تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
مَن دفَع الزَّكاةَ إلى مَن ظاهِرُه أنَّه مِن الأصنافِ الثَّمانية، ثم ظهَر أنَّه ليس منهم، فإنَّها تُجزِئُه، وهو مذهبُ الحنفيَّة قيَّد الحَنَفيَّةُ الإجزاءَ بأن يكون عن تحرٍّ، وهو طلَبُ الشَّيءِ بغالبِ الظنِّ عند عدَمِ الوقوفِ على حقيقَتِه. ((حاشية ابن عابدين)) (2/352)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/275). ، وقول للمالكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (2/359). ، وهو اختيارُ أبي عُبيدٍ القاسمِ بنِ سلَّام قال أبو عُبَيد: (وقدِ اختلف الناسُ بعدُ في هذا البابِ، فقال قائلون بهذا القَولِ، وقال آخَرون: عليه الإعادةُ، وأظنُّ الفريقينِ جميعًا شبَّهوها بالصَّلاة، فجعلها الذين رأوها كالصَّلاة لغير القِبلة وهو لا يَشعُر، فلا إعادةَ عليه، وشبَّهها الآخرونَ بالصَّلاةِ على غير طُهورٍ وهو لا يشعُرُ، فعليه الإعادة. والذي عندنا في ذلك أنَّها بأمْرِ القِبلة أشبَهُ، وليس يُشبِهُ هذا البابَ الأوَّل؛ لأنَّه ليس على النَّاسِ فيها إلَّا التحرِّي، فإذا تعمَّدوا مواضِعَها فقد أدَّوْا فَرضَها، وإنْ كانت على غيرِ ذلك؛ لأنَّها مُغيَّبة عنهم. والأصلُ في ذلك حديثُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الرَّجُلين اللَّذين أتياه يسألانِه من الصَّدقة، فقال: (إنْ شِئتُما أعطيتُكما، ولا حظَّ فيها لغنيٍّ، ولا لِقَويٍّ مُكتَسِبٍ) فدَيَّنَهما رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على ذلك، وقبِل ادِّعاءَهما الفقرَ والحاجةَ؛ إذ لم يظهرْ له غناهما، ورأى أنَّه ليس يلزَمُه إلَّا ذلك، فهكذا كلُّ مُتصدِّقٍ). ((الأموال)) (ص: 716، 717). ، وابنِ باز قال ابنُ باز: (يُعطَى الفقيرُ من الزَّكاةِ قدْرَ كفايَتِه لسَنةٍ كاملةٍ، وإذا تبيَّنَ لدافِعِ الزَّكاة أن المُعطَى ليس فقيرًا لم يلزمْه القضاءُ إذا كان المعطَى ظاهِرُه الفَقر) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (14/268). ، وابنِ عُثيمين قال ابنُ عُثيمِين: (هذا القَولُ أقربُ إلى الصَّوابِ؛ أنه إذا دفَع إلى مَن يظُنُّه أهلًا مع الاجتهادِ والتحرِّي، فتبيَّن أنَّه غيرُ أهلٍ، فزكاتُه مُجزِئةٌ؛ لأنَّه لَمَّا ثبَت أنَّها مُجزئةٌ إذا أعطاها لغنيٍّ ظَنَّه فقيرًا، فيُقاسُ عليه بقيَّةُ الأصنافِ).(( الشرح الممتع)) (6/265). الأدلَّة: أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ 1- قال اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة: 286] 2- وقال اللهُ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[التغابن: 16] وجْه الدَّلالة من الآيتين: أنَّ مَن دفَعها إلى مَن يظنُّه أهلًا لها، فإنَّه قد اتَّقى اللهَ ما استطاع، ولا يُكلِّفُ الله نفسًا إلَّا وُسعَها ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/265). ثانيًا: من السُّنَّة 1- عن مَعْنِ بن يَزيدَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((بايعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنا وأبي وجَدِّي، وخطَب عليَّ فأَنكَحَني، وخاصمتُ إليه، وكان أبي يَزيدُ أخْرَجَ دَنانيرَ يَتصدَّقُ بها فوضعَها عند رجلٍ في المسجِدِ، فجئتُ فأخذتُها فأتيتُه بها، فقال: واللهِ ما إيَّاك أردتُ، فخاصَمْتُه إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: لكَ ما نويتَ يا يَزيدُ، ولك ما أخذتَ يا مَعْنُ )) رواه البخاري (1422) وجه الدَّلالة: أنَّ هذا، وإنْ كان واقعةَ حالٍ يجوز فيها كَونُ تلك الصَّدقةِ كانت نفلًا، لكنْ عُمومُ قولِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ: ((لكَ ما نويتَ)) يُفيدُ المطلوبَ ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/276). 2- عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أنَّ رجُلًا تصدَّقَ بصدقةٍ فوقعَتْ في يدِ سارقٍ، فأصْبح الناسُ يَتحدَّثون بأنَّه تُصُدِّقَ على سارقٍ، فقال: اللهمَّ لك الحمدُ على سارقٍ، لأتصدَّقنَّ بصدقةٍ، فتَصدَّقَ فوقعتْ في يدِ زانيةٍ، فأصبَح الناسُ يتحدَّثون: تُصُدِّق على زانيةٍ، فقال: اللهمَّ لك الحمدُ على زانيةٍ، لأتصدَّقنَّ بصدقةٍ، فخرج بصَدَقتِه فوضَعَها في يدِ غنيٍّ، فأصبحوا يتحدَّثون: تُصُدِّقَ على غنيٍّ، فقال: اللهمَّ لك الحمدُ على غنيٍّ، فقيل: أمَّا صَدقتُك فقد قُبِلَت؛ أمَّا الزَّانيةُ فلعلَّها تستَعِفُّ مِن زناها، ولعلَّ السَّارقَ يستعِفُّ عن سَرِقَتِه، ولعلَّ الغنيَّ أن يعتبرَ فيُنفِقَ ممَّا آتاه اللهُ عزَّ وجَلَّ )) رواه البخاري (1421)، ومسلم (1022). وجه الدَّلالة: أنَّ فيه ما يدلُّ على قَبولِ الصَّدَقةِ إذا وقعتْ في غيرِ مَصرِفٍ لها مع الجهْلِ بأنَّه غيرُ مَصْرِف، وظاهرُ الصَّدقةِ المذكورةِ أعمُّ مِن أن يكونَ فريضةً أو نافلةً قال ابنُ حجر: (فإن قيل: إنَّ الخبَرَ إنَّما تضمَّن قصَّةً خاصَّةً وقَعَ الاطِّلاعُ فيها على قَبولِ الصَّدقة برؤيا صادقةٍ اتِّفاقيَّةٍ؛ فمن أين يقَعُ تعميمُ الحُكمِ؟ فالجواب: أنَّ التَّنصيصَ في هذا الخبَرِ على رجاءِ الاستعفافِ، هو الدالُّ على تعديةِ الحُكمِ، فيقتضي ارتباطَ القَبول بهذه الأسبابِ). فتح الباري (3/291)، وينظر: ((السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار)) للشوكاني (ص: 259)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/265). ثالثًا: أنَّ الوقوفَ على أوصافِ المستحقِّينَ هو بالاجتهادِ، فيَبْتني الأمرُ فيها على ما يقَعُ عنده، كما إذا اشتبهتْ عليه القِبلةُ ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/276). رابعًا: أنَّه لو فُرِض تكرُّرُ خَطَئِه فتكرَّرَت الإعادةُ، أفْضى إلى الحَرَج لإخراجِ كلِّ ماله، والحَرَجُ مدفوعٌ شرعًا ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/276). خامسًا: أنَّه أتى بما في وُسعِه، فلم يكُنْ عليه أكثرُ مما صنَع؛ لأن الذي تُعُبِّد به إنَّما هو الاجتهادُ في ذلك ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/246)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/352). سادسًا: أنَّ الظنَّ يقومُ مقامَ العِلمِ؛ لتعذُّرِ أو عُسرِ الوُصولِ إليه، وليس لنا إلَّا الظَّاهِرُ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/263، 264). سابعًا: أنَّ العِبرةَ في العباداتِ بما في ظنِّ المكلَّفِ بخلافِ المُعاملات؛ فالعِبرةُ بما في نفْسِ الأمرِ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/265). ثامنًا: أنَّ الفَقرَ والغِنى ممَّا يعسُرُ الاطِّلاعُ عليه والمعرفةُ بِحَقيقَتِه؛ قال اللهُ تعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ[البقرة: 273] ، فاكتفى بظهورِ الفَقرِ، ودعواه ((المغني)) لابن قدامة (2/498). فرعٌ: تحرُم المسألةُ على كلِّ قويٍّ على الكسْبِ أو غنيٍّ الأدلَّة: أوَّلًا: من السُّنَّة 1- عن أبي سعيدٍ الخُدري، رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن سألَ وله قِيمةُ أُوقيَّةٍ، فقدْ ألْحَفَ )) رواه أبو داود (1628)، والنسائي (5/98)، (2595)، وأحمد (3/9) (11075)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (2/20). قال الطحاوي: جاءت الآثار بذلك متواترةً. ووثَّق رجالَ إسناده الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (4/226)، وصحَّح إسنادَه أحمدُ شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/329)، وقال الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (2594): حسن صحيح. وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (398). قال ابنُ عبد البَرِّ: (الإلحافُ في كلام العرَبِ: الإلحاحُ، لا خلافَ بين أهلِ اللغة في ذلك، والإلحاحُ على غيرِ اللهِ مذمومٌ؛ لأنَّه قد مدَح اللهُ بضدِّه، فقال: لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا). ((التمهيد)) (4/97) 2- عن قَبِيصَةَ بن مُخارِقٍ الهلاليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يا قَبِيصَةُ، إنَّ المسألةَ لا تحِلُّ إلَّا لأحدِ ثلاثةٍ: رَجُلٍ تحمَّلَ حَمَالةً، فحلَّتْ له المسألةُ حتى يُصيبَها، ثم يُمسِك، ورجُلٍ أصابتْ مالَه جائحةٌ فاجتاحتْ مالَه، فحلَّتْ له المسألةُ حتى يُصيبَ سِدادًا من عَيشٍ، أو قِوامًا مِن عَيشٍ، ورجُلٍ أصابتْه فاقَةٌ أو حاجةٌ حتى يَشهَدَ- أو يقولَ- ثلاثةٌ من ذوي الحِجا من قومِه: إنَّ به فاقةً وحاجةً، فحلَّتْ له المسألةُ حتى يُصيبَ سِدادًا من عَيشٍ، أو قِوامًا مِن عَيشٍ، ثم يُمسِك )) رواه مسلم (1044) ثانيًا: مِنَ الإجماعِ نقَل الإجماعَ على ذلك ابنُ حزمٍ قال ابنُ حَزْم: (اتَّفقوا أنَّ المسألةَ حرامٌ على كلِّ قَوِيٍّ على الكَسبِ أو غنيٍّ، إلَّا مَن تحمَّل حَمالةً، أو سألَ سُلطانًا، أو ما لا بدَّ منه) ((مراتب الإجماع)) (ص: 155).