الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: ضَمانُ المَغصوبِ بمِثلِه


مَن غَصَبَ شَيئًا فتَلِفَ في يَدِه، فعليه ضَمانُ مِثلِه [1391] المِثْليُّ: هو كُلُّ ما يوجَدُ له مِثلٌ في السُّوقِ بلا تَفاوُتٍ يُعتَدُّ به، كالمَكيلِ والمَوزونِ، والمَعدودِ والنُّقودِ. والقِيميُّ: هو ما لا يوجَدُ له مِثلٌ في السُّوقِ، أو يوجَدُ لَكِنْ مَعَ التَّفاوُتِ المُعتَدِّ به في القيمةِ، كالأشياءِ التي يوجَدُ تَفاوُتٌ بَينَ أفرادِها بحَيثُ تَتَفاوتُ في الأثمانِ تَفاوُتًا بَعيدًا. يُنظر: ((الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين)) (6/185)، ((درر الحكام شرح مجلة الأحكام)) لعلي حيدر (1/121). وبَعضُ العُلَماءِ يَرى أنَّ المِثْليَّ هو ما كان له مِثلٌ أو مُقارِبٌ له، قال ابنُ عُثَيمين: (فالمِثْليُّ: ما كان له مَثيلٌ مُقارِبٌ، وليس بلازِمٍ أن يَكونَ مُطابِقًا؛ ولهذا نَعلَمُ لَو أنَّ إنسانًا أقرَضَ بَعيرًا ثُمَّ أرادَ المُستَقرِضُ أن يَرُدَّ بَعيرًا مِثلَه في السِّنِّ واللَّونِ والسِّمَنِ والكِبَرِ، فهو أقرَبُ إلى المُماثَلةِ مِنَ القيمةِ؛ لأنَّ القيمةَ مُخالِفةٌ له في النَّوعِ ومُقارِبةٌ له في التَّقديرِ، لَكِنَّ المُماثِلَ مِنَ الحَيَوانِ أقرَبُ بلا شَكٍّ؛ ولهذا كان القَولُ الصَّحيحُ أنَّ المِثْليَّ: ما كان له مِثلٌ أو مُقارِبٌ، وعَلى هذا فالحَيَوانُ مِثليٌّ، ولهذا استَسلَف النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَكْرًا ورَدَّ خِيارًا رَباعِيًا، فجَعَلَه مِثليًّا، ولمَّا جاءَ غُلامٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو عِندَ إحدى نِسائِه بطَعامٍ ضَرَبَتِ المَرأةُ التي كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيتِها يَدَ الغُلامِ حَتَّى سَقَطَ الطَّعامُ وانكَسَرَتِ الصَّحفةُ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إناءٌ بإناءٍ، وطَعامٌ بطعامٍ»، وأخَذَ طَعامَ التي كان عِندَها وصَحفَتَها ورَدَّهما مَعَ الغُلامِ، فهنا ضَمَّن الإناءَ بالمِثْلِ، مَعَ أنَّ فيه صِناعةً، فجَعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثليًّا، ولا شَكَّ أنَّ هذا القَولَ هو الأقرَبُ). ((الشرح الممتع)) (9/106). وقال ابنُ تيميَّةَ: (اعلَمْ أنَّ المُماثِلَ مِن كُلِّ وَجهٍ مُتَعَذِّرٌ حَتَّى في المَكيلاتِ فَضلًا عن غَيرِها؛ فإنَّه إذا أتلَف صاعًا مِن بُرٍّ فضِمنَ بصاعٍ مِن بُرٍّ، لَم يعلَمْ أنَّ أحَدَ الصَّاعَينِ فيه مِنَ الحَبِّ ما هو مِثلُ الآخَرِ، بَل قد يَزيدُ أحَدُهما على الآخَرِ؛ ولهذا قال تَعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام: 152] ؛ فإنَّ تَحديدَ الكَيلِ والوَزنِ مِمَّا قد يَعجِزُ عنه البَشَرُ؛ ولهذا يُقالُ: هذا أمثَلُ مِن هذا: إذا كان أقرَبَ إلى المُماثَلةِ مِنه، إذا لَم تَحصُلِ المُماثَلةُ مِن كُلِّ وجهٍ). ((مجموع الفتاوى)) (20/565). إن كان له مِثلُ [1392] فإن لَم يَكُنْ له مِثلٌ فيُضمَنُ بقيمَتِه. وسيَأتي ذِكرُه في المَسألةِ التَّاليةِ. .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عَبدِ اللهِ بنِ السَّائِبِ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا يَأخُذَنَّ أحَدُكُم مَتاعَ صاحِبِه جادًّا ولا لاعِبًا، وإذا وجَدَ أحَدُكُم عَصا صاحِبِه فليَرْدُدْها عليه)) [1393]  أخرجه أبو داود (5003)، والترمذي (2160) باختلاف يسير، وأحمد (17940) واللفظ له. صحَّحه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1202)، وصحَّحه لغيره الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2160)، وقال التِّرمذيُّ: حَسَنٌ غريبٌ، وصَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17940).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ عبدِ البَرِّ [1394] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الحَديثِ: «طَعامٌ مِثلُ طَعامٍ» مُجتَمَعٌ على استِعمالِه والقَولِ به في كُلِّ مَطعومٍ مَأكولٍ، أو مَوزونٍ مَأكولٍ، أو مَشروبٍ؛ أنَّه يَجِبُ على مُستَهلِكِه مِثلُه لا قيمَتُه، على ما ذَكَرْناه في بابِ زَيدِ بنِ أسلَمَ عِندَ ذِكرِ حَديثِ أبي رافِعٍ؛ فاعلَمْ ذلك). ((التمهيد)) (14/288). ، وابنُ رُشدٍ [1395] قال ابنُ رُشدٍ: (اتَّفَقوا على أنَّه إذا كان مَكيلًا أو مَوزونًا أنَّ على الغاصِبِ المِثْلَ، أعني: مِثلَ ما استَهلَكَ صِفةً ووزنًا). ((بداية المجتهد)) (4/101). ، والمرداويُّ [1396] قال المرداويُّ: (فإنِ اتَّصَلَ بأن غَصبَ ما قيمَتُه مِائةٌ فارتَفعَ السِّعرُ إلى مِائَتَينِ وتَلِفَتِ العَينُ، ضَمِنَ المِائَتَينِ وَجهًا واحِدًا؛ إذِ الضَّمانُ مُعتَبَرٌ بيَومِ التَّلَفِ، وإن كان مِثليًّا فالواجِبُ المِثلُ بلا خِلافٍ). ((الإنصاف)) (6/115). .
ثالثًا: لأنَّه لَمَّا تَعَذَّرَ رَدُّ العَينِ لَزِمَه رَدُّ ما يَقومُ مَقامَها، والمِثلُ أقرَبُ إليه مِنَ القيمةِ، فهو مُماثِلٌ له مِن طَريقِ الصُّورةِ والمُشاهَدةِ والمَعنى [1397] يُنظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (5/114). .

انظر أيضا: