المطلب الثاني: شروطُ صحَّةِ تكبيرةِ الإحرامِ
الفَرْعُ الأول: مقارنةُ النيَّةِ لتكبيرةِ الإحرامِالمسألة الأولى: حُكمُ تقدُّمِ النيَّةِ عن تكبيرةِ الإحرامِ1- تقدُّمُ النيَّةِ عن تكبيرةِ الإحرامِ بزمنٍ طويلٍ: لا يجوزُ تقدُّمُ النيَّةِ عن تكبيرةِ الإحرامِ بزمنٍ طويلٍ.
الدَّليلُ من الإجماع:نقَل ابنُ رُشدٍ الجَدُّ: الإجماعَ على أنَّه لا يجوزُ تقدُّمُ النيَّةِ الكثيرُ على تكبيرةِ الإحرامِ
قال ابنُ رشد الجَدُّ: (يجزئ أن تتقدَّمه بيسيرٍ بعد إجماعِهم أنه لا يجوز أن تتقدَّمَه بكثيرٍ). ((المقدمات الممهدات)) (1/170). 2- تقدُّمُ النيَّةِ عن تكبيرةِ الإحرامِ بزمنٍ يسيرٍ: يجوز تقديمُ النيَّةِ عن التَّكبيرِ تقديمًا يسيرًا، ولا يُشترطُ مقارنةُ النيَّةِ للتَّكبيرِ، وهو مذهبُ الجمهور: الحنفيَّةِ
((حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح)) (ص: 146)، وينظر: ((تحفة الملوك)) لزين الدين الرازي (ص: 66). ، والمالكيَّةِ
((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/260)، وينظر: ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد (1/170). ، والحنابلةِ
((الفروع وتصحيح الفروع)) (2/ 137)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/339)، ((شرح العمدة - كتاب الصلاة)) (ص: 586). وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّ الصَّلاةَ عبادةٌ، فجاء تقديمُ نيتِها عليها كتقديمِ النيَّة في الصومِ على طُلوع الفَجرِ، وتقديمُ النيَّةِ على الفعلِ لا يُخرِجُه عن كونِه مَنْوِيًّا، ولا يُخرجُ الفاعلَ عن كونِه مخلِصًا، كسائرِ الأفعالِ في أثناءِ العبادةِ
((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/92)، ((المغني)) لابن قدامة (1/339). ثانيًا: أنَّه لم يُنقَلِ اشتراطُ المقارنةِ المؤدِّيةِ إلى الوسوسةِ المذمومةِ شرعًا وطبعًا؛ فدلَّ ذلك على أنَّهم تسامحوا في التَّقديمِ اليسيرِ
((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/260). ثالثًا: أنَّ التَّكبيرَ جزءٌ مِن أجزاءِ الصَّلاةِ، فجاز أن تكونَ النيَّةُ مستصحَبةً فيه حُكمًا، وإن لم تكُنْ مذكورةً، كسائرِ أجزاءِ الصَّلاةِ
((شرح العمدة - كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 586). رابعًا: أنَّ إيجابَ مقارنةِ النيَّةِ للتَّكبيرِ يعسُرُ ويشُقُّ على كثيرٍ مِن النَّاسِ، ويفتَحُ بابَ الوَسواسِ المخرِجِ لهم عن الصَّلاةِ إلى العبَثِ واللَّغوِ مِن القولِ
((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/93)، ((شرح العمدة - كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 586). خامسًا: أنَّ المقصودَ بالنيَّةِ تمييزُ عملٍ عن عملٍ، وهذا يحصُلُ بالنيَّةِ المقترِنةِ والمتقدِّمةِ
((شرح العمدة - كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 586). سادسًا: أنَّ المعروفَ من صلاةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه أنَّهم كانوا يُكبِّرون بيُسرٍ وسهولةٍ مِن غير تعمُّقٍ وتكلُّفٍ وتعسيرٍ وتصعيبٍ، ولو كانت المقارنةُ واجبةً لاحتاجوا إلى ذلك
((شرح العمدة - كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 586). المسألة الثَّانية: حُكْمُ تأخُّرِ النيَّةِ عن تكبيرةِ الإحرامِلا يجوزُ تأخُّرُ النيَّةِ عن تكبيرةِ الإحرامِ باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحنفيَّةِ
((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 83)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/129). والمالكيَّةِ
((حاشية الدسوقي)) (1/236)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/269)، ((كفاية الطالب الرباني)) لأبي الحسن المالكي (2/521). والشافعيَّةِ
((المجموع)) للنووي (3/277) ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/152). والحنابلةِ
((كشاف القناع)) للبهوتي (1/315)، وينظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/494). لأنَّ ذلك يَقتضي عُزوبَ النيَّةِ عن أوَّلِ الصَّلاةِ، وخُلوَّ أوَّلِ الصَّلاةِ عن النيَّةِ الواجبةِ
((كشاف القناع)) للبهوتي (1/315). ، فلا يقَعُ أوَّلُها عِبادةً؛ لعدمِ النيَّةِ
((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/265)، ((الجوهرة النيرة)) للحدادي (1/48). الفرعُ الثاني: الإتيانُ بتكبيرةِ الإحرامِ قائمًا يُشترطُ في صحَّةِ تكبيرةِ الإحرامِ في صلاةِ الفرضِ أن يأتيَ بها قائمًا، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعة: الحنفيَّةِ
((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/131). ، والمالكيَّةِ
((التاج والإكليل)) للمواق (1/514)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/475). ، والشافعيَّةِ
((روضة الطالبين)) للنووي (1/229)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/151). ، والحنابلةِ
((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/183)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/330). الدَّليلُ من السنَّةِ:عن أبي حُميدٍ السَّاعديِّ رضيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا قام إلى الصَّلاةِ اعتَدَل قائمًا، ورفَعَ يديه، ثم قال: اللهُ أكبَرُ )) رواه أبو داود (730)، والترمذي (304)، وابن ماجه (709) واللفظ له. قال الترمذيُّ: حسن صحيح. واحتجَّ به ابن حزم في ((المحلى)) (4/91)، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (1/339)، وصححه النَّووي في ((المجموع)) (3/406)، وابن القيم في ((تهذيب السنن)) (2/416)، وقال: متلقًّى بالقَبول لا عِلَّة له. وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (304). الفرع الثالث: كونُ تكبيرةِ الإحرامِ بلفظِ (اللهُ أكبَرُ)لا تنعقِدُ الصَّلاةُ إلَّا بتكبيرةِ الإحرامِ بلفظِ: (اللهُ أكبَرُ)، وهذا مذهبُ المالكيَّةِ
((الكافي)) لابن عبد البر (1/ 199)، وينظر: ((التلقين)) للقاضي عبد الوهاب (1/42)، ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد (1/169). ، والحنابلةِ
((الإنصاف)) للمرداوي (2/32)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/333). ، وهو قولُ
الشافعيِّ القديمُ
قال النَّوويُّ: (لفظة التكبير: الله أكبر، فهذا يجزئ بالإجماع، قال الشافعي: ويجزئ: الله الأكبر، لا يجزئ غيرهما، وقال مالك: لا يجزئ إلَّا: الله أكبر، وهو الذي ثبت أنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقوله، وهذا قول منقول عن الشافعي في القديم). ((شرح النَّووي على مسلم)) (4/96)، ويُنظر: ((المجموع)) للنووي (3/302). ، وبه قال أكثَرُ السَّلفِ
قال ابنُ قُدامة: (الصلاة لا تنعقد إلَّا بقول: "الله أكبر" عند إمامنا، ومالك، وكان ابن مسعود، وطاوس، وأيوب، ومالك، والثوري، والشافعي، يقولون: افتتاح الصلاة: التكبير، وعلى هذا عوامُّ أهل العلم في القديم والحديث). ((المغني)) (1/333) وقال ابنُ القيِّم: (قال أحمد ومالك وأكثر السَّلف: يتعيَّن لفظ: الله أكبر، وحدها). ((حاشية ابن القيم على سنن أبي داود)) (1/92). ، واختاره
داودُ الظَّاهريُّ ((المجموع)) للنووي (3/302). ، و
ابنُ القيِّمِ قال ابنُ القيِّم: (الصحيح: قول الأكثرين، وأنه يتعيَّن: الله أكبر) ((حاشية ابن القيم على سنن أبي داود)) (1/93، 92). ، و
ابنُ عُثَيمين قال ابن عُثَيمين: (فإنْ قال: الله الأكبر، فقال بعض العلماء: إنه يجزئ، وقال آخرون: بل لا يجزئ، والصحيح: أنه لا يجزئ؛ لأن قولك: «أكبر» مع حذف المفضل عليه يدل على أكبرية مطلقة، بخلاف: الله الأكبر، فإنك تقول: ولدي هذا هو الأكبر، فلا يدلُّ على ما تدلُّ عليه «أكبر» بالتنكير، ثم إنَّ هذا هو الذي ورد به النصُّ، وقد قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «من عمِل عملًا ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ»، فالواجب أن يقول: «الله أكبر»). ((الشرح الممتع)) (3/21). الأدلَّة:أوَّلًا: مِن السنَّة1- عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مِفتاحُ الصَّلاةِ: الطُّهورُ، وتحريمُها: التَّكبيرُ، وتحليلُها: التَّسليمُ )) رواه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (224)، وأحمد (1/123) (1006). قال الترمذيُّ: أصحُّ شيء في هذا الباب وأحسنُه، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (1/36): رواه أبو داود بسند صحيح. وحسَّنه النَّووي في ((الخلاصة)) (1/384)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/230)، وقال الشَّوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/184): له طُرق يقوِّي بعضها بعضًا، فيصلح للاحتجاج به. وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((المسند)) (2/218)، وحسَّن إسنادَه ابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (207)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ اللَّامَ في قولِه:
((تحريمُها التَّكبير)) للعهدِ، وهو التَّكبيرُ المعهودُ الذي نقَلَتْه الأمَّةُ نقلًا ضروريًّا، خلَفًا عن سلَفٍ، عن نبيِّها أنَّه كان يقولُه في كلِّ صلاةٍ، لا يقولُ غيرَه، ولا مرَّةً واحدةً
((حاشية ابن القيم على سنن أبي داود)) (1/93، 92). وقال النَّوويُّ: (ليس هو تمسُّكًا بدليل الخطاب، بل بمنطوقٍ، وهو أن قوله: "تحريمها: التكبير" يقتضي الاستغراق، وأنَّ تحريمها لا يكون إلَّا به، وبقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"). ((المجموع)) (3/303، 304). 2- عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه:
((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا قام إلى الصَّلاةِ قال: اللهُ أكبَرُ... )) رواه مسلم (771) بلفظ: ((إذا استفتح الصلاة كبَّر))، وأبو داود (761)، والترمذي (3421)، والنسائي (2/129)، والبزار (2/169) (536) واللفظ له. عن أبي حُمَيدٍ السَّاعديِّ رضيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا قام إلى الصَّلاةِ اعتَدَل قائمًا، ورفَع يديه، ثم قال: اللهُ أكبَرُ )) رواه أبو داود (730)، والترمذي (304)، وابن ماجه (709) واللفظ له. قال الترمذيُّ: حسن صحيح. واحتجَّ به ابن حزم في ((المحلى)) (4/91)، وصحَّحه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (1/339)، وصحَّحه النَّووي في ((المجموع)) (3/406)، وابن القيم في ((تهذيب السنن)) (2/416). وقال: متلقًّى بالقَبول لا عِلَّة له. وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (304). 3- عن رِفاعةَ بنِ رافعٍ رضيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تتِمُّ صلاةٌ لأحَدٍ مِن النَّاسِ حتَّى يتوضَّأَ فيضَعَ الوُضوءَ مواضِعَه ثم يقولَ: اللهُ أكبَرُ.... )) رواه أبو داود (857) واللفظ له، والنسائي (1053) والدارمي (1368)، والطبراني (5/38) (4526). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (857). 4- عن أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال للأعرابيِّ:
((إذا قُمْتَ إلى الصَّلاةِ فكبِّرْ )) رواه البخاري (757)، ومسلم (397). ثانيًا: أنَّ المنقولَ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "اللهُ أكبَرُ" لم يُخِلَّ به هو ولا أحدٌ مِن خلفائِه ولا أصحابِه، ولو كانت الصَّلاةُ تنعقِدُ بغيرِ هذا اللَّفظِ لترَكه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولو مرَّةً واحدةً في عُمُرِه؛ لبيانِ الجوازِ، فحيث لم ينقُلْ أحَدٌ عنه قطُّ أنَّه عدَل عنه حتَّى فارَقَ الدُّنيا، دلَّ على أنَّ الصَّلاةَ لا تنعقِدُ بغيرِه
((المجموع)) للنووي (3/303)، ((حاشية ابن القيم على سنن أبي داود)) (1/93، 92). ثالثًا: أنَّه لو قام غيرُه مقامَه لجاز أن يقومَ غيرُ كلماتِ الأَذانِ مقامَها، وأن يقولَ المؤذِّنُ: كبَّرْتُ اللهَ، أو اللهُ الكبيرُ، أو اللهُ أعظَمُ، ونحوَه، بل تعيَّن لفظةُ: اللهُ أكبَرُ في الصَّلاةِ، أعظَمَ مِن تعيُّنِها في الأَذانِ؛ لأنَّ كلَّ مسلمٍ لا بدَّ له منها، وأمَّا الأذانُ فقد يكونُ في المِصرِ مؤذِّنٌ واحدٌ أو اثنانِ
((المجموع)) للنووي (3/303)، ((حاشية ابن القيم على سنن أبي داود)) (1/93). رابعًا: أنَّ ألفاظَ الذِّكرِ توقيفيَّةٌ؛ يتوقَّفُ فيها على ما ورَدَ به النَّصُّ، ولا يجوزُ إبدالُها بغيِرها؛ لأنَّها قد تحمِلُ معنًى نظُنُّ أنَّ غيرَها يحمِلُه، وهو لا يحمِلُه
((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (3/21).