المَطلبُ الثَّاني: مَنزِلةُ الأئِمَّةِ عِندَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ
يعتَقِدُ الشِّيعةُ الإماميَّةُ أنَّ لأئِمَّتِهم مَنزِلةً تَصِلُ إلى مَنزِلةِ النُّبوَّةِ، بل صَرَّح بَعضُهم بأنَّ للأئِمَّةِ مَنزِلةً تَتَعَدَّى مَنزِلةَ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ.
قال المامقانيُّ: (مِن ضَروريَّاتِ مَذهَبِنا أنَّ الأئِمَّةَ عليهم السَّلامُ أفضَلُ مِن أنبياءِ بَني إسرائيلَ، كما نَطَقت بذلك النُّصوصُ المُتَواتِرةُ عن كُلِّ مُمارِسٍ لأخبارِ أهلِ البَيتِ عليهم السَّلامُ الاثني عَشَرَ أنَّه كان يصدُرُ مِنَ الأئِمَّةِ عليهم السَّلامُ خَوارِقُ للعادةِ، نَظيرَ ما كان يصدُرُ عن الأنبياءِ بل أزيدَ، وأنَّ الأنبياءَ والسَّلَفَ انفتَحَ لهم بابٌ أو بابانِ مِنَ العِلمِ، وانفتَحت للأئِمَّةِ عليهم السَّلامُ -بسَبَبِ العِبادةِ والطَّاعةِ التي تَذرُ العَبدَ مِثلَ اللهِ إذا قال للشَّيءِ: كُنْ فيكونُ- جَميعُ الأبوابِ)
[1805] ((تنقيح المقال)) (3/232). !
ومِنَ التَّوابعِ لهذا الاعتِقادِ في الأئِمَّةِ أنَّ الشِّيعةَ صاروا يُلقِّنونَ مَوتاهم بَعدَ الشَّهادَتَينِ الإقرارَ بالأئِمَّةِ الاثني عَشريَّةِ، ويستَحِبُّونَ أن يُكتَبَ على الكَفَنِ: فلانُ بنُ فُلانٍ يشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ عَليًّا والحَسَنَ والحُسَينَ -ويَعُدُّ الأئِمَّةَ الاثني عَشريَّةَ إلى آخِرِهم- أئِمَّتُه وسادَتُه وقادَتُه، وأنَّ البَعثَ والثَّوابَ والعِقابَ حَقٌّ
[1806] يُنظر: ((وجاء دور المجوس)) (ص: 189). .
ومِمَّا رَووه عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (إنَّ اللهَ عَرَضَ وِلايتي على أهلِ السَّمَواتِ وعلى أهلِ الأرضِ، أقَرَّ بها مَن أقَرَّ، وأنكَرَها مَن أنكرَ، أنكرَها يونُسُ فحَبَسَه اللهُ في بَطنِ الحوتِ حتَّى أقَرَّ بها، والمُرادُ بالإنكارِ عَدَمُ القَبولِ التَّامِّ وما يَلزَمُه مِنَ الاستِشفاعِ والتَّوسُّلِ بهم
[1807] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (14/391). .
وقال نِعمةُ اللهِ الجَزائِريُّ: (اعلَمْ أنَّه لا خِلافَ بَيْنَ أصحابِنا رِضوانُ اللهِ عليهم في أشَرَفيَّةِ نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ على سائِرِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ للأخبارِ المُتَواتِرةِ، وإنَّما الخِلافُ بَينَهم في أفضَليَّةِ أميرِ المُؤمِنينَ والأئِمَّةِ الطَّاهرينَ عليهم السَّلامُ على الأنبياءِ ما عَدا جَدَّهم صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ؛ فذَهَبَ جَماعةٌ إلى أنَّهم أفضَلُ مِن باقي الأنبياءِ ما خَلا أولي العَزمِ، فإنَّهم أفضَلُ مِنَ الأئِمَّةِ عليهم السَّلامُ، وبَعضُهم إلى المُساواةِ، وأكثَرُ المُتَأخِّرينَ إلى أفضَليَّةِ الأئِمَّةِ عليهم السَّلامُ على أولي العَزمِ وغَيرِهم، وهو الصَّوابُ)
[1808] يُنظر: ((الأنوار النعمانية)) (1/32). .
وقال الخُمينيُّ: (إنَّ للإمامِ مَقامًا مَحمودًا ودَرَجةً ساميةً وخِلافةً تَكوينيَّةً تَخضَعُ لوِلايتِها وسَيطَرَتِها جَميعُ ذَرَّاتِ هذا الكونِ. وإنَّ مِن ضَروريَّاتِ مَذهَبِنا أنَّ لأئِمَّتِنا مَقامًا لا يَبلُغُه مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبيٌّ مُرسَلٌ، وبموجِبِ ما لدَينا مِنَ الرِّواياتِ والأحاديثِ فإنَّ الرَّسولَ الأعظَمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والأئِمَّةَ عليهم السَّلامُ كانوا قَبلَ هذا العالمِ أنوارًا، فجَعَلهم اللهُ بعَرشِه مُحدِقينَ، وجَعَل لهم مِنَ المَنزِلةِ الزُّلفى ما لا يعلمُه إلَّا اللهُ، وقد قال جبرائيلُ -كما ورَدَ في رِواياتِ المِعراجِ-: لو دَنَوتُ أُنمُلةً لاحتَرَقتُ، وقد ورَدَ عنهم: "إنَّ لنا مَعَ اللهِ حالاتٍ لا يسَعُها مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبيٌّ مُرسَلٌ". ومِثلُ هذه المَنزِلةِ مَوجودةٌ ل
فاطِمةَ الزَّهراءِ عليها السَّلامُ)
[1809] ((الحكومة الإسلامية)) (ص: 52). .
ويعتَقِدُ الشِّيعةُ الإماميَّةُ أنَّ الأئِمَّةَ هم أولو الأمرِ الذينَ أمَرَ اللهُ تعالى بطاعَتِهم، وأنَّهم الشُّهَداءُ على النَّاسِ، وأنَّهم أبوابُ عِلمِه، وأنَّهم أركانُ تَوحيدِه، وخِزانةُ مَعرِفتِه، وأنَّهم أمانٌ لأهلِ الأرضِ.
قال ابنُ بابَويهِ القُمِّيُّ: (نَعتَقِدُ أنَّ أمرَهم أمرُ اللهِ تعالى، ونَهيَهم نَهيُه، وطاعَتَهم طاعَتُه، ومَعصيتَهم مَعصيتُه، ووليَّهم وليُّه، وعَدوَّهم عَدوُّه، ولا يجوزُ الرَّدُّ عليهم، والرَّادُّ عليهم كالرَّادِّ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والرَّادُّ على الرَّسولِ كالرَّادِّ على اللهِ تعالى، فيجِبُ التَّسليمُ لهم، والانقيادُ لهم، والأخذُ بقَولِهم)
[1810] ((عقائد الشيعة الإمامية)) (ص: 54). .
عن ذريحٍ قال: سَألتُ أبا عَبدِ اللهِ عن الأئِمَّةِ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (كان أميرُ المُؤمِنينَ عليه السَّلامُ إمامًا، ثُمَّ كان الحَسَنُ عليه السَّلامُ إمامًا، ثُمَّ كان الحُسَينُ عليه السَّلامُ إمامًا، ثُمَّ كان
عَليُّ بنُ الحُسَينِ إمامًا، ثُمَّ كان مُحَمَّدُ بنُ عَليٍّ إمامًا، مَن أنكرَ ذلك كان كمَن أنكَرَ مَعرِفةَ اللهِ تَبارَك وتعالى ومَعرِفةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه)
[1811] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/181). .
وعن أبي الحَسَنِ العَطَّارِ قال: سَمِعتُ أبا عَبدِ اللهِ يقولُ: (أشرِكْ بَيْنَ الأوصياءِ والرُّسُلِ في الطَّاعةِ)
[1812] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/186). .
وعن أبي الصَّباحِ قال: أشهَدُ أنِّي سَمِعتُ أبا عَبدِ اللهِ يقولُ: (أشهَدُ أنَّ عليًّا إمامٌ فرَضَ اللهُ طاعَتَه، وأنَّ الحَسَنَ إمامٌ فرَضَ اللهُ طاعَتَه، وأنَّ الحُسَينَ إمامٌ فرَضَ اللهُ طاعَتَه، وأنَّ
عَليَّ بنَ الحُسَينِ إمامٌ فرَضَ اللهُ طاعَتَه، وأنَّ مُحَمَّدَ بنَ عَليٍّ إمامٌ فرَضَ اللهُ طاعَتَه)
[1813] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/186). .
وعن جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: (نحن الذينَ فرَضَ اللهُ طاعَتَنا، لا يسَعُ النَّاسَ إلَّا مَعرِفتُنا، ولا يُعذَرُ النَّاسُ بجَهالتِنا، مَن عَرَفنا كان مُؤمِنًا، ومَن أنكَرَنا كان كافرًا، ومَن لم يعرِفْنا ولم يُنكِرْنا كان ضالًّا، حتَّى يرجِعَ إلى الهدى الذي افتَرَضَ اللهُ عليه مِن طاعَتِنا الواجِبةِ)
[1814] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/187). .
