المَطلَبُ الثَّالثُ: محاسَبةُ الإمامِ والخُروجُ عليه
يرى
الخَوارِجُ أنَّ الإمامَ هو المَثَلُ الأعلى؛ ولهذا يجِبُ أن يكونَ متَّصِفًا بذلك قولًا وفِعلًا، فإنَّ خطَأَه ليس كخطَأِ غيرِه من النَّاسِ، فإذا أخطأ خطيئةً ما يجِبُ فورًا محاسبتُه والخُروجُ عليه، فإمَّا أن يعتَدِلَ وإمَّا أن يعتَزِلَ، ولو أدَّى هذا إلى قتلِه؛ فإنَّه حَقٌّ مشروعٌ لهم حينَئذٍ.
وهكذا يعيشُ الإمامُ عِندَهم بَينَ فكَّيِ الأسَدِ يحاسَبُ على كُلِّ ما يصدُرُ منه محاسَبةً دقيقةً لا تأخُذُهم فيه لومةُ لائمٍ، فلا طاعةَ لجائرٍ؛ لأنَّهم يُنكِرون الجَورَ أشَدَّ الإنكارِ، ولا يعتَرِفون بإمامٍ يعتَقِدون أنَّه قد جار في حُكمِه؛ قال
الأشعَريُّ: (ولا يَرَون إمامةَ الجائِرِ)
[645] ((المقالات)) (1/ 204). ويُنظر: ((الإسلام والحضارة العربية)) لحسين (2/ 62 /63). .
ويحِلُّ عليه الخُروجُ عِندَهم إذا ارتكَب ذنبًا ولم يَتُبْ منه، أو أظهر جَورًا في حُكمِه، أو كان فيه تقصيرٌ عن إقامةِ الحدودِ؛ فإنَّ الخُروجَ عليه حينَئذٍ يكونُ واجِبًا، وقتالُه حَقٌّ واستشهادٌ، فهم مشهورون بتشَدُّدِهم وصرامتِهم وجُرأتِهم في محاسَبةِ رُؤسائِهم
[646] يُنظر: ((الطرماح بن حكيم)) للصالحي (ص: 55). .
وإشهارُ السَّيفِ في وَجهِه ووجوهِ أتباعِه من إقامةِ الدِّينِ وإظهارِه عاليًا عِندَهم؛؛ لأنَّ الظَّلَمةَ لا ولايةَ لهم، ولا تجِبُ طاعتُهم؛ فقد قال تعالى:
لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] ، وهذا دليلٌ واضحٌ عِندَهم على وُجوبِ إقصائِه عن الحُكمِ إذا ظَلَم في حُكمِه أو جار.
ذكَر البَغداديُّ فيما يرويه عن الكعبيِّ أنَّ من الأمورِ التي أجمعت عليها
الخَوارِجُ إجماعَهم على (وُجوبِ الخُروجِ على الإمامِ الجائِرِ)
[647] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 73). .
وقال الشَّهْرَسْتانيُّ في بيانِ موقِفِ
الخَوارِجِ من الإمامِ: (وإنْ غَيَّر السِّيرةَ وعَدَل عن الحَقِّ، وجَبَ عَزلُه أو قَتلُه)
[648] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/116). .
وهم لا يَرَون للإمامِ أيَّ مِيزةٍ على غيرِه إلَّا إقامةَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ؛ ولهذا فمراجعتُه وانتقادُه أمرٌ عاديٌّ، ولقد أدَّت هذه النَّظريَّةُ من سَلَفِهم القديمِ إلى المغالاةِ والشَّطَطِ التي دفعت بذي الخُوَيصِرةِ بغيرِ حَقٍّ إلى نقدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نفسِه فيما توهَّمَه ظُلمًا في توزيعِ الغنائِمِ.
قال
ابنُ حزمٍ في كلامِه عن خُروجِ
الخَوارِجِ على عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه ومحاربتِه وعَدَمِ الرِّضا بخلافتِه، وأنَّ هذا كان بسَبَبِ جَهلِهم وقِلَّةِ عِلمِهم: (ولكِنْ حَقَّ لِمن كان أحَدَ أئِمَّتِه ذو الخُوَيصِرةِ الذي بلَّغه ضَعفُ عَقلِه وقِلَّةُ دينِه إلى تجويرِه رسولَ اللهِ في حُكمِه والاستدراكِ عليه، ورأى نفسَه أورَعَ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، هذا وهو يُقِرُّ أنَّه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليه، وبه اهتدى وبه عَرَف الدِّينَ، ولولاه لكان حِمارًا أو أضَلَّ)
[649] ((الفصل)) (4/157). .
فإذا كانت هذه حالَ سَلَفِهم مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكيف بمَن بَعدَه مِن الخُلَفاءِ؟! ولهذا فهُم قلَّما يَثبُتون على إمامٍ ويَخضَعون له خضوعًا تامًّا إلَّا قليلًا، فنتج عن هذا الموقِفِ ثُمَّ عن المواقِفِ الأخرى -وهو كَثرةُ حُروبِهم مع مُخالِفيهم أو بعضِهم مع بعضٍ- كثرةُ أئمَّتِهم.
ومن غرائِبِهم ما يُروى عن فِرقةِ العوفيَّةِ؛ فقد اعتَبَرت كُفْرَ الإمامِ سَبَبًا في كُفرِ رَعيَّتِه، وذلك في قَولِهم: (إذا كَفَر الإمامُ فقد كَفَرت الرَّعيَّةُ؛ الغائِبُ منهم والشَّاهِدُ)
[650] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/194)، ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 109)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/126). ؛ لهذا فينبغي أن يُحالَ بَينَه وبَينَ الحُكمِ عِندَما يبدو منه أمرٌ مُكَفِّرٌ، بأيِّ وسيلةٍ كانت، وإلَّا فقد كَفَروا هم أيضًا، فلا أشدَّ من هذه المبالغةِ في تكفيرِ النَّاسِ بغيرِ حَقٍّ، فإذا كَفَر الإمامُ بالمَشرِقِ فمِن أي وَجهٍ تَكفُرُ رَعيَّتُه بالمَغرِبِ؟! بل من أيِّ وَجهٍ يَكفُرُ حتَّى وَلَدُه الذي هو في بيتِه ما دام متَمَسِّكًا بالإسلامِ؟!
ومن هذا القبيلِ ما قاله المَلَطيُّ حاكيًا عن رئيسِ
البَيْهَسيَّةِ هَيصَمِ بنِ عامرٍ بأنَّه قد افترى (فزَعَم إنْ حَكَمَ الإمامُ بالكوفةِ حُكمًا يَستَحِقُّ به الكُفرَ، ففي تلك السَّاعةِ يَكفُرُ مَن كان في حُكمِ ذلك الإمامِ بخُراسانَ والأندلُسِ، وعلى الإمامِ إذا أبصَرَ كُفرَه فتاب منه أرسَلَ إلى أهلِ حُكمِه كُلِّهم يَستتيبُهم من الكُفرِ وإن لم يَشْعُروا به، فإن أبى أن يتوبَ منه وقال: ما لي أنْ أتوبَ ممَّا لا أشُكُّ فيه ولم أعلَمْ به، ضُرِبَت عُنُقُه)
[651] ((التنبيه والرد)) (ص: 169). ويُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (4/ 190). .
وعليه فكَثرةُ حُروبِهم وخُروجِهم على أئمَّتِهم أو أئمَّةِ مُخالِفيهم يُعتَبَرُ أمرًا طبيعيًّا إزاءَ هذه الأحكامِ الخاطئةِ تجاهَ الإمامِ؛ فهو عِندَهم مُراقَبٌ مراقبةً صارِمةً لا تُغتَفَرُ له خطيئتُه، ولا يُقبَلُ له عُذرٌ في الخطأِ إلَّا بَعدَ الاعترافِ والتَّوبةِ أمامَ طائفةٍ من المُؤمِنين.
