الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ السَّابعُ: الآلةُ المُستَخدَمةُ في القِصاصِ


اختَلف العُلماءُ في الآلةِ المُستَخدَمةِ في استيفاءِ القِصاصِ، على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يَجِبُ أن يَكونَ القِصاصُ بآلةٍ ماضيةٍ كالسَّيفِ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [530] عِندَ الحَنَفيَّةِ: لا يُستوفى القِصاصُ إلَّا بالسَّيفِ، والمقصودُ به السِّلاحُ. ((العناية)) للبابرتي (10/222)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/338). ويُنظر: ((الاختيار)) للموصلي (5/28). ، والحَنابلةِ [531] ((الفروع)) لمحمد بن مفلح (9/404)، ((الإنصاف)) للمرداوي (9/362)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/276). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّه قَتلٌ واجِبٌ، فيُستَوفى بالسَّيفِ كقَتلِ المُرتَدِّ [532] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/106). .
ثانيًا: لأنَّ القَتلَ المُستَحَقَّ لا يُستَوفى إلَّا بما لا يَتَخَلَّفُ عنه المَوتُ، كالسَّيفِ [533] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/106). .
ثالثًا: لأنَّ مَبنى القِصاصِ على المُساواةِ، ولا توجَدُ المُساواةُ فيما إذا فُعِل بالجاني مِثلُ ما فَعَل؛ لأنَّ فيه التَّوهُّمَ بالزِّيادةِ، قياسًا على كَسرِ العِظامِ؛ فإنَّه لا قِصاصَ فيه [534] ((العناية)) للبابرتي (10/222)، ((البناية)) للعيني (13/87،88). .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ أن يَستَوفيَ وليُّ الدَّمِ القِصاصَ بأن يَفعَلَ بالجاني مِثلَ ما فعَلَ بالمَجنيِّ عليه، حتَّى يُزهِقَ روحَه، بشَرطِ ألَّا يَكونَ بمُحَرَّمٍ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [535] استَثنى المالِكيَّةُ: ما كان بنارٍ أو بخَمرٍ أو سِحرٍ أو كان مِمَّا يُطيلُ وقتَ إزهاقِ الرُّوحِ. ((مختصر خليل)) (ص: 232)، ((التاج والإكليل)) للمواق (6/256). ، والشَّافِعيَّةِ [536] إلَّا إذا كان بسِحرٍ أو خَمرٍ أو لواطٍ، وله العُدولُ إلى السَّيفِ. ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 277)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/44). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [537] ((الإنصاف)) للمرداوي (9/363). ، وهو اختيارُ ابنِ حَزمٍ [538] قال ابنُ حَزمٍ: (وأمَّا قَولُنا: يُقتَلُ قاتِلُ العَمدِ بأيِّ شَيءٍ قَتَل به، فإنَّه قدِ اختَلف النَّاسُ في كُلِّ ذلك؛ فقالت طائِفةٌ كَما قُلنا). ((المحلى)) (10/254). ، وابنِ تَيميَّةَ [539] قال ابنُ تَيميَّةَ: (وهَكَذا قال كَثيرٌ مِنَ الفُقَهاءِ: إذا قَتَله بتَحريقٍ أو تَغريقٍ أو خَنقٍ أو نَحوِ ذلك، فإنَّه يُفعَلُ به كَما فَعَل، ما لم يَكُنِ الفِعلُ مُحَرَّمًا في نَفسِه، كَتَجريعِ الخَمرِ، واللِّواطِ به. ومِنهم مَن قال: لا قَوَدَ عليه إلَّا بالسَّيفِ. والأوَّلُ أشبَهُ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والعَدلِ). ((مجموع الفتاوى)) (28/381). ، وابنِ عُثَيمين [540] قال ابنُ عُثَيمين: (قَولُه: «ولو» إشارةُ خِلافٍ، والخِلافُ في هذه المَسألةِ أنَّه يُقتَلُ الجاني بمِثلِ ما قَتَل به؛ لعُمومِ قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة: 178] ، وتَمامُ القِصاصِ أن يُفعَلَ بالجاني كَما فعَل؛ لأنَّه مِنَ القَصِّ، وهو تَتبُّعُ الأثَرِ، ولقَولِه تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] ، ولقَولِه تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] ، ولقَولِه تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] ، وما أشبَهَ ذلك مِنَ الآياتِ، ولأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَضَّ رَأسَ الرَّجُلِ اليَهوديِّ بَينَ حَجَرَينِ؛ لأنَّه قَتَل الجاريةَ الأنصاريَّةَ برَضِّ رَأسِها بَينَ حَجَرَينِ، وهذا دَليلٌ خاصٌّ، والآياتُ التي سُقناها أدِلَّةٌ عامَّةٌ، فهذه أدِلَّةٌ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ومِنَ النَّظَرِ أيضًا نَقولُ: كَيف يُمَثِّلُ هذا الجاني بالمَقتولِ، ويَقتُلُه بأبشَعِ قِتلةٍ ويُمَزِّقُه تَمزيقًا، ثُمَّ نَقولُ له: سَنَضرِبُك بالسَّيفِ؟! فهذا ليسَ بعَدلٍ، واللَّهُ تعالى يَقولُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل: 90] ، إلَّا إذا قَتَله بوسيلةٍ مُحرَّمةٍ، فإنَّنا لا نَقتُلُه بها، ... أمَّا إذا رَضَّ رَأسَه بَينَ حَجَرَينِ، أو ذَبَحَه بسِكِّينٍ كالَّةٍ، أو بالصَّعقِ الكَهرَبائيِّ، أو أحرَقَه بالنَّارِ، فإنَّ الصَّوابَ -ولا شَكَّ- أن يُفعَلَ به كَما فَعَل). ((الشرح الممتع)) (14/54،55). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
1- قَولُه تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] .
2- قَولُه تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] .
3- قَولُه تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] .
أوَجهُ الدَّلالةِ:
- أنَّ هذه الآياتِ تَدُلُّ على أنَّ المُماثَلةَ مُعتَبَرةٌ في الاستيفاءِ [541] يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/44). .
- أنَّ كَلامَ اللَّهِ تعالى موجِبٌ أنَّ الغَرَضَ في القِصاصِ في القَتلِ فما دونَه إنَّما هو بمِثلِ ما اعتَدى به، وأنَّه لا يَحِلُّ تَعَدِّي ذلك إلى غَيرِ ما اعتَدى به [542] ((المحلى)) لابن حزم (10/257). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ يَهوديًّا رَضَّ رَأسَ جاريةٍ بَينَ حَجَرَينِ، قيل: مَن فعَل هذا بكِ، أفُلانٌ، أفُلانٌ؟ حتَّى سُمِّي اليَهوديُّ، فأومَأَت برَأسِها، فأُخِذَ اليَهوديُّ، فاعتَرَف، فأمَر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَرُضَّ رَأسُه بَينَ حَجَرَينِ)) [543] أخرجه البخاري (2413) واللفظ له، ومسلم (1672). .  
ثالثًا: لأنَّ مَبنى القِصاصِ على المُساواةِ؛ لأنَّ فيه مُساواةً في أصلِ الوَصفِ والفِعلِ المَقصودِ به [544] ((الهداية)) للمرغيناني (4/445)، ((العناية)) للبابرتي (10/222). .
رابعًا: أنَّ المَقصودَ مِنَ القِصاصِ التَّشَفِّي، وإنَّما يَكمُلُ إذا قُتِل القاتِلُ بمِثلِ ما قَتَل [545] يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/44). .


انظر أيضا: