المبحثُ الثَّاني: الرَّدُّ على الأشاعرةِ في مذهَبِهم في أفعالِ اللهِ وإرادتِه وحِكمتِه
أصاب
الأشاعِرةُ في كثيرٍ من رُدودِهم على
المُعتَزِلةِ الذين أوجبوا على اللهِ سُبحانَه فِعلَ الأصلَحِ ومراعاتَه، ولكنَّهم غَلَوا في نَفيِ الحكمةِ في أفعالِ اللهِ سُبحانَه، وقد ردَّ عليهم أهلُ العِلمِ، وهذا بعضُ كلامِ أهلِ العلمِ في هذه المسألةِ:
قال
ابنُ تيميَّةَ: (هذه المسألةُ كبيرةٌ، من أجلِ المسائِلِ الكِبارِ التي تكلَّم فيها النَّاسُ، وأعظَمُها شُعوبًا وفُروعًا، وأكثَرُها شُبَهًا ومحاراتٍ؛ فإنَّ لها تعلُّقًا بصفاتِ اللهِ تعالى وبأسمائِه وأفعالِه وأحكامِه؛ من الأمرِ والنَّهيِ والوعدِ والوعيدِ، وهي داخلةٌ في خَلقِه وأمرِه، فكُلُّ ما في الوجودِ مُتعلِّقٌ بهذه المسألةِ؛ فإنَّ المخلوقاتِ جميعَها مُتعلِّقةٌ بها، وهي مُتعلِّقةٌ بالخالِقِ سُبحانَه، وكذلك الشَّرائعُ كُلُّها: الأمرُ والنَّهيُ والوعدُ والوعيدُ مُتعلِّقةٌ بها، وهي مُتعلِّقةٌ بمسائِلِ القَدَرِ والأمرِ، وبمسائِلِ الصِّفاتِ والأفعالِ، وهذه جوامِعُ عُلومِ النَّاسِ؛ فعِلمُ الفِقهِ الذي هو الأمرُ والنَّهيُ مُتعلِّقٌ بها، وقد تكلَّم النَّاسُ في تعليلِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ والأمرِ والنَّهيِ، كالأمرِ بالتَّوحيدِ، والصِّدقِ والعَدلِ، والصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ، والنَّهيِ عن الشِّركِ والكَذِبِ، والظُّلمِ والفواحِشِ؛ هل أمَر بذلك لحِكمةٍ ومصلحةٍ وعِلَّةٍ اقتضَت ذلك أم ذلك لمحضِ المشيئةِ وصَرفِ الإرادةِ؟ وهل عِلَلُ الشَّرعِ بمعنى الدَّاعي والباعِثِ، أو بمعنى الأمارةِ والعلامةِ؟ وهل يسوغُ في الحِكمةِ أن ينهى اللهُ عن التَّوحيدِ والصِّدقِ والعَدلِ، ويأمُرَ بالشِّركِ والكَذِبِ والظُّلمِ أم لا؟ وتكلَّم النَّاسُ في تنزيهِ اللهِ تعالى عن الظُّلمِ: هل هو مُنزَّهٌ عنه مع قُدرتِه عليه أم الظُّلمُ ممتَنِعٌ لنَفسِه لا يمكِنُ وُقوعُه؟ وتكلَّموا في محبَّةِ اللهِ ورِضاه وغَضَبِه وسَخَطِه: هل هي بمعنى إرادتِه، أو هي الثَّوابُ والعِقابُ المخلوقُ، أم هذه صفاتٌ أخصُّ من الإرادةِ؟ وتنازعوا فيما وقع في الأرضِ من الكُفرِ والفُسوقِ والعِصيانِ: هل يريدُه ويُحبُّه ويرضاه كما يريدُ ويحِبُّ سائرَ ما يحدُثُ، أم هو واقِعٌ بدونِ قُدرتِه ومشيئتِه وهو لا يَقدِرُ أن يهدِيَ ضالًّا ولا يُضِلَّ مُهتدِيً،ا أم هو واقِعٌ بقُدرتِه ومشيئتِه، ولا يكونُ في مُلكِه ما لا يريدُ، وله في جميعِ خَلقِه حِكمةٌ بالغةٌ، وهو يُبغِضُه ويَكرَهُه ويَمقُتُ فاعِلَه، ولا يحِبُّ الفسادَ ولا يرضى لعبادِه الكُفرَ، ولا يريدُه الإرادةَ الدِّينيَّةَ المُتضَمِّنةَ لمحبَّتِه ورِضاه، وإن أراده الإرادةَ الكونيَّةَ التي تتناوَلُ ما قدَّره وقضاه؟ وفروعُ هذا الأصلِ كثيرةٌ لا يحتَمِلُ هذا الموضِعُ استِقصاءَها ... قَولُ من يقولُ: خَلَق المخلوقاتِ وأمَر بالمأموراتِ لا لعِلَّةٍ ولا لداعٍ ولا باعثٍ، بل فعَل ذلك لمحضِ المشيئةِ وصَرفِ الإرادةِ، وهذا قولُ كثيرٍ ممَّن يُثبِت القَدَرَ، وينتَسِبُ إلى السُّنَّةِ من أهلِ الكلامِ والفِقهِ وغَيرِهم، وقد قال بهذا طوائِفُ من أصحابِ
مالِكٍ و
الشَّافعيِّ و
أحمدَ وغَيرِهم، وهو قَولُ
الأشعَريِّ وأصحابِه، وقَولُ كثيرٍ من نُفاةِ القياسِ في الفِقهِ الظَّاهريَّةِ، ك
ابنِ حَزمٍ وأمثالِه، ومن حُجَّةِ هؤلاء أنَّه لو خَلَق الخَلْقَ لعِلَّةٍ لكان ناقِصًا بدونِها مُستَكمِلًا بها؛ فإنَّه إمَّا أن يكونَ وُجودُ تلك العِلَّةِ وعَدَمُها بالنِّسبةِ إليه سواءً، أو يكونَ وُجودُها أَولى به، فإن كان الأوَّلَ امتَنَع أن يفعَلَ لأجْلِها، وإن كان الثَّانيَ ثَبَت أنَّ وُجودَها أَولى به، فيكونُ مُستَكمِلًا بها، فيكونُ قَبلَها ناقِصًا. ومن حُجَّتِهم أنَّ العِلَّةَ إن كانت قديمةً وَجَب تقديمُ المعلولِ؛ لأنَّ العِلَّةَ الغائيَّةَ وإن كانت مُتقَدِّمةً على المعلولِ في العِلمِ والقَصدِ، فلا ريبَ أنَّها مُتأخِّرةٌ في الوُجودِ عنه، فمَن فَعَل فِعلًا لمطلوبٍ يَطلُبُه بذلك الفِعلِ كان حُصولُ المطلوبِ بَعدَ الفِعلِ، فإذا قُدِّرَ أنَّ ذلك المطلوبَ الذي هو العِلَّةُ قديمًا كان الفِعلُ قديمًا بطَريقِ الأَولى، فلو قيلَ: إنَّه يَفعَلُ لعِلَّةٍ قديمةٍ لَزِم ألَّا يحدُثَ شيءٌ من الحوادثِ، وهو خلافُ المُشاهَدةِ، وإن قيلَ: إنَّه فَعَل لعِلَّةٍ حادثةٍ لَزِم محذورانِ:
أحَدُهما: أن يكونَ مَحَلًّا للحوادِث؛ فإنَّ العِلَّةَ إذا كانت مُنفَصِلةً عنه فإنْ لم يَعُدْ إليه منها حُكمٌ، امتنع أن يكونَ وُجودُها أَولى به من عَدَمِها، وإذا قُدِّر أنَّه عاد إليه منها حُكمٌ كان ذلك حادثًا، فتقومُ به الحوادِثُ.
المحذورُ الثَّاني: أنَّ ذلك يَستلزِمُ التَّسلسُلَ مِن وَجهَينِ:
أحدُهما: أنَّ تلك العِلَّةَ الحادثةَ المطلوبةَ بالفِعلِ هي أيضًا ممَّا يحدِثُه اللهُ تعالى بقُدرتِه ومشيئتِه، فإن كانت لغيرِ عِلَّةٍ لزِمَ العَبَثُ، كما تقدَّم، وإن كانت لعِلَّةٍ عاد التَّقسيمُ فيها، فإذا كان كلُّ ما أحدَثه أحدَثه لعِلَّةٍ، والعِلَّةُ ممَّا أحدَثه، لزِمَ تسلسُلُ الحوادِثِ.
الثَّاني: أنَّ تلك العِلَّةَ إمَّا أن تكونَ مُرادةً لنَفسِها أو لعِلَّةٍ أُخرى؛ فإن كانت مُرادةً لنَفسِها امتَنَع حدوثُها؛ لأنَّ ما أراده اللهُ تعالى لذاتِه وهو قادِرٌ عليه، لا يؤخِّرُ إحداثَه، وإن كانت مرادةً لغَيرِها فالقَولُ في ذلك الغَيرِ كالقَولِ فيها، ويلزَمُ التَّسلسُلُ، فهذا ونحوُه مِن حُجَجِ مَن ينفي تعليلَ أفعالِ اللهِ تعالى وأحكامَه)
[897] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 81) باختصارٍ وتصرفٍ. .
وقال
ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (السَّلَفُ والفُقَهاءُ والجُمهورُ يُثبِتون الحِكمةَ في خَلقِ اللهِ وأمرِه، ومَن قال: إنَّه لا يخلُقُ شيئًا بحِكمةٍ، ولا يأمُرُ بشيءٍ بحِكمةٍ؛ فإنَّه لا يُثبِتُ إلَّا محضَ الإرادةِ التي تُرَجِّحُ أحَدَ المتماثِلَينِ على الآخَرِ بلا مُرجِّحٍ، كما هو أصلُ ابنِ كُلَّابٍ ومن تابعَه ... يقولونَ: الأفعالُ لم تشتَمِلْ على صفاتٍ هي أحكامٌ، ولا على صفاتٍ هي عِلَلٌ للأحكامِ، بل القادِرُ أمَرَ بأحدِ المُتماثِلَينِ دونَ الآخَرِ لمحْضِ الإرادةِ، لا لحِكمةٍ ولا لرعايةِ مصلحةٍ في الخَلقِ والأمرِ، ويقولونَ: إنَّه يجوزُ أن يأمُرَ اللهُ بالشِّركِ باللهِ وينهى عن عبادتِه وَحدَه، ويجوزُ أن يأمُرَ بالظُّلمِ والفواحِشِ، وينهى عن البِرِّ والتَّقوى!)
[898] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 432) باختصارٍ وتصرُّفٍ. .
وقال
ابنُ تيميَّة أيضًا: (
الأشعَريُّ ومن وافقَه قَولُهم في نَفيِ ما في الشَّريعةِ مِن الحِكَمِ والأسبابِ خِلافُ إجماعِ السَّلَفِ والفُقَهاءِ؛ فإنَّ مِن أصولِهم أنَّ اللهَ لا يخلُقُ لحِكمةٍ، ولا يأمُرُ لحِكمةٍ، بل ليس عندَهم في القرآنِ لامُ تعليلٍ في خَلقِه وأمرِه! وإذا تكلَّموا معهم في الأمورِ الطَّبيعيَّةِ أحالوا جميعَ ذلك على مجرَّدِ ترجيحِ القادِرِ بلا سبَبٍ، وأنَّ ما وُجِد من الاقترانِ فهو عادةٌ محضةٌ لا لارتباطٍ بَينَ هذا وهذا، ثمَّ قد يُضيفونَ هذا القولَ إلى السُّنَّةِ! وهذا القَولُ لم يَقُلْه قَطُّ أحدٌ من سَلَفِ الأئمَّةِ، ولا أئمَّةُ المُسلِمين لا الأربعةُ ولا غيرُهم، بل المنصوصُ عنهم وعن غَيرِهم خِلافُ هذا القَولِ، وإن كان قد قاله طوائِفُ من أصحابِهم المتأخِّرينَ مُتابعةً لِمن قال ذلك من أهلِ الكلامِ المُتَّبعينَ ل
جَهمٍ)
[899] ((الصفدية)) (2/ 331) باختصارٍ وتصرُّفٍ. .
وقال أيضًا: (أجمع المُسلِمونَ على أنَّ الله تعالى موصوفٌ بالحِكمةِ، لكن تنازَعوا في تفسيرِ ذلك؛ فقالت طائفةٌ: الحِكمةُ ترجِعُ إلى عِلمِه بأفعالِ العِبادِ، وإيقاعِها على الوَجهِ الذي أراده، ولم يُثبِتوا إلَّا العِلمَ والإرادةَ والقُدرةَ، وقال الجُمهورُ من أهلِ السُّنَّةِ وغيرِهم: بل هو حكيمٌ في خَلقِه وأمرِه، والحِكمةُ ليست مُطلَقَ المشيئةِ؛ إذ لو كان كذلك لكان كلُّ مُريدٍ حكيمًا، ومعلومٌ أنَّ الإرادةَ تنقَسِمُ إلى محمودةٍ ومذمومةٍ، بل الحِكمةُ تتضَمَّنُ ما في خَلقِه وأمرِه من العواقِبِ المحمودةِ، والغاياتِ المحبوبةِ، والقَولُ بإثباتِ هذه الحِكمةِ هو قولُ جماهيرِ طوائِفِ المُسلِمينَ من أهلِ التَّفسيرِ والفِقهِ والحديثِ، والتصَوُّفِ والكلامِ، وغَيرِهم؛ فأئمَّةُ الفُقَهاءِ مُتَّفِقونَ على إثباتِ الحِكمةِ والمصالحِ في أحكامِه الشَّرعيَّةِ، وإنَّما ينازِعُ في ذلك طائفةٌ من نُفاةِ القياسِ وغيرِ نُفاتِه، وكذلك ما في خَلقِه من المنافِعِ والحِكَمِ والمصالحِ لعبادِه معلومٌ. وأصحابُ القَولِ الأوَّلِ
كجَهمِ بنِ صَفوانَ ومُوافقيه ك
الأشعَريِّ ومن وافَقَه من الفُقَهاءِ من أصحابِ
مالِكٍ و
الشَّافعيِّ و
أحمدَ وغَيرِهم يقولونَ: ليس في القُرآنِ لامُ التَّعليلِ في أفعالِ اللهِ، بل ليس فيه إلَّا لامُ العاقبةِ، وأمَّا الجُمهورُ فيقولونَ: بل لامُ التَّعليلِ داخِلةٌ في أفعالِ اللهِ تعالى وأحكامِه ... وأكثَرُ أهلِ السُّنَّةِ على إثباتِ الحِكمةِ والتَّعليلِ، ولكنَّ الذين أنكروا ذلك من أهلِ السُّنَّةِ احتجُّوا بحُجَّتينِ: إحداهما: أنَّ ذلك يستلزِمُ التَّسلسُلَ؛ فإنَّه إذا فعَل لعِلَّةٍ، فتلك العِلَّةُ أيضًا حادثةٌ، فتفتَقِرُ إلى عِلَّةٍ إن وجَب أن يكونَ لكُلِّ حادثٍ عِلَّةٌ، وإن عقل الإحداث بغير عِلَّة لم يحتج إلى إثبات عِلَّة، فهم يقولونَ: إن أمكن الإحداثُ بغيرِ عِلَّةٍ لم يحتَجْ إلى عِلَّةٍ، ولم يكُنْ ذلك عَبَثًا، وإن لم يكُنْ وجودُ الإحداثِ إلَّا لعِلَّةٍ، فالقَولُ في حدوثِ العِلَّةِ كالقَولِ في حُدوثِ المعلولِ، وذلك يستلزِمُ التَّسلسُلَ.