وعن مُحَمَّدِ بنِ سِنانٍ أنَّه طَلبَ مِن أبي جَعفرٍ الثَّاني مُحَمَّدِ بنِ عَليٍّ الجَوادِ التَّقيِّ تَفسيرَ سَبَبِ وُجودِ الاختِلافِ بَيْنَ الشِّيعةِ في مَسألةِ الحَلالِ والحَرامِ، فقال: (يا مُحَمَّدُ! إنَّ اللهَ تَبارَك وتعالى لم يزَلْ متفرِّدًا بوحدانيَّتِه، ثُمَّ خَلقَ محمَّدًا وعليًّا، و
فاطِمةَ فمَكثوا ألفَ دَهرٍ، ثُمَّ خَلقَ جَميعَ الأشياءِ، فأشهَدَهم خَلقَها، وأجرى طاعَتَهم عليها، وفوَّضَ أُمورَها إليهم، فهم يُحِلُّونَ ما يشاؤونَ، ويحرِّمونَ ما يشاؤونَ، ولن يشاؤوا إلَّا أن يشاءَ اللهُ تَبارَك وتعالى)
[1815] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/441). .
ومِنِ اعتِقاداتِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ أنَّ المَلائِكةَ يدينونَ بالوِلايةِ؛ فعن أبي جَعفرٍ الباقِرِ أنَّه قال: (واللهِ إنَّ في السَّماءِ لسَبعينَ صِنفًا مِنَ المَلائِكةِ لو اجتَمَعَ عليهم أهلُ الأرضِ كُلُّهم يُحصونَ عَدَدَ صِنفٍ منهم ما أحصَوهم، وإنَّهم ليَدينونَ بوِلايتِنا)
[1816] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (26/340). .
ورَوَوا أنَّ المَلائِكةَ يتَوافَدونَ على الأئِمَّةِ؛ ففي (الكافي) بابٌ بعُنوانِ: (إنَّ الأئِمَّةَ مَعدِنُ العِلمِ، وشَجَرةُ النُّبوَّةِ، ومُختَلَفُ المَلائِكةِ)، وفيه عن جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: (نحن شَجَرةُ النُّبوَّةِ، وبَيتُ الرَّحمةِ، ومِفتاحُ الحِكمةِ، ومَعدِنُ العِلمِ، ومَوضِعُ الرِّسالةِ، ومُختَلَفُ المَلائِكةِ)
[1817] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/221). .
ومِنِ اعتِقاداتِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ أنَّ الأنبياءَ عليهم السَّلامُ بُعِثوا على الإقرارِ بالوِلايةِ لعَليٍّ والأئِمَّةِ مِن بَعدِه.
عن جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: (وِلايتُنا وِلايةُ اللهِ التي لم يبعَثْ نَبيًّا قَطُّ إلَّا بها)
[1818] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/437). .
وعن أبي الحَسَنِ موسى بنِ جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: (وِلايةُ عَليٍّ عليه السَّلامُ مَكتوبةٌ في جَميعِ صُحُفِ الأنبياءِ، ولم يبعَثِ اللهُ رَسولًا إلَّا بنُبوَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووصيَّةِ عَليٍّ عليه السَّلامُ)
[1819] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/437). .
وقد رَوَوا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةَ أُسري به جَمَعَ اللهُ له النَّبيِّينَ ثُمَّ قال له: سَلِ الرُّسُلَ على ما أُرسِلتُم مِن قَبلي؟ قُلتُ: مُعاشِرَ الأنبياءِ والرُّسُلِ على ماذا بَعَثَكم رَبِّي قَبَلي؟ قالوا: على وِلايتِك ووِلايةِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، وذلك قَولُه:
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا [الزخرف: 45] )
[1820] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (36/155). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (الاستِدلالُ بما لا تُعلمُ صِحَّتُه لا يجوزُ بالاتِّفاقِ، فإنَّه قَولٌ بلا عِلمٍ، وهو حَرامٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ... مِثلُ هذا أي هذا الحَديثِ السَّابقِ مِمَّا اتَّفقَ أهلُ العِلمِ على أنَّه كذِبٌ مَوضوعٌ... إنَّ الرُّسُلَ صَلواتُ اللهِ عليهم كيف يُسأَلون عَمَّا لا يدخُلُ في أصلِ الإيمانِ؟!
وقد أجمعَ المُسلمونَ على أنَّ الرَّجُلَ لو آمَنَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأطاعَه، وماتَ في حَياتِه قَبل أن يعلمَ أنَّ اللهَ خَلقَ
أبا بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعَليًّا لم يضُرَّه ذلك شَيئًا، ولم يمنَعْه ذلك مِن دُخولِ الجَنَّةِ، فإذا كان هذا في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكيف يُقالُ: إنَّ الأنبياءَ يجِبُ عليهم الإيمانُ بواحِدٍ مِنَ الصَّحابةِ؟! واللهُ تعالى قد أخَذَ الميثاقَ عليهم لئِن بُعِثَ مُحَمَّدٌ وهم أحياءٌ ليُؤمِنُنَّ به ولينصُرُنَّه، هكذا قال
ابنُ عَبَّاس وغَيرُه، كما قال تعالى:
وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ [آل عمران: 81] إلى قولِه تعالى:
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] )
[1821] ((منهاج السنة النبوية)) (7/ 168). .