وذكَر السَّالميُّ عن المجتَمَعِ الإباضيِّ أنَّه كان (يحرِصُ حِرصًا شديدًا على مراقبةِ أئمَّتِه طيلةَ الوَقتِ... فقد كانت جميعُ خُطواتِه محسوبةً عليه، وغَلطةٌ بسيطةٌ غيرُ مُتعَمَّدةٍ تَبدُرُ منه عَفوًا كانت كافيةً لإثارةِ الضَّجَّةِ مِن حولِه، وربَّما أدَّت إلى عزلِه، وإن كان الخطَأُ بسيطًا جِدًّا فعليه أن يعتَرِفَ به أمامَ كِبارِ أعلامِ المُسلِمين وأن يَطلُبَ المغفرةَ من اللهِ وأن يتوبَ إليه، وقد قيل بأنَّ كِبارَ العُلَماءِ قاموا بمحاسَبةِ الإمامِ عزَّانَ بنِ قَيسٍ؛ لأنَّه أرسَلَ إلى بَلدِه الرُّسْتاقِ بعضَ القِطَعِ النُّحاسيَّةِ التي كَسَبوها في المعركةِ، وقد اعتَرَف بخطئِه وطَلَبَ المغفرةَ من اللهِ)
[652] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 126). .
ومع أنَّ النَّصَّ يشيرُ إلى الغُلُوِّ والتَّشدُّدِ المُفرِطِ؛ إذ إنَّ الخطأَ اليسيرَ غَيرَ المتعَمَّدِ يكونُ كافيًا لإثارةِ الضَّجَّةِ والمداوَلاتِ العنيفةِ التي قد تؤدِّي إلى عَزلِ الإمامِ وسُقوطِه، وما يَتبَعُ سُقوطَه من فِتَنٍ ومخاوِفَ، لا يرى
الإباضيَّةُ أنَّ هذا تشَدُّدٌ، بل هو مُثُلٌ عُليا تُمَثِّلُ عَصرَ الخُلَفاءِ الرَّاشِدين في بساطتِهم وعَدلِهم، كما ذكَرَ السَّالميُّ ذلك عن فِرقةِ
الإباضيَّةِ، فقال: (وبحُكمِ بساطتِها وعدَمِ غُلوِّها ومُثُلِها العُليا استطاعت أن تعيشَ حتَّى يومِنا هذا، واستطاعت أن تُقيمَ حُكمَ الإمامةِ الذي انقَطَع بموتِ الخُلَفاءِ الرَّاشدين، وأن تُوصِلَ حَبلَه)
[653] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 128). .
وإضافةً إلى ما ذَكَره السَّالميُّ فيما سبق، فإنَّ
الأشعَريَّ قال عنهم: (ولكِنَّهم يَرَون إزالةَ أئمَّةِ الجَورِ ومَنْعَهم أن يكونوا أئمَّةً بأيِّ شيءٍ قَدَروا عليه؛ بالسَّيفِ أو بغيرِ السَّيفِ)
[654] ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 204). .
ولكِنْ نصوصٌ كثيرةٌ من عُلَماءِ
الإباضيَّةِ تَشهَدُ بأنَّهم يَشتَرِطون في جوازِ الخُروجِ على الأئمَّةِ عَدَمَ وُقوعِ فِتنةٍ أكبَرَ.
فقال أبو يعقوبَ الوَرْجَلانيُّ: (أجَزْنا الخُروجَ عليهم والكونَ معهم، فإن خرَجْنا عليهم قاتَلْناهم حتَّى نُزيلَ ظُلمَهم على البلادِ والعبادِ، وإن لم نخرُجْ عليهم ورَضِينا بالكونِ معهم وتحتَهم فجائِزٌ لنا)
[655] نقلًا عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 289). .
وقال محمَّد يوسُف أَطَّفَيِّشُ: (ونحن بَعدُ لا نقولُ بالخُروجِ على سلاطينِ الجَورِ الموحِّدين، ومَن نَسَب إلينا وجوبَ الخُروجِ فقد جَهِل مَذهَبَنا)
[656] نقلًا عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 291). .