الحُجَّةُ الثَّانيةُ: أنَّهم قالوا: من فَعَل لعِلَّةٍ كان مُستَكمَلًا بها؛ لأنَّه لو لم يكُنْ حُصولُ العِلَّةِ أَولى من عَدَمِها لم تكُنْ عِلَّةً، والمُستكمَلُ بغيرِه ناقِصٌ بنَفسِه، وذلك ممتَنِعٌ على اللهِ.
وأوردوا على
المُعتَزِلةِ ومن وافقَهم من الشِّيعةِ حُجَّةً تقطَعُهم على أصولهم، فقالوا: العِلَّةُ التي فَعَل لأجلِها إن كان وجودُها وعَدَمُها بالنِّسبةِ إليه سواءً، امتَنَع أن تكونَ عِلَّةً، وإن كان وُجودُها أَولى، فإن كانت مُنفصِلةً عنه لزِمَ أن يُستكمَلَ بغيرِه، وإن كانت قائمةً به لَزِم أن يكونَ محَلًّا للحوادثِ.
وأمَّا المجَوِّزونَ للتَّعليلِ فهم مُتنازِعونَ، ف
المُعتَزِلةُ وأتباعُهم من الشِّيعةِ تُثبِتُ من التَّعليلِ ما لا يُعقَلُ، وهو أنَّه فَعَل لعِلَّةٍ مُنفَصِلةٍ عن الفاعِلِ، مع كونِ وُجودُها وعَدَمُها بالنِّسبةِ إليه سواءً.
وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ القائِلونَ بالتَّعليلِ فإنَّهم يقولونَ: إنَّ اللهَ يحِبُّ ويرضى كما دَلَّ على ذلك الكِتابُ والسُّنَّةُ، ويقولونَ: إنَّ المحبَّةَ والرِّضا أخَصُّ من الإرادةِ، وأمَّا
المُعتَزِلةُ وأكثَرُ أصحابِ
الأشعَريِّ فيقولونَ: إنَّ المحبَّةَ والرِّضا والإرادةَ سواءٌ؛ فجُمهورُ أهلِ السُّنَّةِ يقولونَ: إنَّ اللهَ لا يحِبُّ الكُفرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، ولا يرضاه، وإن كان داخِلًا في مُرادِه، كما دخَلَت سائِرُ المخلوقاتِ؛ لِما في ذلك من الحِكمةِ، وهو وإن كان شَرًّا بالنِّسبةِ إلى الفاعِلِ فليس كُلُّ ما كان شَرًّا بالنِّسبةِ إلى شَخصٍ يكونُ عديمَ الحِكمةِ، بل للهِ في المخلوقاتِ حِكَمٌ قد يَعلَمُها بعضُ النَّاسِ، وقد لا يَعلَمُها.
وهؤلاء يجيبونَ عن التَّسلسُلِ بجوابَينِ:
أحَدُهما: أن يُقالَ: هذا التَّسلسُلُ في الحوادِثِ المُستقبَلةِ لا في الحوادِثِ الماضيةِ؛ فإنَّه إذا فعل فعلًا لحِكمةٍ كانت الحِكمةُ حاصلةً بَعدَ الفِعلِ، فإذا كانت تلك الحِكمةُ يُطلَبُ منها حِكمةٌ أُخرى بَعدَها كان تسلسُلًا في المُستقبَلِ، وتلك الحِكمةُ الحاصِلةُ محبوبةٌ له، وسبَبٌ لحِكمةٍ ثانيةٍ، فهو لا يزالُ سُبحانَه يُحدِثُ من الحِكَمِ ما يحِبُّه ويجعَلُه سببًا لِما يحِبُّه.
قالوا: والتسلسُلُ في المُستقبَلِ جائِزٌ عِندَ جماهيرِ المُسلِمينَ وغيرِهم من أهلِ المِلَلِ وغيرِ أهلِ المِلَلِ؛ فإنَّ نعيمَ الجنَّةِ وعذابَ النَّارِ دائمانِ مع تجَدُّدِ الحوادِثِ فيهما، وإنَّما أنكر ذلك
الجَهمُ بنُ صَفوانَ، وأمَّا تَسلسُلُ الحوادِثِ في الماضي ففيه أيضًا قولانِ لأهلِ الإسلامِ؛ لأهلِ الحديثِ والكَلامِ وغيرِهم، فمن يقولُ: إنَّه تعالى لم يَزَلْ مُتكَلِّمًا إذا شاء، ولم يَزَلْ فعَّالًا إذا شاء أفعالًا تقومُ بنَفسِه -بقُدرتِه ومَشيئتِه- شيئًا بَعدَ شيءٍ، يقولُ: إنَّه لم يَزَلْ يتكَلَّم بمشيئتِه، ويفعَلُ بمشيئتِه شيئًا بَعدَ شيءٍ، مع قَولِه: إنَّ كُلَّ ما سِوى اللهِ مُحدَثٌ مخلوقٌ كائِنٌ بَعدَ أن لم يكُنْ)
[900] ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 141 - 147) بتصرُّفٍ يسيرٍ. .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (النَّاسُ في هذا الأصلِ على ثلاثةِ أقوالٍ: فالقَدَريَّةُ يقولونَ: يجبُ على اللهِ رعايةُ الأصلحِ أو الصَّلاحِ في كلِّ شَخصٍ مُعَيَّنٍ، ويجعلونَ ذلك الواجِبَ من جِنسِ ما يجبُ على الإنسانِ، فغَلِطوا حيثُ شَبَّهوا اللهَ بالواحِدِ من النَّاسِ فيما يجِبُ عليه ويَحرُمُ عليه، وكانوا هم مُشَبِّهةَ الأفعالِ، فغَلِطوا من حيثُ لم يُفرِّقوا بَينَ المصلحةِ العامَّةِ الكُلِّيَّةِ، وبَينَ مصلحةِ آحادِ النَّاسِ، التي قد تكونُ مُستلزِمةً لفسادٍ عامٍّ، ومُضادَّةً لصلاحٍ عامٍّ، والقَدَريَّةُ المُجبرةُ
الجَهميَّةُ لا يُثبِتون له حِكمةً ولا رحمةً، بل عِندَهم يفعَلُ بمشيئةٍ محضةٍ، لا لها حِكمةٌ ولا رحمةٌ، و
الجَهمُ بنُ صَفوانَ رأسُ هؤلاء كان يخرُجُ إلى المُبتلَينَ من الجَذْمى وغيرِهم فيقولُ: أرحَمُ الرَّاحمينَ يفعَلُ هذا؟! يريدُ أنَّه ليس له رحمةٌ! فهؤلاء وأولئك في طرفَينِ مُتقابِلَينِ.
والثَّالثُ: قَولُ الجمهورِ: إنَّ اللهَ عليمٌ حكيمٌ رحيمٌ، قائِمٌ بالقِسطِ، وإنَّه سُبحانَه كتَب على نفسِه الرَّحمةَ، وهو أرحَمُ بعبادِه من الوالِدةِ بولَدِها، كما نطقَت بذلك نصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ، وكما يشهَدُ به الاعتبارُ حِسًّا وعقلًا، وذلك واقِعٌ منه بحِكمتِه ورحمتِه، وبحُكمِ أنَّه كتَب على نفسِه الرَّحمةَ، وحرَّم على نفسِه الظُّلمَ، لا بأنَّ الخَلقَ يُوجِبونَ عليه ويُحرِّمونَ، ولا بأنَّه يُشبِهُ المخلوقَ فيما يجِبُ ويَحرُمُ، بل كُلُّ نِعمةٍ منه فَضلٌ، وكُلُّ نِقمةٍ منه عَدلٌ، وليس لمخلوقٍ عليه حَقٌّ، إلَّا ما أحقَّه هو على نَفسِه المقَدَّسةِ، كقَولِه:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] ، وقَولِه:
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] ، وذلك بحُكمِ وَعدِه وصِدقِه في خَبرِه، وهذا متَّفقٌ عليه بَينَ المُسلِمينَ، وبحُكمِ كتابِه على نفسِه وحِكمتِه ورحمتِه، وهذا فيه تفصيلٌ ونزاعٌ مذكورٌ في غيرِ هذا الموضِعِ.
ثمَّ القَدَريَّةُ القائِلونَ برعايةِ الأصلحِ يقولونَ: إنَّما خلقَهم لتعريضِهم للثَّوابِ، فإذا قيل لهم: فهو كان يعلَمُ أنَّ هذا الذي عرَضه لا ينتَفِعُ ممَّا خلَقه له، بل يفعَلُ ما يَضُرُّه، فكان كمَن يُعطي شخصًا مالًا ليُنفِقَه في سبيلِ اللهِ، وسيفًا ليُقاتِلَ به الكُفَّارَ، وهو يَعلَمُ أنَّه يُنفِقُه في حربِ المُسلِمين وقِتالهم، قالوا: المكَلَّفُ إنَّما أُتيَ من جهةِ نَفسِه، فهو الذي فرَّط بتركِ الطَّاعةِ، أجابهم أهلُ السُّنَّةِ بجوابينِ: أحَدُهما: مبنيٌّ على إثباتِ العِلمِ، والثَّاني: مبنيٌّ على إثباتِ المشيئةِ والقُدرةِ التَّامَّةِ، وأنَّه خالِقُ كُلِّ شَيءٍ.
فقالوا على الأوَّلِ: إذا كان هو يعلَمُ أنَّ مقصودَه بالفِعلِ لم يحصُلْ، لم يكُنْ فِعلُه حِكمةً، وإن كان بتفريطِ غَيرِه.
والثَّاني: أنَّه ما شاء كان، وما لم يشَأْ لم يكُنْ، وهو خالِقُ كُلِّ شيءٍ، وهو يعلَمُ أنَّه لا يشاءُ ويخلُقُ ما به يكونُ ما ذكروه من المطلوبِ، فيمتَنِعُ مع هذا أن يكونَ ما ذكَروه هو المطلوبَ بالخَلقِ)
[901] ((منهاج السنة النبوية)) (6/ 396 - 399). .
وقال
ابنُ القيِّمِ: (اللهُ سُبحانَه حكيمٌ، لا يفعَلُ شيئًا عَبَثًا ولا لغيرِ معنًى ومصلحةٍ وحِكمةٍ هي الغايةُ المقصودةُ بالفعلِ، بل أفعالُه سُبحانَه صادرةٌ عن حِكمةٍ بالغةٍ لأجلِها فَعَل، كما هي ناشئةٌ عن أسبابٍ بها فَعَل، وقد دَلَّ كلامُه وكلامُ رسولِه على هذا وهذا في مواضِعَ لا تكادُ تُحصى، ولا سبيلَ إلى استيعابِ أفرادِها)
[902] ((شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)) (ص: 190) بتصرُّفٍ يسيرٍ. .
وقال
ابنُ القيِّمِ: (الجَبريَّةُ نُفاةُ الحِكمةِ والتَّعليلِ القائلونَ بأنَّه يجوزُ عليه كُلُّ مُمكِنٍ، ولا يُنزَّهُ عن فِعلِ قَبيحٍ، بل كلُّ ممكِنٍ فإنَّه لا يَقبُحُ منه، وإنَّما القبيحُ المستحيلُ لذاتِه، كالجَمعِ بَينَ النَّقيضَينِ؛ فيجوزُ عليه تعذيبُ ملائكتِه وأنبيائِه ورُسُلِه وأهلِ طاعتِه، وإكرامُ
إبليسَ وجنودِه وجَعْلُهم فوقَ أوليائِه في النَّعيمِ المقيمِ أبدًا! ولا سبيلَ لنا إلى العِلمِ باستحالةِ ذلك إلَّا من نفيِ الخُلفِ في خبَرِه فقط، فيجوزُ أن يأمُرَ بمشيئتِه بالسُّجودِ للأصنامِ وبالكَذِبِ والفُجورِ وسَفْكِ ونَهبِ الأموالِ، وينهى عن البِرِّ والصِّدقِ والإحسانِ والعَفافِ، ولا فَرقَ في نَفسِ الأمرِ بَينَ ما أمَر به ونهى عنه إلَّا التحَكُّمُ بمحضِ المشيئةِ، وأنَّه أمَر بهذا ونهى عن هذا من غيرِ أن يكونَ فيما أمَر به صِفةُ حُسنٍ تقتضي محبَّتَه والأمرَ به، ولا فيما نهى عنه صِفةُ قُبحٍ تقتضي كراهَتَه والنَّهيَ عنه! فهؤلاء عطَّلوا حَمْدَه في الحقيقةِ، وأثبتوا له مُلكًا بلا حَمدٍ، مع أنَّهم في الحقيقةِ لم يُثبِتوا له مُلكًا؛ فإنَّهم جعَلوه مُعَطَّلًا في الأزَلِ والأبَدِ، لا يقومُ به فِعلٌ البتَّةَ! وكثيرٌ منهم عطَّله عن صِفاتِ الكَمالِ التي لا يتحقَّقُ كونُه مَلِكًا ورَبًّا وإلهًا إلَّا بها، فلا مُلكًا أثبَتوا، ولا حَمدًا)
[903] ((شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)) (ص: 220) بتصرُّفٍ يسيرٍ. .
