المَطلَبُ الثَّاني: مَوقِفُ الخَوارِجِ من القَعَدةِ
اختلف مَوقِفُ
الخَوارِجِ تجاهَ القَعَدةِ وتباينَت أقوالُهم، فكانوا فيهم على رأيَينِ:
الرَّأيُ الأوَّلُ: هو اعتبارُ القَعَدةِ من أهلِ البراءةِ، وأنَّهم كُفَّارٌ كمُخالِفيهم من بقيَّةِ النَّاسِ، وهذا الرَّأيُ قد ذهبت إليه الأزارقةُ، وعلى رأسِهم نافِعُ بنُ الأزرَقِ.
قال
الأشعَريُّ عنه: (الذي أحدَثه: البراءةُ من القَعَدةِ، والمِحنةُ لِمن قَصَد عَسْكَره، وإكفارُ مَن لم يُهاجِرْ إليه)
[702] ((المقالات)) (1/169). .
وقد جاء في كتابِه إلى أهلِ البَصرةِ الذين عابَهم فيه بالقُعودِ بَينَ مُخالِفيهم الظَّالِمين، وأنَّهم غيرُ مُلتَفِتين إلى ما يناديهم به القرآنُ الكريمُ من آياتٍ تحثُّهم على الخُروجِ وعلى وجوبِ جِهادِ مُخالِفيهم، وتذُمُّ القعودَ، جاء في هذا الكتابِ قَولُه لهم: (واللهِ إنَّكم لَتَعْلَمون أنَّ الشَّريعةَ واحِدةٌ والدِّينَ واحِدٌ، ففيمَ المُقامُ بَينَ أظهُرِ الكُفَّارِ؟ تَرَون الظُّلمَ ليلًا ونهارًا، وقد ندَبَكم اللهُ إلى الجهادِ فقال:
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] ، ولم يجعَلْ لكم في التَّخلُّفِ عُذرًا في حالٍ من الحالِ، فقال:
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة: 41] ، وإنَّما عذَر الضُّعَفاءَ والمرضى والذين لا يَجِدون ما يُنفِقون ومَن كانت إقامتُه لعِلَّةٍ، ثُمَّ فضَّل عليهم مع ذلك المجاهِدين، فقال:
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 95] )
[703] ((الكامل)) للمبرد (2/179). .
وقد اشتَدَّ عُنفُ الأزارقةِ على القَعَدةِ، فأجمعوا على أنَّهم مُشرِكون وإن كانوا من مُوافِقيهم في الرَّأيِ.
قال البَغداديُّ في ذِكرِ بِدَعِ الأزارقةِ: (ومنها قولُهم: إنَّ القَعَدةَ ممَّن كان على رأيِهم عن الهِجرةِ إليهم مُشرِكون، وإن كانوا على رأيِهم)
[704] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 63). . وهكذا عِندَ الشَّهْرَسْتانيِّ
[705] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) (1/ 121). وغيرِهما من عُلَماءِ الفِرَقِ والتَّاريخِ
[706] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 85)، ((الأنساب)) للسمعاني (1/ 185). .
الرَّأيُ الثَّاني: هو القولُ بأنَّ القَعَدةَ غيرُ كُفَّارٍ ولا مُشرِكين، وأنَّ القعودَ ليس فيه بأسٌ ما دام الشَّخصُ على عقيدةٍ راسخةٍ وولاءٍ تامٍّ وكُرهٍ لمُخالِفيهم، وعلى هذا بعضُ فِرَقِ
الخَوارِجِ، ومن هؤلاء: النَّجَداتُ، وهم من قُدَماءِ
الخَوارِجِ، فقد رأوا أنَّ القعودَ بَينَ المُخالِفين تحتَ ستارِ التَّقيَّةِ أمرٌ لا غُبارَ عليه حتَّى ولو بلغَت التَّقيَّةُ قَتْلَ مَن هم على رأيِهم تنفيذًا لأوامِرِ مُخالِفيهم المُقيمين معهم.
ولقد كان قولُ نافعٍ بإكفارِ القَعَدةِ سَبَبًا في رجوعِ نَجْدةَ عن الانضمامِ إليه، وذلك أنَّه قد أراد اللَّحاقَ بعَسكَرِ نافعٍ للانضمامِ إليه، ولكِنَّه في أثناءِ الطَّريقِ لَقِيَه جماعةٌ من أصحابِ نافِعٍ الذين كانوا في جيشِه فأخبروه بأنَّ نافعًا قد ابتدع بِدَعًا مُنكَرةً، ومنها تكفيرُه للقَعَدةِ، وأنَّهم خرجوا عنه بسَبَبِ ما أحدَث من أحداثٍ، وكان مِن بَينِ هؤلاء: أبو فُدَيكٍ، وعَطيَّةُ الحَنَفيُّ، وراشِدٌ الطَّويلُ، ومِقلاصٌ، وأيُّوبُ الأزرَقُ، وغَيرُهم، ثُمَّ ثَنَوا نَجْدةَ عن عزمِه، ورجع إلى اليمامةِ ناقِمًا على نافِعٍ تلك الأحداثَ، ومنها تكفيرُه القَعَدةَ، وقد اشتَدَّ في خلافِه مع نافعٍ في هذه المسألةِ، فاعتبَرَ القولَ بإكفارِ القَعَدةِ كُفرًا من قائِلِه، قال البَغداديُّ عن النَّجَداتِ: (وكَفَّروا من قال بإكفارِ القَعَدةِ منهم عن الهِجرةِ إليهم)
[707] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 87). .
وقال الشَّهْرَسْتانيُّ: (حكى الكعبيُّ عن النَّجَداتِ أنَّ التَّقيَّةَ جائزةٌ في القولِ والعَمَلِ كُلِّه، وإن كان في قَتلِ النُّفوسِ)
[708] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/124). .
وقد جاء في كتابِ نَجْدةَ الذي وجَّهه إلى نافِعٍ عِتابٌ شديدٌ له بسَبَبِ تكفيرِه القَعَدةَ؛ قال فيه: (وأكفَرْتَ الذين عَذَرَهم اللهُ في كتابِه من قَعَدةِ المُسلِمين وضعَفَتِهم، فقال جلَّ ثناؤُه، وقولُه الحَقُّ ووَعدُه الصِّدقُ:
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 91] ، ثُمَّ سمَّاهم بأحسَنِ الأسماءِ، فقال:
مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ...)، فلما قرأ نافعٌ كتابَ نَجْدةَ أجاب عن كُلِّ مسألةٍ فيه؛ أمَّا بخصوصِ القَعَدةِ فقد قال مدافِعًا عن رأيِه: (وعِبْتَ عَلَيَّ ما دِنتُ به من إكفارِ القَعَدةِ وقَتْلِ الأطفالِ واستِحلالِ الأمانةِ، وسأُفَسِّرُ لك لمَ ذلك إن شاء الله؛ أمَّا هؤلاء القَعَدةُ فليسوا كمن ذكَرْتَ ممَّن كان بعَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّهم كانوا بمكَّةَ مقهورين محصورين لا يَجِدون إلى الهَرَبِ سَبيلًا ولا إلى الاتِّصالِ بالمُسلِمين طريقًا، وهؤلاء قد فَقِهوا في الدِّينِ وقرَأوا القُرآنَ، والطَّريقُ لهم نَهْجٌ واضِحٌ، وقد عَرفْتَ ما يقولُ اللهُ فيمن كان مِثلَهم؛ إذ قال:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 97] ، وقال:
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: 81] ، وقال:
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 90] ، فخَبَّر بتعذيرِهم وأنَّهم كَذَبوا اللهَ ورَسولَه، وقال:
سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 90] ، فانظر إلى أسمائِهم وسِماتِهم)
[709] يُنظر: ((العقد الفريد)) لابن عبدربه (2/396-398). .
وهكذا تبايَنَ مَوقِفُ الأزارِقةِ والنَّجَداتِ في القَعَدةِ، ولكِنَّ بَعضَ العُلَماءِ ذَكَر عن النَّجَداتِ خلافَ ما تقدَّم؛ ف
الأشعَريُّ ذَكَر عنهم قولَهم: إنَّ (مَن ثَقُل عن هجرتِهم فهو مُنافِقٌ)
[710] ((المقالات)) (1/175). .
ونَقَل
ابنُ حَزمٍ عنهم كذلك قولَهم: (مَن ضَعُفَ عن الهجرةِ إلى عَسكَرِهم فهو مُنافِقٌ، واستحَلُّوا دَمَ القَعَدةِ وأموالَهم)
[711] ((الفصل)) (4/190). .
فهناك حُكمانِ: الأوَّلُ، هو تجويزُهم القُعودَ على سبيلِ التَّقيَّةِ، والثَّاني: الذي ذكره
الأشعَريُّ و
ابنُ حَزمٍ هنا، أنَّهم يَرَون أنَّ مَن ضَعُف عن الهجرةِ إليهم فهو مُنافِقٌ، وهذا يشيرُ إلى أنَّهم يحَرِّمون القُعودَ باعتبارِه نِفاقًا، مع العِلمِ بأنَّ قُعودَ المُستَضعَفِ لا يكونُ إلَّا تقيَّةً، والتَّقيَّةُ عِندَ النَّجَداتِ جائِزةٌ لا شَيءَ فيها، فهل هم يُجيزون التَّقيَّةَ ويُحَرِّمون القُعودَ على سبيلِ التَّقيَّةِ؟ وهذا تناقُضٌ، وهو خِلافُ المشهورِ عنهم من تجويزِهم القُعودَ والتَّقيَّةَ.
وقد سبَق أنَّهم لا يَرَون بالقعودِ بأسًا، بل إنَّهم يَعتَبِرون من يُكَفِّرُ القاعِدَ عن الهجرةِ إليهم كافِرًا، وبذلك يتَّضِحُ أنَّ الحُكمَ الأوَّلَ أَولى بالقَبولِ عن النَّجَداتِ؛ لكثرةِ رُواتِه عنهم وشُهرتِهم به واتِّساقِه مع مَذهَبِهم في القولِ بالتَّقيَّةِ، بخِلافِ روايةِ
الأشعَريِّ و
ابنِ حَزمٍ التي تتناقَضُ مع قولِهم هذا، وهو تجويزُ التَّقيَّةِ، بالإضافةِ إلى أنَّ ما ذُكِر على لسانِ نَجْدةَ في أمرِ القَعَدةِ في خطابِه إلى نافِعِ بنِ الأزرَقِ لا ينبغي أن يقابَلَ بروايةٍ أُخرى تخالِفُه.
أمَّا العوفيَّةُ من
البَيْهَسيَّةِ فقد أجازت القُعودَ كالنَّجَداتِ ورأت أنْ لا بأسَ به إلَّا لِمَن قد هاجر أو خرج مهاجِرًا؛ فإنَّهم اختلفوا فيه على فرقتَينِ: (فِرقةٌ تقولُ: من رجَع مِن دارِ هِجرتِهم ومِن الجهادِ إلى حالِ القُعودِ، نَبرَأُ منهم، وفِرقةٌ تقولُ: لا نبرَأُ منهم؛ لأنَّهم رجَعوا إلى أمرٍ كان حلالًا لهم). وهذا نصُّ
الأشعَريِّ [712] ((مقالات الإسلاميين)) (1/192). ، ومِثلُه البَغداديُّ، والشَّهْرَسْتانيُّ
[713] يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 109)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/126). .
وقد أجازت القُعودَ فِرقةُ المعلوميَّةِ أيضًا فتوَلَّوا القَعَدةَ، قال البَغداديُّ عنهم: (هذه الفِرقةُ تَدَّعي إمامةَ من كان على دينِها وخرج بسيفِه على أعدائِه من غيرِ براءةٍ منهم عن القَعَدةِ عنهم)
[714] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 97). .
أمَّا الصُّفْريَّةُ فإنَّهم لم يُكَفِّروا القَعَدةَ إذا كانوا من مُوافِقيهم؛ قال الشَّهْرَسْتانيُّ عنهم: (إنَّهم لم يُكَفِّروا القَعَدةَ عن القتالِ إذا كانوا مُوافِقين في الدِّينِ والاعتِقادِ)
[715] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/137). بل غالَوا في تجويزِها حتَّى صار عامَّتُهم قَعَدةً، كما ذكَرَ
المُبَرِّدُ [716] يُنظر: ((الكامل)) (2/180). وهكذا العَجارِدةُ؛ فإنَّهم قد اعتَبَروا القَعَدةَ المَعروفين بحُبِّ الدِّينِ والتَّمسُّكِ به من أهلِ ولايتِهم وإن كانوا مُقيمين بَينَ مُخالِفيهم، إلَّا أنَّهم فَضَّلوا الهِجرةَ إليهم ولم يُوجِبوها كالأزارقةِ، فهم (يتوَلَّون القَعَدةَ إذا عَرَفوهم بالدِّيانةِ ويَرَون الهِجرةَ فَضيلةً لا فريضةً)، وهذا القولُ مُوافِقٌ لِما تقولُه
الإباضيَّةُ في هذا البابِ، كما قال صاحِبُ كتابِ (الأديانُ والفِرَقُ)
[717] يُنظر: (ص: 104). .
ولعلَّ مَوقِفَ أصحابِ هذا الرَّأيِ الأخيرِ من القَعَدةِ أكثَرُ تَسامُحًا من مَوقِفِ الأزارِقةِ المتشَدِّدِ إلى دَرَجةِ الغُلُوِّ حتَّى مع من هم على مِثلِ رأيِهم بمُجَرَّدِ وُجودِهم مع المُخالِفين لهم من عامَّةِ المُسلِمين.