المَطلَبُ الثَّاني: من أوجُهِ الرَّدِّ على الجَهْميَّةِ في قَولِهم بخَلقِ القرآنِ: أنَّ هذا القَولَ في حقيقتِه تشبيهٌ للهِ تعالى بالأصنامِ والجماداتِ التي لا تتكَلَّمُ ولا تنطِقُ
قال
ابنُ بطَّةَ: (أنكر الجَهْميُّ الخبيثُ الملعونُ هذا كُلَّه
[202] يقصِدُ النصوصَ الدَّالَّةَ على إثباتِ صفةِ الكلامِ لله سبحانَه وتعالى. ، وردَّه وجحَد به، وقال: إنَّ اللهَ ما تكلَّم قطُّ ولا يتكلَّمُ، وزعم أنَّ رَبَّه كالحِجارةِ الصُّمِّ البُكمِ الجمادِ الخُرسِ التي كانت تعبُدُها الجاهليَّةُ، لا تسمَعُ ولا تبصِرُ ولا تنطِقُ، ولا تنفَعُ ولا تضُرُّ، وهو مع هذا يزعُمُ أنَّه يريدُ أن يُنزِّهَ اللهَ ويرفَعَه عن التشبيهِ ببني آدمَ، يتكلَّمونَ ويسمَعونَ ويُبصِرونَ، ويقولُ: إنَّ الكلامَ لا يجوزُ أن يكونَ إلَّا مِن جَوفٍ بلسانٍ وشفَتَينِ وحَلْقٍ ولهَواتٍ، فينفونَ عن اللهِ القُدرةَ، ويزعُمونَ أنَّه لا يقدِرُ أن يتكلَّمَ إلَّا بآلاتِ الكلامِ!)
[203] ((الإبانة الكبرى)) (6/ 302). .
قال
أبو الحسَنِ الأشعَريُّ مُبيِّنًا بُؤسَ مقالةِ
الجَهْميَّةِ، وخبيثَ ما يلزَمُ عنها: (اعلَموا -رحمَكم اللهُ- أنَّ قَولَ
الجَهْميَّةِ: "إنَّ كلامَ اللهِ مخلوقٌ" يلزَمُهم به أن يكونَ اللهُ تعالى لم يَزَلْ كالأصنامِ التي لا تنطِقُ ولا تتكلَّمُ لو كان لم يزَلْ غيرَ مُتكلِّمٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يخبرُ عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه قال لقَومِه لمَّا قالوا له:
أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء: 62-63] ، فاحتجَّ عليهم بأنَّ الأصنامَ إذا لم تكُنْ ناطقةً مُتكلِّمةً لم تكُنْ آلهةً، وأنَّ الإلهَ لا يكونُ غيرَ ناطِقٍ ولا مُتكلِّمٍ، فلمَّا كانت الأصنامُ التي لا يستحيلُ أن يحييَها اللهُ ويُنطِقَها لا تكونُ آلهةً، فكيف يجوزُ أن يكونَ من يستحيلُ عليه الكلامُ في قِدَمِه إلهًا؟ تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا)
[204] يُنظر: ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 71). .
وقال
الأشعَريُّ أيضًا: (قال اللهُ تعالى مخبِرًا عن نفسِه أنَّه يقولُ:
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] ،... وقد قال اللهُ تعالى أيضًا:
وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] . والتكليمُ هو المشافهةُ بالكلامِ، ولا يجوزُ أن يكونَ كلامُ المُتكلِّمِ حالًّا في غيرِه مخلوقًا في شيءٍ سِواه، كما لا يجوزُ ذلك في العلمِ... وقال اللهُ تعالى:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1-4] ، فكيف يكونُ القرآنُ مخلوقًا، وأسماءُ اللهِ في القُرآنِ؟ هذا يوجِبُ أن تكونَ أسماءُ الله مخلوقةً، ولو كانت أسماؤُه مخلوقةً لكانت وحدانيَّتُه مخلوقةً وكذلك عِلمُه وقُدرتُه، تعالى اللهُ عن ذلك علوًّا كبيرًا...
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] ، ولا بدَّ أن يكونَ شَهِد بهذه الشَّهادةِ وسَمِعَها من نفسِه؛ لأنَّه إن كان سمِعَها من مخلوقٍ فليست شهادةً له، وإذا كانت شهادةً له وقد شَهِد بها فلا يخلو أن يكونَ شَهِد بها قَبلَ كونِ المخلوقاتِ أو بَعدَ كونِ المخلوقاتِ، فإن كان شَهِد بها بَعدَ كونِ المخلوقاتِ فلِمَ يسبِقُ شهادتَه لنفسِه بألوهيَّةِ الخَلقِ، وكيف يكونُ ذلك كذلك؟ وهذا يوجِبُ أنَّ التوحيدَ لم يكُنْ يشهَدُ به شاهِدٌ قَبلَ الخَلقِ، ولو استحالت الشَّهادةُ بالوحدانيَّةِ قَبلَ كونِ الخَلقِ لاستحالَ إثباتُ التوحيدِ ووُجودُه وأن يكونَ واحِدًا قَبلَ الخَلقِ؛ لأنَّ ما يستحيلُ الشَّهادةُ عليه فمستحيلٌ، وإن كانت شهادتُه لنفسِه قَبلَ الخَلقِ بالتوحيدِ، فقد بطل أن يكونَ كلامُ اللهِ تعالى مخلوقًا؛ لأنَّ كلامَ اللهِ شهادتُه. وقال اللهُ تعالى:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى: 51] ، فلو كان كلامُ اللهِ لا يوجَدُ إلَّا مخلوقًا في شيءٍ مخلوقٍ لم يكُنْ لاشتراطِ هذه الوُجوهِ معنًى؛ لأنَّ الكلامَ قد سمِعَه جميعُ الخَلقِ ووَجَدوه -بزعمِ
الجَهْميَّةِ- مخلوقًا في غيرِ اللهِ تعالى، وهذا يوجِبُ إسقاطَ مرتبةِ النَّبيِّينَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ.
ويجِبُ عليهم إذا زعَموا أنَّ كلامَ الله لموسى خَلَقَه في شَجَرةٍ أن يكونَ مَنْ سمِعَ كلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ مَنْ مَلَكٍ أو من نبيٍّ أتى به من عِندِ اللهِ أفضَلَ مرتبةً من سماعِ الكلامِ مِن موسى؛ لأنَّهم سمِعوه من نبيٍّ ولم يسمَعْه موسى مِن اللهِ عزَّ وجلَّ وإنما سمِعَه من شجرةٍ! وأن يزعُموا أنَّ اليهوديَّ إذا سمع كلامَ اللهِ من النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أفضَلُ مرتبةً في هذا المعنى من موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ اليهوديَّ سَمِعه من نبيٍّ من أنبياءِ اللهِ، وموسى سمِعَه مخلوقًا في شَجَرةٍ، ولو كان مخلوقًا في شَجَرةٍ لم يكُنْ مكلِّمًا لموسى مِن وراءِ حِجابٍ؛ لأنَّ مَنْ حَضَرَ الشَّجَرةَ من
الجِنِّ والإنسِ قد سمعوا الكلامَ من ذلك المكانِ، وكان سبيلُ موسى وغيرِه في ذلك سواءً في أنَّه ليس كلامُ اللهِ له من وراءِ حِجابٍ!)
[205] ((الإبانة)) (ص: 71- 76). .