وقال علي يحيى مَعمَر: (يجِبُ على الأمَّةِ المُسلِمةِ أن تقيمَ دولةً عادِلةً، فإذا كانت الدَّولةُ القائِمةُ جائرةً جاز البقاءُ تحتَ حُكمِها وتجِبُ طاعتُها في جميعِ ما لا يخالِفُ أحكامَ الإسلامِ، على أنَّه ينبغي للمُسلِمين أن لا يَستَنيموا على الظُّلمِ، وإنَّما ينبغي لهم أن يحاوِلوا تغييرَ الحُكمِ إذا كان ذلك لا يُسَبِّبُ في إحداثِ أضرارٍ جَسيمةٍ بالأمَّةِ)
[657] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 292). .
وقال الثَّعاريتيُّ عن الإمامِ: (للأمَّةِ عَزلُه بموجِبٍ، كأن يقَعَ منه ما يُخِلُّ بأمورِ المُسلِمين، فإن أدَّى عَزلُه إلى الفتنةِ ارتُكِبَ أخَفُّ الضَّرَرينِ)
[658] نقلًا عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 485). .
وبعدُ، فهل كان
الخَوارِجُ فيما ذهبوا إليه من وجوبِ الخُروجِ على الحُكَّامِ، على صوابٍ أم على خطأٍ؟
إنَّه لا يخفى على أحدٍ مِقدارُ الخَسارةِ التي تَلحَقُ بالأمَّةِ حينَ يَخرُجُ بعضُ النَّاسِ على الإمامِ الشَّرعيِّ، ويؤيِّدُه البعضُ الآخَرُ، وما ينتِجُ عن هذا من تشتُّتِ الكَلِمةِ ودُخولِ الأهواءِ في كُلِّ أمرٍ، وتعاظُمِ الحِقدِ في صُدورِ النَّاسِ، وسَفكِ الدِّماءِ المُستَحِقَّةِ والبريئةِ على حَدِّ سواءٍ من جرَّاءِ تلك الفِتَنِ الأهليَّةِ، كما وقع ذلك في كُلِّ وقتٍ من الأوقاتِ التي يغلِبُ فيها الجَهلُ على العِلمِ، والظُّلمُ على العدلِ؛ ولهذا فقد حثَّ الإسلامُ على الوَحدةِ واجتِماعِ الكَلِمةِ.
قال اللهُ تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانً [آل عمران: 103] .
وقال اللهُ تعالى آمِرًا عبادَه بالتَّعاوُنِ فيما بَينَهم على الخيرِ واجتنابِ الشَّرِّ:
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2] .
وقد أمر اللهُ بطاعةِ أُولي الأمرِ؛ إذ إنَّه لا بُدَّ لكُلِّ مجتَمَعٍ من والٍ لأمْرِهم يكونُ مَرجِعًا في قضاياهم، وإلَّا لفَسَد الأمرُ واختَلَّ النِّظامُ ووقعت الفوضى، وبطَل تنفيذُ شَرعِ اللهِ؛ فلهذا أوجب طاعتَهم التَّامَّةَ بَعدَ أنْ أمرَ بطاعتِه هو جَلَّ وعلا وطاعةِ رسولِه الكريمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قولِه تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] والوُلاةُ من أُولي الأمرِ.
وقد ورَدَت عِدَّةُ أحاديثَ تشيرُ إلى وجوبِ طاعةِ أُولي الأمرِ وتحريمِ الخُروجِ عليهم، ومنها: 1- حديثُ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن أطاعني فقد أطاع اللهَ، ومَن عصاني فقد عصى اللهَ، ومن أطاع أميري فقد أطاعَني، ومن عصى أميري فقد عصاني )) [659] رواه البخاري (7137)، ومُسلِم (1835). 2- عن
أنسِ بنِ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اسمَعوا وأطيعوا، وإنِ استُعمِلَ عليكم عبدٌ حَبَشيٌّ كأنَّ رأسَه زَبيبةٌ )) [660] رواه البخاري (7142). .
3- عن
ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن رأى من أميرِه شيئًا فكَرِهَه فلْيَصبِرْ؛ فإنَّه ليس أحدٌ يُفارِقُ الجماعةَ شِبرًا فيَموتَ إلَّا مات مِيتةً جاهِليَّةً )) [661] رواه البخاري (7143)، ومُسلِم (1849). .
والأحاديثُ في هذا البابِ كثيرةٌ كُلُّها توجِبُ طاعةَ أُولي الأمرِ لتَتِمَّ وَحدةُ الأمَّةِ ويقومَ كِيانُها به، على أنَّه وإن اجتمَعَت الأحاديثُ على طاعةِ أُولي الأمرِ والرِّضا بحُكمِهم، إلَّا أنَّ تلك الطَّاعةَ ليست على إطلاقِها؛ فقد قُيِّدت طاعةُ الحاكِمِ بما إذا كان ملتَزِمًا لحُكمِ اللهِ غيرَ آمِرٍ بالمَعصيةِ، أمَّا إذا كان بخلافِ ذلك فلا طاعةَ لمخلوقٍ في مَعصيةِ خالِقِه تعالى.
قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((السَّمعُ والطَّاعةُ على المرءِ المُسلِمِ فيما أحَبَّ وكَرِه ما لم يؤمَرْ بمَعصيةٍ، فإذا أُمِر بمَعصيةٍ فلا سَمْعَ ولا طاعةَ )) [662] رواه البخاري (7144)، ومُسلِم (1839). من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وعن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: بَعثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَرِيَّةً، وأمَّرَ عليها رَجُلًا من الأنصارِ، وأمرَهم أن يُطيعوهُ، فغَضِبَ عليهم وقال: أليسَ قد أمرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن تُطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: عزَمْتُ عليكُم لَمَا جمعتُم حطبًا وأوقدتُم نارًا ثُمَّ دخلتُم فيها، فجمعوا حطبًا فأوقَدوا، فلمَّا هَمُّوا بالدُّخولِ فقام يَنظُرُ بَعضُهم إلى بَعضٍ، قال بعضُهم: إنَّما تَبِعْنا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فرارًا من النَّارِ أفنَدْخُلُها؟! فبَينَما هم كذلك إذ خَمدَتِ النَّارُ، وسَكَن غَضبُهُ، فذُكِرَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال:
((لَو دَخلوها ما خَرجوا منها أبَدًا، إنَّما الطَّاعةُ في المَعروفِ )) [663] رواه البخاري (7145) واللَّفظُ له، ومُسلِم (1840). .
إلا أنَّه لا ينبغي أن يُفهَمَ منها أنَّه بمجَرَّدِ ارتكابِ الحاكِمِ المَعصيةَ يُباحُ الخُروجُ عليه، كما يرى ذلك
الخَوارِجُ؛ إذ إنَّ المعاصيَ لا يمكِنُ أن يخلوَ عنها بَشَرٌ، فإذا أُبيحَ الخُروجُ على الحاكِمِ؛ لأنَّه عصى فسيُرتكَبُ حينَئذٍ من المعاصي أضعافُ ما ارتُكِب، إضافةً إلى أنَّ خَلَفَه الذي سيُنصَبُ لا بُدَّ أن يَعصِيَ مَعصيةً ما، فيُفضي ذلك إلى الفوضى وارتكابِ المُنكَراتِ، فيَضعُفُ الدِّينُ، وتَبطُلُ حِكَمُ التَّشريعِ الرَّبَّانيَّةُ.
فلا يجوزُ الخُروجُ على الحُكَّامِ ما داموا ملتَزِمين بالشَّريعةِ مُحافِظين على الصَّلاةِ وسائِرِ شَعائِرِ الإسلامِ، إلَّا أن يُظهِروا كُفرًا بَواحًا فيه دليلٌ وبُرهانٌ من كتابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبيِّه.