ العِلمِ في اللَّعِبِ بها على غَيرِ اختِلافِهم في اللَّعِبِ بالنَّردِ؛ لأنَّ كَثيرًا مِنهم أجازَ اللَّعِبَ بالشِّطْرَنْجِ ما لَم يَكُن قِمارًا: سَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، وسَعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ومُحَمَّدُ بنُ سِيرينَ، ومُحَمَّدُ بنُ المُنكَدِرِ، وعُروةُ بنُ الزُّبَيرِ، وابنُه هِشامٌ، وسُلَيمانُ بنُ يَسارٍ، وأبو وائِلٍ، والشَّعبيُّ، والحَسَنُ البَصريُّ، وعَليُّ بنُ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ، وجَعفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ، وابنُ شِهابٍ، ورَبيعةُ، وعَطاءٌ. كُلُّ هؤلاء يُجيزُ اللَّعِبَ بها على غَيرِ قِمارٍ). ((التمهيد)) (13/181). وقال الماوَرْديُّ: (استَدَلَّ مَن أباحَها وحَلَّلَها: بانتِشارِها بَينَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ إقرارًا عليها، وعَمَلًا بها، فرَوى الخَطيبُ مَولى سُلَيمانَ بنِ يَسارٍ قال: كان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه يَمُرُّ بنا ونَحنُ نَلعَبُ بالشِّطْرَنْجِ، فيُسَلِّمُ علينا ولا يَنهانا. ورَوى الضَّحَّاكُ بنُ مُزاحِمٍ قال: رَأيتُ الحَسَنَ بنَ عَليٍّ عليه السَّلامُ مَرَّ بقَومٍ يَلعَبونَ بالشِّطْرَنْجِ فقال: ادفَعْ ذا ودَعْ ذا. ورَوى أبو راشِدٍ قال: رَأيتُ أبا هُرَيرةَ يَدعو غُلامًا فيُلاعِبُه بالشِّطْرَنْجِ. ورَوى عَبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ: أنَّه كان يُجيزُ الشِّطْرَنْجَ ويَلعَبُ بها. ورَوى عَبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ أنَّه كان يَلعَبُ بالشِّطْرَنْجِ. فهؤلاء خَمسةٌ مِنَ الصَّحابةِ أقَرُّوا عليها ولَعِبوا بها. وأمَّا التَّابعونَ: فرويَ عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ أنَّه كان يَلعَبُ بها. ورَوى الشَّافِعيُّ عن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ أنَّه كان يَلعَبُ بها استِدبارًا. قال المُزَنيُّ: فقُلتُ للشَّافِعيِّ: فكَيف كان يَلعَبُ بها استِدبارًا؟ فقال: كان يولِّيها ظَهرَه ويَقولُ للغُلامِ: بماذا دَفعَ؟ فيَقولُ: بكَذا. فيَقولُ: ائتِ بكَذا. ورَوى الزُّهريُّ عن عَليِّ بنِ الحُسَينِ أنَّه كان يُلاعِبُ أهلَه بالشِّطْرَنْجِ. ورَوى أبو لُؤلُؤةَ قال: رَأيتُ الشَّعبيَّ يَلعَبُ بالشِّطْرَنْجِ مَعَ الغُرَماءِ. ورَوى راشِدُ بنُ كريبٍ قال: رَأيتُ عِكرِمةَ مَولى ابنِ عَبَّاسٍ أُقيمَ قائِمًا في لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ. ورويَ أنَّ مُحَمَّدَ بنَ سِيرينَ كان يَلعَبُ بالشِّطْرَنْجِ، وقال: هيَ لُبُّ الرِّجالِ. وإذا اشتَهرَ هذا عَمَّن ذَكَرنا مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وقد عَمِلَ به مَعَهم مَن لا يُحصى عَدَدُهم مِن عُلَماءِ الأمصارِ وفُضَلائِهم مَن حَذَفْنا ذِكرَهم إيجازًا، خَرَجَ مِن حُكمِ الحَظرِ، وكان بالإجماعِ أشبَهَ). ((الحاوي الكبير)) (17/179). ، وهو اختيارُ ابنِ حَزمٍ [1129] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/559-571). ، وابنِ عَبدِ البَرِّ [1130] قَيَّد ابنُ عَبدِ البَرِّ الإباحةَ إذا لَعِبَه مَعَ أهلِه في بَيتِه وبلا إدمانٍ. قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (تَحصيلُ مَذهَبِ مالكٍ وجُمهورِ الفُقَهاءِ في الشِّطْرَنْجِ: أنَّ مَن لَم يُقامِرْ بها ولَعِبَ مَعَ أهلِه في بَيتِه مُستَتِرًا به مَرَّةً في الشَّهرِ أوِ العامِ لا يُطَّلَعُ عليه ولا يُعلَمُ به؛ أنَّه مَعفوٌّ عنه غَيرُ مُحَرَّمٍ عليه ولا مَكروهٍ له، وأنَّه إن تَخلَّع به واستُهتِرَ فيه سَقَطَت مُروءَتُه وعَدالَتُه، ورُدَّت شَهادَتُه، وهو يَدُلُّك على أنَّه ليس بمُحَرَّمٍ لنَفسِه وعَينِه؛ لأنَّه لَو كان كذلك لاستَوى قَليلُه وكَثيرُه في تَحريمِه). ((التمهيد)) (13/183). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ الأصلَ فيها الإباحةُ، ولَم يَرِدْ بتَحريمِها نَصٌّ، ولا هيَ في مَعنى المَنصوصِ عليه؛ فتَبقى على الإباحةِ [1131] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/151)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4/343). .
ثانيًا: لأنَّ فيها تَنبيهًا على مكائِدِ الحَربِ ووُجوهِ الحَزمِ وتَدبيرِ الجُيوشِ. وما بَعَثَ على هذا إن لَم يَكُنْ نَدبًا مُستَحَبًّا فأحرى ألَّا يَكونَ حَظرًا مُحَرَّمًا [1132] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/178). .
ثالثًا: أنَّ الشِّطْرَنْجَ مَوضوعٌ على تَعَلُّمِ تَدبيرِ أمرِ الحَربِ، وكُلُّ سَبَبٍ يُتَعَلَّمُ به أمرُ الحَربِ والقِتالِ كان مُباحًا [1133] يُنظر: ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (13/288). .

انظر أيضا: