المَبحَثُ الأوَّلُ: عَقيدةُ المُتَصَوِّفةِ في اللهِ عَزَّ وجَلَّ (الحُلولُ ووَحدةُ الوُجودِ)
إنَّ فِكرةَ أن يَنظُرَ العَبدُ للأمورِ بنورِ اللهِ تعالى، وأنَّ كُلَّ شَيءٍ يَدُلُّ على اللهِ، بحَيثُ تَتَجَلَّى أسماءُ اللهِ وصِفاتُه في خَلقِه؛ فأنتَ تَرى أنَّه السَّميعُ العليمُ القَهَّارُ... إلخ، وتَرى ما يَحدُثُ في الكَونِ مِرآةً عاكِسةً لتلك الأسماءِ الحُسنى والصِّفاتِ العُليا: فِكرةٌ صَحيحةً، كما قال ابنُ المُعتَزِّ:
وفي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ
تَدُلُّ على أنَّه واحِدُ.
وهذا المَعنى نَفسُه قامَ ببَيانِه عَدَدٌ منَ الصَّالحينَ وسَعَوا للوُصولِ إلى تَحقيقِه في نُفوسِهم أو غَرسِه في نُفوسِ غَيرِهم.
إلَّا أنَّ بَعضَهم قد عَبَّرَ عنه برُموزٍ تَحتَمِلُ مَعانيَ سَيِّئةً، وإن كان يَقصِدُ التَّرميزَ لهذا المَعنى الصَّحيحِ، بناءً على أنَّ الحِكمةَ لا يَنبَغي أن تَصِلَ لكُلِّ أحَدٍ، وإلَّا كان كمُقَلِّدِ الخَنازيرِ الدُّرَّ، كما يَقولُ القَومُ.
ثمَّ إنَّ ذلك المَعنى الصَّحيحَ قدِ انحَرَف عِندَ قَومٍ فتَجاوزوا حُدودَه، حتَّى قال بَعضُهم: أنا اللهُ! فحتَّى لو أحسَنَّا بهمُ الظَّنَّ بناءً على أنَّ مُرادَهم أنَّهم كالمِرآةِ العاكِسةِ للأسماءِ الحُسنى والصِّفاتِ العُلا مِثلَ تَجَلِّي اسمِ الخالقِ في الإنسانِ، أوِ الباسِطِ في ضَحِكِه، أوِ القَهَّارِ في عِقابِه له، ونَحوِ ذلك؛ فهذا سوءُ أدَبٍ مَعَ اللهِ تعالى، وحتَّى لو قيلَت مِثلُ هذه العِباراتِ في حالِ غَيبةِ العَقلِ وسُكرِ المَحبَّةِ، كما ذَكَرَ ابنُ تيميَّةَ والذَّهَبيُّ عن بَعضِ أفاضِلِ القَومِ؛ فإنَّ حالَ الصَّحوِ والتَّمييزِ أكمَلُ مِن حالِ الغَشْيِ والغَيبوبةِ؛ ولذا لا يوجَدُ مِثلُ ذلك لدى الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم.
ومِثلُ ذلك أيضًا قَولُ بَعضِهم: إنَّه يرى اللَّهَ حتَّى في الكَلبِ! فحتَّى لو كان مُرادُه صَحيحًا، وهو أنَّه حتَّى الشَّيءُ الخَسيسُ يَنظُرُ فيه بنورِ أسماءِ اللَّهِ تعالى وصِفاتِه، فيَرى في الكَلبِ قَهرًا أو سَطوةً أو ذُلًّا... إلخ؛ فهذا خَطَأٌ فاحِشٌ وسوءُ أدَبٍ عَظيمٌ مَعَ اللهِ تعالى لا يَنبَغي أبَدًا. مِثلَما أنَّ قَول الدَّاعي: يا خالِقُ إبليسَ، ويا خالِقُ الفُساءَ، فيه خَطَأٌ واعتِداءٌ على اللهِ تعالى في الدُّعاءِ؛ فاللهُ تعالى وإن كان قد خَلقَ ذلك إلَّا أنَّه لا يُدعى به، ولا يَعني هذا أنَّ أصلَ دُعاءِ اللهِ خَطَأٌ، بل دُعاءُ اللهِ تعالى هو مُخُّ العِبادةِ، ولكِنْ هناكَ حُدودٌ لا يَنبَغي تَعَدِّيها، فأمَّا أن يُرادَ بالحُلولِ ووَحدةِ الوُجودِ أنَّ اللهَ تعالى قد حَلَّ بذاتِه في ذاتِ المَخلوقاتِ، فهذا لا يَقولُ به إلَّا مُلحِدٌ أو مَجنونٌ، كما قال ابنُ تيميَّةَ.
قال المُنوفيُّ: (وأمَّا وَحدةُ الوُجودِ الحُلوليَّةُ التي تَجعَلُ منَ اللهِ شَيئًا كائِنًا يَحُلُّ في مَخلوقاتِه، أوِ الاتِّحاديَّةُ بالمَعنى المَفهومِ: خَطَأٌ؛ تلك تَجعَلُ منَ الكائِنِ الفاني شَخصيَّةً تَتَّحِدُ بالوُجودِ الدَّائِمِ الباقي المُنَزَّهِ عن سائِرِ النِّسَبِ والإضافاتِ والأحيازِ الزَّمانيَّةِ والمَكانيَّةِ المُحدَثةِ، أو يَتَّحِدُ به شَيءٌ منها؛ فإنَّها مَذهَبٌ هِنديٌّ أو مَسيحيٌّ، وليس بإسلاميٍّ ولا يَعرِفُه الإسلامُ، استَمَدَّه أهلُ الشُّذوذِ في التَّصَوُّفِ الإسلاميِّ منَ الفلسَفةِ البائِدةِ، وغَذَّوا به ذِهنَهمُ الشَّاذَّ بفِكَرِ أفلاطونيَّةٍ وآراءٍ بوذيَّةٍ وفارِسيَّةٍ عن طَريقِ الفارابيِّ وابنِ سينا، وإنَّ المُتَتَبِّعَ لحَياةِ الحَلَّاجِ ومُؤَلَّفاتِ السُّهرَوَرديِّ وابنِ عَرَبيٍّ يَرى أنَّهم تَأثَّروا بالمُتَفلسِفةِ المُسلمينَ الذينَ أخَذوا عنِ الفلسَفةِ الأفلاطونيَّةِ القديمةِ والأفلاطونيَّةِ الحَديثةِ والأَرِسْطوطالسيَّةِ)
[215] ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي (1/ 292). ويُنظر له أيضًا: (1/ 276). .
ومنَ المَعاني المُنحَرِفةِ التي تَنبَثِقُ من تلك الفِكرةِ القَولُ بالجَبرِ في بابِ القَدَرِ.
ومنَ المَعاني المُنحَرِفةِ التي تَنبَثِقُ من تلك الفِكرةِ أنَّ الدِّياناتِ الأخرى صَحيحةٌ، فهذا مَعنًى باطِلٌ خَرَجَ عن حُدودِ الفِكرةِ الصَّحيحةِ، وصارَت شَبيهةً بالأفكارِ التي تَدعو إلى وَحدةِ الإنسانيَّةِ، وتَرْكِ الاختِلافِ بسَبَبِ الأديانِ، وإنَّما تَجمَعُنا الإنسانيَّةُ أوِ الحُبُّ الإلهيُّ!
ورُبَّما كان للمُستَشرِقينَ دَورٌ كَبيرٌ في خَلطِ الحَقائِقِ الصَّحيحةِ بالباطِلةِ؛ لاهتِمامِهمُ الكَبيرِ بالتَّصَوُّفِ، أوِ التَّلاعُبِ بتَفسيرِ بَعضِ إشاراتِ القَومِ، على أنَّ هذا لا يَعني عَدَمَ وُجودِ صوفيَّةٍ مُنحَرِفينَ أو مُختَلَفٍ في شَأنِهم على الأقَلِّ، خُصوصًا أنَّ ظاهرَ عِباراتِهم يَحمِلُ مَعنًى خَطَأً.
إنَّ المُستَشرِقينَ اهتَمُّوا كَثيرًا بدِراسة ظاهرةِ التَّصَوُّفِ، ورَأى بَعضُهم فيه الدَّعوةَ إلى القَولِ بوَحدةِ الأديانِ وتَصويبِها بجَميعِ أشكالِها؛ فهي تُصَوِّرُ أنَّ المِلَلَ كُلَّها سَواءٌ كانت وثَنيَّةً أو نَصرانيَّةً أو يهوديَّةً، تَرجِعُ إلى مَصدَرٍ واحِدٍ، وتَدُلُّ جَميعُها على اللهِ تعالى! ولا شَكَّ أنَّها فِكرةٌ خَطيرةٌ جِدًّا تُلبِسُ الحَقَّ بالباطِلِ، وتُصادِمُ سُنَنَ اللهِ في الكَونِ والحَياةِ، ومنها سُنَّةُ الصِّراعِ بَينَ الحَقِّ والباطِلِ، وبَينَ الخَيرِ والشَّرِّ. والجَمعُ بَينَ الكُلِّ على قَدَمِ المُساواةِ هو هَذَيانٌ، وإلَّا فكَيف نُسَوِّي بَينَ مَن يَعبُدُ اللهَ سُبحانَه وتعالى وحدَه ومَن يَعبُدُ البَقَرَ، أو حَرَّف كُتُبَ اللهِ وعَبَدَ أنبياءَه عليهمُ السَّلامُ؟!
والخُلاصةُ أنَّه يَنبَغي تَبَيُّنُ المَقصودِ منِ استِعمالِ عِبارةِ وَحدةِ الوُجودِ؛ فهي لفظٌ لم يَرِدْ في الشَّرعِ؛ فيَنبَغي التَّوقُّفُ فيه ومَعرِفةُ مَقصَدِ القائِلِ به؛ فإمَّا أن يوافِقَ الحَقَّ، وإمَّا أن يُريدَ مَعنًى باطِلًا. واللهُ تعالى أعلَمُ.
وقد قَسَّمَ ابنُ تيميَّةَ الفَناءَ في اللهِ تعالى وفصَّل في أقسامِه، فقال: (الفَناءُ ثَلاثةُ أنواعٍ: نَوعٌ للكامِلينَ منَ الأنبياءِ والأولياءِ، ونَوعٌ للقاصِدينَ منَ الأولياءِ والصَّالحينَ، ونَوعٌ للمُنافِقينَ المُلحِدينَ المُشَبِّهينَ؛ فأمَّا الأوَّلُ فهو الفَناءُ عن إرادةِ ما سِوى اللهِ، بحَيثُ لا يُحِبُّ إلَّا اللهَ، ولا يَعبُدُ إلَّا إيَّاه، ولا يَتَوكَّلُ إلَّا عليه، ولا يَطلُبُ غَيرهَ، وهو المَعنى الذي يَجِبُ أن يُقصَدَ بقَولِ الشَّيخِ أبي يَزيدَ البِسطاميِّ؛ حَيثُ قال: "أريدُ أن لا أريدَ إلَّا ما يُريدُ". أي: المُرادُ المَحبوبُ المَرضيُّ، وهو المُرادُ بالإرادةِ الدِّينيَّةِ، وكَمالُ العَبدِ أن لا يُريدَ ولا يُحِبَّ ولا يَرضى إلَّا ما أرادَه اللهُ ورَضيه وأحَبَّه، وهو ما أمَرَ به أمرَ إيجابٍ أوِ استِحبابٍ، ولا يُحِبُّ إلَّا ما يُحِبُّه اللهُ، كالمَلائِكةِ والأنبياءِ والصَّالحينَ. وهذا مَعنى قَولِهم في قَولِه:
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 89] قالوا: هو السَّليمُ ممَّا سِوى اللهِ أو ممَّا سِوى عِبادةِ اللهِ، أو ممَّا سِوى إرادةِ اللهِ، أو ممَّا سِوى مَحَبَّةِ اللهِ؛ فالمَعنى واحِدٌ، وهذا المَعنى إن سُمِّيَ فَناءً أو لم يُسَمَّ، هو أوَّلُ الإسلامِ وآخِرُه، وباطِنُ الدِّينِ وظاهِرُه.
وأمَّا النَّوعُ الثَّاني: فهو الفَناءُ عن شُهودِ السِّوى. وهذا يَحصُلُ لكَثيرٍ منَ السَّالكينَ؛ فإنَّهم لفرطِ انجِذابِ قُلوبِهم إلى ذِكرِ اللهِ وعِبادَتِه ومَحَبَّتِه وضَعفِ قُلوبِهم عن أن تَشَهَدَ غَيرَ ما تَعبُدُ وتَرى غَير ما تَقصِدُ؛ لا يَخطُرُ بقُلوبِهم غَيرُ اللهِ، بل ولا يَشعُرونَ، كما قيل في قَولِه:
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [القصص: 10] قالوا: فارِغًا مِن كُلِّ شَيءٍ إلَّا مِن ذِكرِ موسى. وهذا كَثيرٌ يَعرِضُ لمَن فَقَمه أمرٌ منَ الأمورِ إمَّا حَبٌّ وإمَّا خَوفٌ وإمَّا رَجاءٌ، يبقى قَلبُه مُنصَرِفًا عن كُلِّ شَيءٍ إلَّا عَمَّا قد أحَبَّه أو خافه أو طَلبَه؛ بحَيثُ يَكونُ عِندَ استِغراقِه في ذلك لا يَشعُرُ بغَيرِه، فإذا قَويَ على صاحِبِ الفَناءِ هذا، فإنَّه يَغيبُ بموجودِه عن وُجودِه، وبمشهودِه عن شُهودِه، وبمذكورِه عن ذِكرِه، وبمَعروفِه عن مَعرِفتِه، حتَّى يَفنى مَن لم يَكُنْ وهي المَخلوقاتُ المُعَبَّدةُ مِمَّن سِواه، ويَبقى مَن لم يَزَلْ وهو الرَّبُّ تعالى. والمُرادُ فناؤُها في شُهودِ العَبدِ وذِكرِه، وفَناؤُه عن أن يُدرِكَها أو يَشهَدَها، وإذا قَويَ هذا ضَعُفَ المُحِبُّ حتَّى اضطَرَبَ في تَمييزِه؛ فقد يَظُنُّ أنَّه هو مَحبوبُه، كما يُذكَرُ أنَّ رَجُلًا ألقى نَفسَه في اليَمِّ فألقى مُحِبُّه نَفسَه خَلْفَه، فقال: أنا وقَعتُ، فما أوقَعَك خَلفي؟! قال: غِبتُ بك عنِّي، فظَنَنتُ أنَّك أنِّي! وهذا المَوضِعُ زَلَّ فيه أقوامٌ وظَنُّوا أنَّه اتِّحادٌ وأنَّ المُحِبَّ يَتَّحِدُ بالمَحبوبِ، حتَّى لا يَكونَ بَينَهما فرقٌ في نَفسِ وُجودِهما، وهذا غَلَطٌ؛ فإنَّ الخالقَ لا يَتَّحِدُ به شَيءٌ أصلًا، بل لا يَتَّحِدُ شَيءٌ بشَيءٍ إلَّا إذا استَحالا وفسَدا وحَصَل منِ اتِّحادِهما أمرٌ ثالِثٌ، لا هو هذا ولا هذا، كما إذا اتَّحَدَ الماءُ واللَّبَنُ، والماءُ والخَمرُ، ونَحوُ ذلك. ولكِنْ يَتَّحِدُ المُرادُ والمَحبوبُ والمَكروهُ ويَتَّفِقانِ في نَوعِ الإرادةِ والكَراهةِ، فيُحِبُّ هذا ما يُحِبُّ هذا، ويُبغِضُ هذا ما يُبغِضُ هذا، ويَرضى ما يَرضى، ويَسخَطُ ما يَسخَطُ، ويَكرَهُ ما يَكرَهُ، ويوالي مَن يوالي، ويُعادي مَن يُعادي، وهذا الفَناءُ كُلُّه فيه نَقصٌ. وأكابِرُ الأولياءِ، كأبي بكرٍ وعُمَرَ والسَّابقينَ الأوَّلينَ منَ المُهاجِرينَ والأنصارِ: لم يَقَعوا في هذا الفَناءِ فضلًا عَمَّن هو فوقَهم منَ الأنبياءِ، وإنَّما وقعَ شَيءٌ من هذا بَعدَ الصَّحابةِ. وكَذلك كَلُّ ما كان من هذا النَّمَطِ ممَّا فيه غَيبةُ العَقل والتَّمييزِ لِما يَرِدُ على القَلبِ من أحوالِ الإيمانِ؛ فإنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم كانوا أكمَلَ وأقوى وأثبَتَ في الأحوالِ الإيمانيَّةِ من أن تَغيبَ عُقولُهم، أو يَحصُلَ لهم غَشْيٌ أو صَعقٌ أو سُكرٌ أو فَناءٌ أو