المَبحَثُ الثَّاني: الصُّوفيَّةُ وأهلُ الصُّفَّةِ
خاضَ غِمارَ هذه المَسألةِ المُتَصَوِّفةُ وغَيرُهم، فبَحَثوا الصِّلةَ بَينَ الصُّوفيَّةِ وأهلِ الصُّفَّةِ
[28] يُنظر لهذا المبحث: ((فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام)) لعواجي (3/ 869 – 873). وللاستزادة يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 146، 147)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/ 5- 7)، ((الصاوي وآراؤه الاعتقادية)) لملا حسين (ص: 656، 657). .
فزَعَمَ عَدَدٌ منَ المُتَصَوِّفةِ -كَأبي الفَيضِ المُنوفيِّ، والسُّهْرَوَرديِّ، وغَيرِهما- وُجودَ صِلةٍ بَينَ الفريقَينِ، وادَّعَوا أنَّ أهلَ الصُّفَّةِ هم سَلَفُ أهلِ التَّصَوُّفِ؛ فالسُّهرَورَديُّ يَرى أنَّ العَلاقةَ بَينَ المُتَصَوِّفةِ وأهلِ الصُّفَّةِ تَتَمَثَّلُ في حُبِّ الانفِرادِ والعُزلةِ عنِ النَّاسِ والشَّوقِ إلى اللهِ تعالى، وأنَّ هذه الفِكرةَ هي الجامِعُ بَينَ الصُّوفيَّةِ وأهلِ الصُّفَّةِ، وقد قال في إثباتِ ذلك: (الصُّوفيَّةُ يُشاكِلُ حالُهم حالَ أولئك
[29] أي: أهلِ الصُّفَّةِ. ؛ لكَونِهم مُجتَمِعينَ مُتَآلِفينَ مُتَصاحِبينَ للَّهِ وفي اللهِ كَأصحابِ الصُّفَّةِ، وكانوا نَحوًا من أربَعِمائةِ رَجُلٍ لم تَكُنْ لهم مَساكِنُ بالمَدينةِ ولا عَشائِرُ، جَمَعوا أنفُسَهم في المَسجِدِ، كاجتِماعِ الصُّوفيَّةِ قديمًا وحَديثًا في الزَّوايا والرُّبُطِ)
[30] ((عوارف المعارف)) (ص: 47). .
وقال أيضًا عنِ الصُّوفيَّةِ: (اتَّخَذوا لنُفوسِهم زَوايا يَجتَمِعونَ فيها تارةً ويَنفرِدونَ أخرى؛ أُسوةً بأهلِ الصُّفَّةِ، تارِكينَ للأسبابِ، مُتَبَتِّلينَ إلى رَبِّ الأربابِ)
[31] ((عوارف المعارف)) (ص: 49). .
وأمَّا أبو الفَيضِ المُنوفيُّ فقد قال عنهم: (هم قَومٌ أخَلاهمُ الحَقُّ منَ الرُّكونِ إلى شَيءٍ منَ العُروضِ الفانيةِ، وشَغلِ أفئِدَتِهم بالحَياةِ الباقيةِ... استَوطَنوا الصُّفَّةَ فصَفَّوا أنفُسَهم منَ الأكدارِ ونَقَّوها منَ الأغيارِ، واعتَصَموا من حُظوظِ النُّفوسِ بالإيثارِ... وكان الظَّاهِرُ من أحوالِهم والمَشهودُ من أخبارِهم غَلَبةَ الفَقرِ عليهم، وإيثارَهمُ القِلَّةَ واختيارَهم لها، فلم يَجتَمِعْ لهم نَوعانِ، ولا حَضَرَ لهم منَ الأطعِمةِ لونانِ)
[32] ((جمهرة الأولياء)) (1 /131). .
وقد حاول بَعضُهم كَذلك رَبطَ حَرَكةِ التَّصَوُّفِ وما تَحمِلُ من حُبِّ العُزلةِ والانفِرادِ والخَلوةِ بما وقَعَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، من تَحبيبِ الخَلوةِ إليه في غارِ حِراءٍ؛ إذ كان يَتَعَبَّدُ فيه اللَّياليَ ذَواتِ العَدَدِ.
ولكِنَّ هذا لا يَصلُحُ أن يَكونَ دَليلًا على ذلك؛ فتلك الخَلوةُ إنَّما كانت بعِنايةٍ منَ اللهِ تعالى له؛ ليستَعِدَّ لحَملِ أعباءِ الرِّسالةِ فيما بَعدُ، وقَبلَ أن يُكَلَّفَ أيضًا بدَعوةِ النَّاسِ وإقامةِ شَعائِرِ الدِّينِ، ثمَّ بمُجَرَّدِ أنِ اختارَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ لتَبليغِ الدَّعوةِ صارَ مَحَطَّ أنظارِ النَّاسِ في كُلِّ لحظةٍ من لحَظاتِ عُمرِه المُبارَكِ، وإلَّا فكَيف انتَشَرَ الإسلامُ بَعدَ ذلك، ودَخل النَّاسُ في دينِ اللهِ أفواجًا لو بَقيَ على تلك الخَلوةِ؟!
والحَقُّ أنَّ المُتَصَوِّفةَ ليس لهم مُستَنَدٌ في تَعَلُّقِهم بأساسِ تَصَوُّفِهم، سَواءٌ كان ذلك التَّعَلُّقُ بالصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم من أهلِ الصُّفَّةِ، أو بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في خَلوتِه في غارِ حِراءٍ.
وإذا كان المُتَصَوِّفةُ -كما يَدَّعونَ- يُحِبُّونَ الفقرَ، والانزِواءَ في الزَّوايا والأربطةِ، فأهلُ الصُّفَّةِ في مُجمَلِهم كانوا يَشكونَ حالَهم إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أمَلِ أن يُساعِدَهم على حَياةٍ طَيِّبةٍ في الدُّنيا تَكونُ عَونًا لهم إلى الآخِرةِ، وقد أخبَرَ اللهُ عنهم أنَّهم
تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة: 92] ، وقد تَحَقَّقَ لمُعظَمِهم بَعدَ ذلك مالٌ وافِرٌ، عَمَلًا منهم بقَولِ اللهِ تعالى:
وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص: 77] ، واجتَمَعَت لبَعضِهم ألوانُ الأطعِمةِ المُباحةِ ولم يَزهَدوا عنِ الدُّنيا نِهائيًّا؛ لأنَّهم يَعلَمونَ أنَّ ذلك لا يُنافي الزُّهدَ الحَقيقيَّ الذي كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه مِن بَعدِه، فلا رَهبانيَّةَ ولا تَواكُلَ ولا تَحريمَ لِما أحَلَّه اللهُ منَ الطَّيِّباتِ، ولا استِحلالَ لِما لم يَرِدْ به الشَّرعُ، وهذا هو الزُّهدُ لا إظهارُ الفقرِ والعَوَزِ كما يَراه غُلاةُ المُتَصَوِّفةِ.
ثمَّ إنَّ أهلَ الصُّفَّةِ لا يُحِبُّونَ الانفِرادَ والعُزلةَ، وكَيف يُحِبُّونَ ذلك وهم في أكثَرِ أماكِنِ تَجَمُّعِ النَّاسِ؟! ثمَّ أكان مُكثُهم في الصُّفَّةِ بمَحضِ رَغبَتِهم أم كانت حالةً طارِئةً أمْلَتْها عليهمُ الظُّروفُ المَعيشيَّةُ؟ ولقد صارَ مِن أهلِ الصُّفَّةِ بَعدَ ذلك من تَقَلَّد الإمارةَ، ومنهم مَن أصبَحَ غَنيًّا، ومنهم مَن أصبَحَ قائِدَ جُيوشٍ، وهم مَعَ ذلك في حالٍ منَ الزُّهدِ والخُشوعِ لرَبِّهم سُبحانَه وتعالى.