الموسوعة الفقهية

المطلَبُ الخامِسُ: هل يُعفى عن القاتِلِ غِيلةً إذا عفا عنه أولياءُ الدَّمِ؟



اختَلَف العُلَماءُ في العَفوِ عن القاتِلِ غِيلةً [513] قَتلُ الغِيلةِ: هو أن يَحتالَ في قَتلِه من حيثُ لا يَعلَمُ، بأن يَذهَبَ به إلى مَوضِعٍ مثلًا فيَقتُلَه فيه، بقَصدِ أخذِ مالِه أو لغَيرِ ذلك. يُنظر: ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (6/32)، ((منح الجليل)) لعليش (9/6). إذا عفا عنه أولياءُ الدَّمِ، على قولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يُعفى عن القاتِلِ غِيلةً إذا عفا عنه أولياءُ الدَّمِ، وهو مذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [514] ((البناية)) للعيني (13/125). ويُنظر: ((الحجة على أهل المدينة)) لمحمد بن الحسن (4/382). ، والشَّافِعيَّةِ [515] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 272)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (8/407). ، والحنابِلةِ [516] ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/532)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (6/32). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
1- عُمومُ قَولِه تعالى: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الإسراء: 33.
2- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ إلى قَولِه تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ البقرة: 178
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ جوازُ العَفوِ إن عفا عن القاتِلِ أولياءُ الدَّمِ دونَ تفريقٍ بَينَ قَتلِ الغِيلةِ وغَيرِه [517] يُنظر: ((الحجة على أهل المدينة)) لمحمد بن الحسن (4/382)، ((المغني)) لابن قدامة (8/270). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي شُرَيحٍ الكَعبيِّ، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ حَرَّم مكَّةَ ولم يُحَرِّمْها النَّاسُ، من كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلا يسفِكَنَّ فيها دمًا، ولا يَعضِدَنَّ فيها شَجَرًا، فإن ترخَّص مترخِّصٌ فقال: أُحِلَّت لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّ اللهَ أحَلَّها لي ولم يُحِلَّها للنَّاسِ، وإنَّما أُحِلَّت لي ساعةً مِن نهارٍ، ثمَّ هي حرامٌ إلى يومِ القيامةِ، ثمَّ إنَّكم -مَعشَرَ خُزاعةَ- قتَلْتُم هذا الرَّجُلَ مِن هُذَيلٍ، وإنِّي عاقِلُه، فمَن قُتِل له قتيلٌ بعدَ اليومِ فأهلُه بَينَ خِيرتَينِ: إمَّا أن يَقتُلوا، أو يأخُذوا العَقلَ)) [518] أخرجه أبو داود (4504) مختصرًا، والترمذي (1406) واللفظ له، وأحمد (27160). صحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (8/168)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1406)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1232)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن الدارقطني)) (3145). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه نصٌّ عامٌّ في جَعلِ القِصاصِ للوَليِّ في كُلِّ صُوَرِ القَتلِ، ومنه قَتلُ الغِيلةِ [519] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/270). .
ثالثًا: لأنَّه قتيلٌ في غيرِ المحاربةِ، فكان أمرُه إلى وَليِّه كسائِرِ القَتلى [520] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/270). .
القَولُ الثَّاني: لا يُعفى عن القاتِلِ غِيلةً ولو عفا عنه أولياءُ الدَّمِ، ويُقتَلُ بكُلِّ حالٍ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [521] ((مواهب الجليل)) للحطاب (8/293)، ((منح الجليل)) لعليش (9/6). ، ووَجهٌ للحنابِلةِ [522] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/45). ، واختاره ابنُ تَيميَّةَ [523] يُنظر: ((المستدرك على الفتاوى)) لابن تيمية (5/97)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/45). ، وابنُ القَيِّمِ [524] قال ابنُ القَيِّمِ: (قَتلُ الغِيلةِ يُوجِبُ قَتلَ القاتِلِ حَدًّا، فلا يُسقِطُه العَفوُ، ولا تُعتَبَرُ فيه المكافأةُ، وهذا مذهَبُ أهلِ المدينةِ، وأحدُ الوَجهَينِ في مذهَبِ أحمدَ، اختاره شيخُنا وأفتى به). ((زاد المعاد)) (4/45). ، وابنُ بازٍ [525] قال ابنُ بازٍ: (قَتلُ الغِيلةِ لا رُجوعَ فيها للأولياءِ؛ لأنَّه خديعةٌ؛ سَدًّا للتَّعدِّي). ((الحلل الإبريزية)) (2/321). وجاء في فتوى له على سؤالٍ عن حُكمِ المقتولِ غِيلةً إذا عفا أولياؤه؟ (ليس لهم، لا بدَّ مِن قَتلِه؛ سدًّا لبابِ الشَّرِّ، وحمايةَ المُسلِمين من الفسادِ). (دروس شرح بلوغ المرام، كتاب الجنايات)، ((موقع الشيخ ابن باز)). ، وابنُ عُثَيمين [526] قال ابنُ عُثَيمين: (استثنى بعضُ العُلَماءِ من هذه المسألةِ ما إذا كان القَتلُ غِيلةً، أي: أن يَقتُلَه على غِرَّةٍ؛ فإنَّه يُقتَلُ القاتِلُ بكُلِّ حالٍ، سواءٌ اختار أولياءُ المقتولِ القَتلَ أم الدِّيةَ، فإنَّه لا خيارَ لهم في ذلك، وهذا مَذهَبُ الإمامِ مالِكٍ، واختيارُ شَيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ، وبناءً على هذا القولِ فإنَّه لا يُحبَسُ الجاني حتَّى يبلغَ أولياء المقتولِ، وإنَّما اختار ذلك مالِكٌ وشيخُ الإسلامِ؛ لأنَّ قَتلَ الغيلةِ فيه مَفسَدةٌ عظيمةٌ، ولأنَّه لا يمكِنُ التَّحرُّزُ منه، إلَّا أن يكونَ مَلِكًا أو أميرًا له جنودٌ وحاشيةٌ يَحرُسونه، فيُمكِنُه التَّحرُّزُ منه، لكنَّ عامَّةَ النَّاسِ لا يمكِنُهم التَّحرُّزُ منه). ((الشرح الممتع)) (14/47). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الأثَرِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ غُلامًا قُتِل غِيلةً، فقال عُمَرُ: (لوِ اشتَرَكَ فيها أهلُ صَنعاءَ لقَتَلتُهم) [527] أخرجه البخاري (6896). .
ثانيًا: قياسًا على المحارِبِ؛ فإنَّه يُقتَلُ بكُلِّ حالٍ [528] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/270). .
ثالثا: يُقتَلُ حتَّى لو عُفِيَ عنه؛ سدًّا لبابِ الشَّرِّ، وحمايةَ المُسلِمين من الفَسادِ [529] يُنظر: ((الحلل الإبريزية)) لابن باز (2/321)، (دروس شرح بلوغ المرام، كتاب الجنايات)، ((موقع الشيخ ابن باز)) ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (14/47). .



انظر أيضا: