الفَرعُ الثَّاني: دَعوى أنَّ جَميعَ الكُتُبِ الإلهيَّةِ عِندَ الأئِمَّةِ
مِن مَرويَّاتِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ أنَّ عِندَ الأئِمَّةِ الاثنَي عَشَرَ كُلَّ كِتابٍ إلهيٍّ أنزَله اللهُ تعالى على أنبيائِه عَليهم السَّلامُ، وأنَّهم يقرؤونها على اختِلافِ لُغاتِها، وقد عَقدَ الكُلينيُّ بابًا لهذا المَوضوعِ بعُنوانِ: بابُ أنَّ الأئِمَّةَ عِندَهم جَميعُ الكُتُبِ التي نَزَلت مِن عِندِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وأنَّهم يَعرِفونَها على اختِلافِ ألسِنَتِها
[1590] يُنظر: ((الكافي)) (1/227). .
وعَقدَ المَجلِسيُّ بابًا بعُنوانِ: (بابٌ في أنَّ عِندَهم -صَلواتُ اللهِ عليهم- كُتُبَ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، يَقرؤونَها على اختِلافِ لُغاتِها)
[1591] يُنظر: ((بحار الأنوار)) (26/180). .
فرَوَوا عن أبي عَبدِ اللهِ أنَّه قال: (كُلُّ كِتابٍ نَزَل فهو عِندَ أهلِ العِلمِ، ونحن هم)
[1592] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/226). ، وأنَّه قال: (إنَّ عِندَنا صُحُفَ إبراهيمَ وألواحَ موسى)
[1593] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/225). ، وأنَّه قال: (إنَّ عِندَنا عِلمَ التَّوراةِ والإنجيلِ والزَّبورِ، وتِبيانَ ما في الألواحِ)
[1594] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/225). .
وفي رِوايةٍ أُخرى تَصِفُ ألواحَ موسى بأنَّها زَبَرجَدةٌ مِنَ الجَنَّةِ، وفيها تِبيانُ كُلِّ شَيءٍ هو كائِنٌ إلى أن تَقومَ السَّاعةُ، وأنَّها مَكتوبةٌ بالعِبرانيَّةِ، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَفعَها إلى عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وقال: (دونَك هذه؛ ففيها عِلمُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، وهي ألواحُ موسى، وقد أمَرَني رَبِّي أن أدفعَها إليك)، فقال: يا رَسولَ اللهِ، لستُ أُحسِنُ قِراءتَها، قال: (إنَّ جبرئيلَ أمَرَني أن آمُرَك أن تَضَعَها تَحتَ رَأسِك ليلتَك هذه؛ فإنَّك تُصبحُ وقد عَلِمتَ قِراءَتَها، فجَعَلها تَحتَ رَأسِه فأصبَحَ وقد عَلَّمَه اللهُ كُلَّ شَيءٍ فيها، فأمَرَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن ينسَخَها، فنَسَخَها في جِلدِ شاةٍ، وهو الجَفرُ، وفيه عِلمُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، وهو عندنا)
[1595] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (26/187). .
وإذا كانت هذه الرِّوايةُ تُحَدِّدُ مَضمونَ الجَفرِ بأنَّه ألواحُ موسى؛ فإنَّ في رِوايةٍ أُخرى أنَّ أبا عَبدِ اللهِ قال: (إنَّ عِندي الجَفرَ الأبيضَ، فيه: زَبورُ داوُدَ، وتَوراةُ موسى، وإنجيلُ عيسى، وصُحُفُ إبراهيمَ، والحَلالُ والحَرامُ، ومُصحَفُ
فاطِمةَ، ما أزعُمُ أنَّ فيه قُرآنًا، وفيه ما يحتاجُ النَّاسُ إلينا، ولا نَحتاجُ إلى أحَدٍ، حتَّى فيه الجَلدةُ، ونِصفُ الجَلدةِ، ورُبعُ الجَلدةِ، وأَرشُ الخَدشِ
[1596] قال المانزندرانيُّ: (الظَّاهِرُ أنَّ الضَّميرَ المجرورَ في «فيه» في المواضِعِ الثَّلاثةِ راجعٌ إلى مصحَفِ فاطمةَ. ورجوعُه إلى الجَفرِ الأبيضِ بعيدٌ). ((شرح أصول الكافي)) (5/341). [1597] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/340). .
وكأنَّ شارِحَ الكافي استَكثَرَ أن يكونَ كُلُّ ذلك مَكتوبًا في الجَفرِ الذي هو جِلدُ شاةٍ -كما تُفسِّرُه الرِّوايةُ السَّابقةُ- فقال: (الظَّاهرُ أنَّ الجَفرَ وِعاءٌ فيه هذه الصُّحُفُ، لا أنَّها مَكتوبةٌ فيه)
[1598] ((أصول الكافي مع شرح جامع للمازندراني)) (5/389). ، في حينِ أنَّ صَريحَ الرِّوايةِ السَّابقةِ يُخالفُ هذا؛ فقد نَصَّت على أنَّ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه (نَسَخها في جِلدِ شاةٍ)!
ومِمَّا رَوَوه في هذا الشَّأنِ عن أبي الحَسَنِ أنَّه قَرَأ الإنجيلَ أمامَ نَصرانيٍّ، يُقال له: بريه، فقال هذا النَّصرانيُّ: إيَّاك كُنتُ أطلُبُ مُنذُ خَمسينَ سَنةً، ثُمَّ إنَّ النَّصرانيَّ -كما تَقولُ الرِّوايةُ- آمَن وحَسُن إسلامُه، وقال للإمامِ: (أنَّى لكم التَّوراةُ والإنجيلُ وكُتُبُ الأنبياءِ؟! فقال: هي عِندَنا وِراثةٌ مِن عِندِهم نَقرَؤُها كما قرؤوها، ونَقولُها كما قالوا، إنَّ اللهَ لا يجعَلُ حُجَّةً في أرضِه يُسألُ عن شَيءٍ، فيقولُ: لا أدري)
[1599] يُنظر: ((أصول الكافي مع شرح جامع للمازندراني)) (5/359)، ((بحار الأنوار)) للمجلسي (26/181)، ((التوحيد)) للصدوق (ص: 286-288). .
فيُؤخَذُ مِن هذه الرِّوايةِ أنَّ الأئِمَّةَ يقرؤون التَّوراةَ والإنجيلَ وغَيرَهما كما قَرَأها الأنبياءُ، حتَّى يجِدوا ما يُجيبونَ فيه على أسئِلةِ النَّاسِ.
بَل الأمرُ تَعَدَّى مُجَرَّدَ القِراءةِ والفتوى إلى مَجالِ الحُكمِ والقَضاءِ، ووضَع صاحِبُ الكافي لهذا بابًا بعُنوانِ: (بابٌ في الأئِمَّةِ أنَّهم إذا ظَهَرَ أمرُهم حَكَموا بحُكمِ داوُدَ وآلِ داوُدَ، ولا يُسألونَ البَيِّنةَ عليهم السَّلامُ)
[1600] ((الكافي)) للكليني (1/393). .
ومِنَ الرِّواياتِ التي ذَكرَها في هذا البابِ: عن جُعَيدٍ الهَمدانيِّ عن
عَليِّ بنِ الحُسَينِ قال: (سَألتُه بأيِّ حُكمٍ تَحكمونَ؟ قال: حُكمِ آلِ داوُدَ، فإن أعيانا شَيءٌ تَلقَّانا به روحُ القُدُسِ)
[1601] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/ 398). .
وتَرِدُ عِندَهم نُصوصٌ كثيرةٌ تَقولُ بأنَّ مَهديَّهم المُنتَظَرَ يحكُمُ بحُكمِ آلِ داوُدَ، ولا يُسألُ بَيِّنةً
[1602] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/398) وما بعدها. ، ويذكُرونَ جُملةً مِنَ الأحكامِ التي يحكُمُ بها مَهدِيُّهم بموجِبِ شَريعَتِه الخاصَّةِ، مِثلُ: (كونِه لا يقبَلُ الجِزيةَ مِن أهلِ الكِتابِ، ويقتُلُ كُلَّ مَن بَلغَ عِشرينَ سَنةً ولم يتَفقَّهْ في الدِّينِ، وأنَّه لا يقبَلُ البَيِّنةَ، ويحكُمُ بحُكمِ آلِ داوُدَ)
[1603] يُنظر: ((تعاليق علمية على الكافي وشرحه)) للشعراني (6/393). .
ومِنَ المَعلومِ أنَّ اللهَ تعالى قد بَعَثَ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى جَميعِ الثَّقَلينِ، وخَتمَ به النُّبوَّاتِ، ونَسَخ برِسالتِه سائِرَ الرِّسالاتِ؛ قال اللهُ تعالى:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] .
وقد نَسَخَ اللهُ سُبحانَه بكِتابِه الكُتُبَ السَّماويَّةَ كُلَّها، فقال تعالى:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ [المائدة: 48-49] .
قال
ابنُ جريرٍ في قَولِه سُبحانَه:
فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ: (هذا أمرٌ مِنَ اللهِ تعالى لنَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يحكُمَ بَيْنَ المُحتَكِمينَ إليه مِن أهلِ الكِتابِ وسائِرِ أهلِ المِلَل بكِتابِه الذي أنزَلَه إليه، وهو القُرآنُ الذي خَصَّه بشَريعَتِه، فاللهُ سُبحانَه أنزَل القُرآنَ مُصَدِّقًا ما بَيْنَ يدَيه مِنَ الكُتُبِ ومُهَيمِنًا عليه، رَقيبًا على ما قَبلَه مِن سائِرِ الكُتُبِ قَبلَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1604] ((تفسير ابن جرير)) (6/268). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّةَ (19/218). .