المَطلَبُ الثَّالثُ: وجوبُ الوعدِ والوعيدِ
تبيَّن أنَّ
الخَوارِجَ يقولون بأنَّ العُصاةَ من أهلِ الكبائِرِ إذا ماتوا على كبائِرِهم دونَ توبةٍ، وأنَّهم في هذه الحالِ ليس لهم إلَّا مصيرٌ واحِدٌ، وهو النَّارُ، مخلَّدِينَ فيها، وقولُهم هذا وقولُ
المُعتَزِلةِ في هذا الموضوعِ قولٌ واحِدٌ، وهو تخليدُهم في النَّارِ، إلَّا أنَّ
الخَوارِجَ يَرَون أنَّ عذابَهم كعذابِ الكُفَّارِ، و
المُعتَزِلةُ تخالِفُهم في هذا وترى أنَّ عذابَهم ليس كعذابِ الكُفَّارِ
[530] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/204). ، بل هم أقلُّ منهم في الدَّرَجةِ حتَّى مع خلودِهم في النَّارِ.
قال
الأشعَريُّ: (أجمع أصحابُ الوعيدِ من
المُعتَزِلةِ أنَّ من أدخله اللهُ النَّارَ خَلَّده فيها)
[531] ((المقالات)) (1/334). .
فالخَوارِجُ كما هو المشهورُ عنهم وكما تبيَّن ممَّا سبق أنَّهم من أشَدِّ الفِرَقِ الإسلاميَّةِ مُبالَغةً في مسألةِ ارتكابِ الذُّنوبِ وإخراجِ أهلِها من الإيمانِ؛ إذ إنَّ الإيمانَ قولٌ وعَمَلٌ، فإذا خالف عمَلُه الحقَّ بارتكابِ بعضِ الذُّنوبِ، فلا بقاءَ لإيمانِه، وهو من أصحابِ النَّارِ، وقد وصف اللهُ نفسَه بأنَّه عَدلٌ يجازي كُلَّ واحدٍ بما عَمِل، وهو علَّامُ الغيوبِ، فلا يمكِنُ أن يكونَ المُؤمِنُ والكافِرُ والطَّائعُ والعاصي والبَرُّ والفاجِرُ في ميزانِه تعالى واحِدًا؛ فهذا خلافُ العدلِ، الذي تنَزَّه اللهُ عنه، وإلَّا كان الأمرُ بالإيمانِ والطَّاعةِ والنَّهيُ عن الكُفرِ والمعاصي لا معنى له.
ثمَّ قالوا: إنَّ اللهَ صادِقٌ، وقد قال في كتابِه الكريمِ:
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 9] ، وقال تعالى:
لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 28-29] ، فلا يُتصَوَّرُ أن يخلِفَ اللهُ وَعدَه أو وعيدَه، وإلَّا جاز عليه القولُ بأنَّه يقولُ شيئًا ثُمَّ يبدو له أنَّ المصلحةَ في خلافِه، فيترُكُ الأوَّلَ، وهذا مستحيلٌ على اللهِ، وهو من صفاتِ النَّاسِ لنَقصِ عُقولِهم وتجَدُّدِ الأمورِ لديهم.
كذلك فإنَّ المعروفَ بداهةً أنَّ من استحَقَّ العذابَ لا يستَحِقُّ الثَّوابَ، ومن استحَقَّ الإحسانَ لا يستَحِقُّ الإساءةَ، وإلَّا لزم الجمعُ بَينَ النَّقيضينِ، وعلى هذا فإنَّ النَّاسَ في الدَّارِ الآخرةِ ينقَسِمون إلى قِسمَينِ: شقيٌّ وسعيدٌ؛ فمن استحقَّ الشَّقاءَ لا يستَحِقُّ السَّعادةَ، ومن استحَقَّ السَّعادةَ لا يستَحِقُّ الشَّقاءَ؛ قال تعالى
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 106 - 108] ، وكذا قولُه تعالى:
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] . إلى غيرِ هذه الآياتِ التي في هذا السِّياقِ.
و
الإباضيَّةُ في ذلك كبقيَّةِ
الخَوارِجِ يَرَون أنَّ اللهَ لا يخلِفُ وَعدَه ولا يُبطِلُ وَعيدَه، كما قال صاحِبُ كتابِ (الأديان) الإباضيُّ: (ومِن اعتقادِ أهلِ الاستقامةِ أنَّ اللهَ لا يخلِفُ وَعدَه، ولا يُبطِلُ وَعيدَه)
[532] ((الأديان)) (ص: 55). . ويقولُ علي مَعمَر أيضًا في هذه المسألةِ: (كما لا يجوزُ خُلفُ الوعدِ، كذلك لا يجوزُ خُلفُ الوعيدِ)
[533] ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 440). فهم مُجمِعون على أنَّ اللهَ لا يخلِفُ وَعدَه ولا وعيدَه، كما قال تعالى:
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] .