وَلَهٌ أو جُنونٌ. وإنَّما كان مَبادِئُ هذه الأمورِ في التَّابعينَ من عُبَّادِ البَصرةِ؛ فإنَّه كان فيهم مَن يُغشى عليه إذا سَمِعَ القُرآنَ. ومنهم مَن يَموتُ، كَأبي جَهيرٍ الضَّريرِ، وزُرارةَ بنِ أوفى قاضي البَصرةِ، وكَذلك صارَ في شُيوخِ الصُّوفيَّةِ مَن يَعرِضُ له منَ الفَناءِ والسُّكْرِ ما يَضعُفُ مَعَه تَمييزُه حتَّى يَقولَ في تلك الحالِ منَ الأقوالِ ما إذا صَحا عَرَف أنَّه غالِطٌ فيه، كما يُحكى نَحوُ ذلك عن مِثلِ أبي يَزيدَ، وأبي الحُسَينِ النُّوريِّ، وأبي بكرٍ الشِّبليِّ، وأمثالِهم، بخِلافِ أبي سُليمانَ الدَّارانيِّ، ومَعروفٍ الكَرخيِّ، والفُضَيلِ بنِ عِياضٍ، بل وبخِلافِ الجُنَيدِ وأمثالِهم مِمَّن كانت عُقولُهم وتَمييزُهم يَصحَبُهم في أحوالِهم، فلا يَقَعونَ في مِثلِ هذا الفَناءِ والسُّكْرِ ونَحوِه، بل الكُمَّلُ تَكونُ قُلوبُهم ليس فيها سِوى مَحَبَّةِ اللهِ وإرادَتِه وعِبادَتِه، وعِندَهم مِن سَعةِ العِلمِ والتَّمييزِ ما يَشهَدونَ الأمورَ على ما هي عليه، بل يَشهَدونَ المَخلوقاتِ قائِمةً بأمرِ اللَّهِ مُدَبَّرةً بمَشيئَتِه، بل مُستَجيبةً له قانِتةً له، فيَكونُ لهم فيها تَبصِرةٌ وذِكرى، ويَكونُ ما يَشهَدونَه من ذلك مُؤَيِّدًا ومُمِدًّا لِما في قُلوبِهم من إخلاصِ الدِّينِ وتَجريدِ التَّوحيدِ له والعِبادةِ له وَحدَه لا شَريكَ له. وهذه الحَقيقةُ التي دَعا إليها القُرآنُ، وقامَ بها أهلُ تَحقيقِ الإيمانِ والكُمَّلُ من أهلِ العِرفانِ. ونَبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إمامُ هؤلاء وأكمَلُهم؛ ولهذا لمَّا عُرِجَ به إلى السَّمَواتِ وعايَنَ ما هنالكَ منَ الآياتِ وأوحيَ إليه ما أوحيَ من أنواعِ المُناجاةِ، أصبَحَ فيهم وهو لم يَتَغَيَّرْ حالُه ولا ظَهرَ عليه ذلك، بخِلافِ ما كان يَظهَرُ على موسى منَ التَّغَشِّي صَلَّى اللهُ عليهم وسَلَّمَ أجمَعينَ.
وأمَّا النَّوعُ الثَّالثُ ممَّا قد يُسَمَّى فَناءً: فهو أن يَشهَدَ أنْ لا مَوجودَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ وُجودَ الخالقِ هو وُجودُ المَخلوقِ، فلا فرقَ بَينَ الرَّبِّ والعَبدِ؛ فهذا فنَاءُ أهلِ الضَّلالِ والإلحادِ الواقِعينَ في الحُلولِ والاتِّحادِ. والمَشايِخُ المُستَقيمونَ إذا قال أحَدُهم: ما أرى غَيرَ اللَّهِ، أو لا أنظُرُ إلى غَيرِ اللهِ، ونَحوَ ذلك، فمُرادُهم بذلك: ما أرى رَبًّا غَيرَه، ولا خالقًا غَيرَه، ولا مُدَبِّرًا غَيرَه، ولا إلهًا غَيرَه، ولا أنظُرُ إلى غَيرِه مَحَبَّةً له أو خَوفًا منه أو رَجاءً له... وليس مُرادُ المَشايِخِ والصَّالحينَ بهذا القَولِ أنَّ الذي أراه بعَيني منَ المَخلوقاتِ هو رَبُّ الأرضِ والسَّمَواتِ؛ فإنَّ هذا لا يَقولُه إلَّا مَن هو في غايةِ الضَّلالِ والفسادِ؛ إمَّا فسادُ العَقلِ، وإمَّا فسادُ الاعتِقادِ؛ فهو مُتَرَدِّدٌ بَينَ الجُنونِ والإلحادِ.
وكُلُّ المَشايِخِ الذينَ يُقتَدى بهم في الدِّينِ مُتَّفِقونَ على ما اتَّفقَ عليه سَلفُ الأمَّةِ وأئِمَّتُها من أنَّ الخالقَ سُبحانَه مُبايِنٌ للمَخلوقاتِ، وليس في مَخلوقاتِه شَيءٌ من ذاتِه، ولا في ذاتِه شَيءٌ من مَخلوقاتِه، وأنَّه يَجِبُ إفرادُ القديمِ عنِ الحادِثِ، وتَمييزُ الخالقِ عنِ المَخلوقِ. وهذا في كَلامِهم أكثَرُ من أن يُمكِنَ ذِكرُه هنا. وهم قد تَكَلَّموا على ما يَعرِضُ للقُلوبِ منَ الأمراضِ والشُّبُهاتِ، وأنَّ بَعضَ النَّاسِ قد يَشهَدُ وُجودَ المَخلوقاتِ فيَظُنُّه خالِقَ الأرضِ والسَّمَواتِ؛ لعَدَمِ التَّمييزِ والفُرقانِ في قَلبِه، بمَنزِلةِ مَن رَأى شُعاعَ الشَّمسِ فظَنَّ أنَّ ذلك هو الشَّمسُ التي في السَّماءِ. وهم قد يَتَكَلَّمونَ في "الفَرقِ والجَمعِ" ويَدخُلُ في ذلك منَ العِباراتِ المُلفتةِ نَظيرُ ما دَخَل في الفَناءِ؛ فإنَّ العَبدَ إذا شَهِدَ التَّفرِقةَ والكَثرةَ في المَخلوقاتِ يبقى قَلبُه مُتَعَلِّقًا بها مُتَشَتِّتًا ناظِرًا إليها مُتَعَلِّقًا بها: إمَّا مَحَبَّةً وإمَّا خَوفًا وإمَّا رَجاءً، فإذا انتَقَل إلى الجَمعِ اجتَمَعَ قَلبُه على تَوحيدِ اللهِ وعِبادَتِه وَحْدَه لا شَريكَ له، فالتَفتَ قَلبُه إلى اللهِ بَعدَ التِفاتِه إلى المَخلوقينَ، فصارَت مَحَبَّتُه لرَبِّه وخَوفُه من رَبِّه ورَجاؤُه لرَبِّه واستِعانَتُه برَبِّه، وهو في هذا الحالِ قد لا يَسَعُ قَلبَه النَّظَرُ إلى المَخلوقِ ليُفرِّقَ بَينَ الخالقِ والمَخلوقِ؛ فقد يَكونُ مُجتَمِعًا على الحَقِّ مُعرِضًا عنِ الخَلْقِ نَظَرًا وقَصدًا، وهو نَظيرُ النَّوعِ الثَّاني منَ الفَناءِ. ولكِنْ بَعدَ ذلك "الفرق الثَّاني" وهو: أن يَشهَدَ أنَّ المَخلوقاتِ قائِمةٌ باللهِ مُدَبَّرةٌ بأمرِه، ويَشهَدَ كَثرَتَها مَعدومةً بوحدانيَّةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، وأنَّه سُبحانَه رَبُّ المَصنوعاتِ وإلهُها وخالِقُها ومالِكُها، فيَكونُ مَعَ اجتِماعِ قَلبِه على اللهِ إخلاصًا له ومحَبَّةً وخَوفًا ورَجاءً واستِعانةً وتَوكُّلًا على اللهِ وموالاةً فيه...)
[216] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 218-224). .