وهذا هو استدلالُهم من القرآنِ. واستدَلُّوا من الشِّعرِ العربيِّ ببيتٍ لأحَدِ الشُّعراءِ، وهو قولُه:
قومٌ إذا وَعَدوا أو أوعَدوا غَمَروا
صِدقَ ذَوائِبَ ما قالوا بما فَعَلوا
وقال النَّفوسيُّ مُثبِتًا اعتقادَهم في هذا البابِ:
ودنا بإنفاذِ الوعيدِ وحُكمِه
وتخليدِ أهلِ النَّارِ في النَّارِ والهُونِ
[534] ((متن النونية)) (ص: 18). .
وفيما يتعَلَّقُ بوجوبِ الوعدِ والوعيدِ، فإنَّ أهلَ السُّنَّةِ يقولون: إنَّ إخلافَ الوعدِ مذمومٌ، وذلك غيرُ إخلافِ الوعيدِ فهو كَرَمٌ وتجاوُزٌ، كما يفعَلُ أهلُ الشَّرَفِ بعبيدِهم حينَ يتوعَّدونَهم ثُمَّ يَعْفون عنهم ويُخلِفون ما توعَّدوهم به من العقابِ؛ ولهذا (قال أهلُ السُّنَّةِ: وإخلافُ الوعيدِ كرَمٌ ويُمدَحُ به بخلافِ الوَعدِ)
[535] ((الأسئلة والأجوبة على الواسطية)) للسلمان (ص: 84). .
وقد رَدَّ
أبو عَمرِو بنُ العلاءِ على
عَمرِو بنِ عُبَيدٍ القَدَريِّ حينَ قال له
ابنُ عُبَيدٍ: (وقد وَرَد من اللهِ تعالى الوَعدُ والوعيدُ، واللهُ تعالى يَصدُقُ وَعدُه ووَعيدُه) قال البَغداديُّ: (فأراد بهذا الكلامِ أن ينصُرَ بِدعتَه التي ابتدَعَها في أنَّ العصاةَ من المُؤمِنين خالِدون مخَلَّدون في النَّارِ)، أجاب
أبو عَمرِو بنُ العلاءِ عن قولِ
ابنِ عُبَيدٍ هذا بقولِه: (فأين أنت من قولِ العَرَبِ: إنَّ الكريمَ إذا أوعَد عفا، وإذا وَعَد وفى، وافتخارِ قائِلِهم بالعَفوِ عِندَ الوعيدِ؛ حيثُ قال:
وإنِّي إذا أوعَدْتُه أو وعَدْتُه
لمُخلِفُ إيعادي ومُنجِزُ مَوعِدي
فعَدَّه من الكَرَمِ لا من الخُلُقِ المذمومِ؟!)
[536] ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 365). .
ووجوبُ الوعدِ بالثَّوابِ والوعيدِ بالعقابِ عِندَ
الإباضيَّةِ لا يرجِعُ إلى الإيجابِ على اللهِ؛ لأنَّ أحدًا لا يوجِبُ عليه سُبحانَه وتعالى شيئًا، بل هو مقتضى الحِكمةِ الإلهيَّةِ. فيَرَون وجوبَ الثَّوابِ والعقابِ في حَقِّ الحِكمةِ؛ لأنَّ الحِكمةَ تقتضي أن يثابَ المحسِنُ بإحسانِه، والمُسيءُ بإساءتِه، ويَرَون أنَّ الذين يقولون بوجوبِ الثَّوابِ والعقابِ على اللهِ -وهم
المُعتَزِلةُ- قد أساؤوا الأدَبَ مع رَبِّهم؛ لأنَّهم لم يحتَرِزوا بعبارةِ: (في حَقِّ الحِكمةِ)، وهذا ما قاله أحَدُ أئمَّتِهم أبو يعقوبَ يوسُفُ بنُ إبراهيمَ الوَرجَلانيُّ: (إنَّ اللهَ لا يجِبُ عليه شيءٌ؛ لأنَّه لا مُوجِبَ عليه، وإنَّما الوجوبُ في الحِكمةِ، واجِبٌ عليه الثَّوابُ في حَقِّ الحِكمةِ، والعقابُ كذلك
[537] ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 56). . وقال أيضًا في إيضاحِ وُجوبِ الثَّوابِ والعِقابِ: (وأمَّا الصِّنفُ الثَّاني من المكلَّفين -بنو آدَمَ والجِنُّ- فهؤلاء من واجِبِ الحِكمةِ أن يجِبَ لهم الأجرُ والثَّوابُ على اللهِ تعالى من جهةِ الحِكمةِ ومُقتضاها لا من جِهةِ إيجابِ مُوجِبٍ)
[538] ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 56). .
وقال أيضًا: (الذين قالوا إنَّ الثَّوابَ حَتمٌ على اللهِ قد أساؤوا الأدَبَ، إنَّما كان ينبغي لهم أن يقولوا: حَتمٌ في واجِبِ الحِكمةِ)
[539] ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 58). .