وقال
ابنُ القيِّمِ أيضًا: (قَولُه في مُناظرةِ
الأشعَريِّ للجُبَّائيِّ في الإخوةِ الثَّلاثةِ الذين مات أحدُهم صغيرًا، وبلَغ الآخَرُ كافِرًا، والثَّالِثُ مُسلِمًا: إنَّها مناظَرةٌ كافيةٌ في إبطالِ الحِكمةِ والتَّعليلِ ورعايةِ الأصلَحِ، فلعَمْرُ اللهِ إنَّها مُبطِلةٌ لطريقةِ أهلِ البِدَعِ من
المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ الذين يوجِبونَ على ربِّهم مراعاةَ الأصلَحِ لكُلِّ عبدٍ، وهو الأصلَحُ عِندَهم، فيَشرَعونَ له شريعةً بعُقولهم، ويَحجُرونَ عليه ويُحرِّمون عليه أن يخرُجَ عنها، ويُوجِبونَ عليه القيامَ بها، وكذلك كانوا من أحمَقِ النَّاسِ وأعظَمِهم تشبيهًا للخالِقِ بالمخلوقِ في أفعالِه، وأعظَمِهم تعطيلًا عن صفاتِ كَمالِه، فنزَّهوه عن صفاتِ الكمالِ، وشَبَّهوه بخَلقِه في الأفعالِ، وأدخَلوه تحتَ الشَّريعةِ الموضوعةِ بآراءِ الرِّجالِ، وسَمَّوا ذلك عدلًا وتوحيدًا بالزُّورِ والبُهتانِ! وتلك التَّسميةُ ما أنزل اللهُ بها من سُلطانٍ؛ فالعَدلُ قيامُه بالقِسطِ في أفعالِه، والتوحيدُ وإثباتُ صِفاتِ كمالِه،
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فهذا العَدلُ والتوحيدُ الذي جاء به المُرسَلونَ، وذلك التوحيدُ والعَدلُ الذي جاء به المُعَطِّلون، والمقصودُ أنَّ هذه المُناظرةَ وإن أبطَلَت قَولَ هؤلاء وزلزَلَت قواعِدَهم؛ فإنَّها لا تُبطِلُ حِكمةَ اللهِ التي اختَصَّ بها دونَ خَلقِه، وطوى بِساطَ الإحاطةِ بها عنهم، ولم يُطلِعْهم منها إلَّا على ما نِسْبتُه إلى ما خَفِيَ عنهم كقَطرةٍ من بحارِ الدُّنيا، فكم للهِ سُبحانَه من حِكمةٍ في ذلك الذي أخرَمه صغيرًا، وحِكمةٍ في الذي مدَّ له في العُمُرِ حتَّى بلَغ وأسلَم، وحِكمةٍ في الذي أبقاه حتَّى بلَغ وكفَر! ولو كان كُلُّ مَن عَلِم أنَّه إذا بلَغ يَكفُرُ، يخترمُه صغيرًا، لتعطَّل الجِهادُ والعُبوديَّةُ التي يحِبُّها اللهُ ويرضاها، ولم يكُنْ هناك مُعارِضٌ، وكان النَّاسُ أمَّةً واحِدةً، ولم تظهَرْ آياتُه وعجائبُه في الأمَمِ، ووقائعُه وأيَّامُه في أعدائِه، وإقامةُ الحُجَجِ وجِدالُ أهلِ الباطِلِ بما يَدحَضُ شُبهتَهم، وينصُرُ الحَقَّ ويُظهِرُه على الباطِلِ، إلى أضعافِ أضعافِ ذلك من الحِكَمِ التي لا يُحصيها إلَّا اللهُ، واللهُ سُبحانَه يحِبُّ ظُهورَ أسمائِه وصفاتِه في الخليقةِ، فلو اخترَم كلَّ من عَلِم أنَّه يكفُرُ إذا بلَغ، لفات ذلك، وفواتُه مُنافٍ لكمالِ تلك الأسماءِ والصِّفاتِ، واقتِضائِها لآثارِها)
[904] ((شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)) (ص: 267). .
وقال
ابنُ القيِّمِ أيضًا: (ما هي حِكمةُ الله سُبحانَه في إيلامِ الحيواناتِ غيرِ المُكَلَّفةِ؟ هذه مسألةٌ تكَلَّم النَّاسُ فيها قديمًا وحديثًا، وتباينت طُرُقُهم في الجوابِ عنها؛ فالجاحِدونَ للفاعِلِ المختارِ الذي يفعَلُ بمشيئتِه وقُدرتِه يُحيلونَ ذلك على الطَّبيعةِ المجَرَّدةِ، وأنَّ ذلك من لوازمِها ومُقتَضياتها، ليس بفِعلِ فاعِلٍ، ولا قُدرةِ قادِرٍ، ولا إرادةِ مُريدٍ! ومُنكِرو الحِكمةِ والتَّعليلِ يَردُّونَ ذلك إلى محضِ المشيئةِ وصَرفِ الإرادةِ، تخصَّص مثلًا على مثلٍ بلا مُوجِبٍ ولا غايةٍ ولا حِكمةٍ مطلوبةٍ، ولا سَبَبٍ أصلًا، وظنُّوا أنهم بذلك يتخلَّصون من السُّؤالِ، ويَسدُّون على نفوسِهم بابَ المطالبةِ، وإنَّما سدُّوا على نفوسِهم بابَ معرفةِ الرَّبِّ وكمالِه، وكمالِ أسمائِه وأوصافِه وأفعالِه، فعطَّلوا حِكمَتَه وحقيقةَ إلهيَّتِه وحمْدَه، وكانوا كالمُستجيرينَ من الرَّمضاءِ بالنَّارِ! وأمَّا من أثبت حِكمةً وتعليلًا لا يعودانِ إلى الخالِقِ، بل إلى المخلوقِ، سلَكوا طريقةَ التَّعويضِ على تلك الآلامِ في حَقِّ من يُبعَثُ للثَّوابِ والعقابِ، وقالوا: قد يكونُ في ذلك إثابةٌ لإثابتِهم بصبرِهم وتألُّمِهم وإثابةٌ لهم وتعويضٌ في القيامةِ بما نالهم من تلك الآلامِ، وأمَّا المُثبِتون لحقائِقِ أسماءِ الرَّبِّ وصفاتِه وحِكمتِه التي هي وَصفُه، ولأجلِها تَسمَّى بالحكيمِ، وعنها صدَر خَلقُه وأمرُه؛ فهم أعلَمُ الفِرَقِ بهذا الشَّأنِ، ومَسلَكُهم فيه أصَحُّ المسالِكِ وأسلَمُ من التَّناقُضِ والاضطرابِ، فإنَّهم جمعوا بَينَ إثباتِ القُدرةِ والمشيئةِ العامَّةِ والحِكمةِ الشَّاملةِ التي هي غايةُ الفِعلِ، وربطوا ذلك بالأسماءِ والصِّفاتِ، فتصادَقَ عندهم السَّمعُ والعَقلُ والشَّرعُ والفِطرةُ، وعَلِموا أنَّ ذلك مقتضى الحِكمةِ البالغةِ، وأنَّه من لوازمِها، وأنَّ لازمَ الحَقِّ حقٌّ، ولازِمَ العَدلِ عَدلٌ، ولوازِمَ الحِكمةِ من الحِكمةِ، فاعلَمْ أنَّ هاهنا أمرينِ: نفسًا مُتحرِّكةٌ بالإرادةِ والاختيارِ، وطبيعةً مُتحرِّكةً بغيرِ الاختيارِ والإرادةِ، وأنَّ الشَّرَّ مَنشؤُه من هذينِ المُتحرِّكينِ، وعن هاتينِ الحَركتينِ، وخُلِقَت هذه النَّفسُ وهذه الطَّبيعةُ على هذا الوَجهِ، فهذه تتحَرَّكُ لكمالها، وهذه تتحَرَّكُ لكمالها، وينشأُ عن الحركتينِ خيرٌ وشَرٌّ، كما ينشأُ عن حركةِ الأفلاكِ والشَّمسِ والقَمَرِ وحركةِ الرِّياحِ والماءِ والنَّارِ خيرٌ وشَرٌّ؛ فالخيراتُ الناشئةُ عن هذه الحركاتِ مقصودةٌ بالقَصدِ الأوَّلِ؛ إمَّا لذاتِها، وإمَّا لكونِها وسيلةً إلى خيراتٍ أتمَّ منها، والشُّرورُ النَّاشئةُ عنها غيرُ مقصودةٍ بالذَّاتِ، وإن قُصِدَت قَصدَ الوسائِلِ واللَّوازمِ التي لا بُدَّ منها، فما جُبِلت عليه النَّفسُ من الحركةِ هو من لوازمِ ذاتِها، فلا تكونُ النَّفسُ البَشَريَّةُ نفسًا إلَّا بهذا اللازمِ، فإذا قيل: لمَ خُلِقَت مُتحرِّكةً على الدَّوامِ؟ فهو بمنزلةِ أن يقالَ: لمَ كانت النَّفسُ نفسًا؟ ولمَ كانت النَّارُ نارًا والرِّيحُ ريحًا؟ فلو لم يَخلُقْ هذا ما كانت نفسًا، ولو لم تُخلَقِ الطَّبيعةُ هكذا ما كانت طبيعةً، ولو لم يُخلَقِ الإنسانُ على هذه الصِّفةِ والخِلقةِ ما كان إنسانًا، فإن قيلَ: فلمَ خُلِقَت النَّفسُ على هذه الصِّفةِ؟ قيل: من كمالِ الوُجودِ خلْقُها على هذه الصِّفةِ، وكذلك كمالُ فاطِرِها ومُبدِعِها اقتضى خَلْقَها على هذه الصِّفةِ؛ لِما في ذلك من الحِكَمِ التي لا يحصيها إلَّا مُبدِعُها سُبحانَه، وإن كان في إيجادِ هذه النَّفسِ شَرًّا فهو شرٌّ جُزئيٌّ بالنِّسبةِ إلى الخيرِ الكُلِّيِّ الذي هو سَبَبُ إيجادِها، فوجودُها خيرٌ من أن لا تُوجَدَ، فلو لم يَخلُقْ مِثلَ هذه النَّفسِ لكان في الوجودِ نَقصٌ وفواتُ حِكَمٍ ومصالحَ عظيمةٍ موقوفةٍ على خَلقِ مِثلِ هذه النَّفسِ؛ ولهذا لَمَّا اعترَضَت الملائكةُ على خَلقِ الإنسانِ، وقالوا:
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة: 30] أجابهم سُبحانَه بأنَّ في خَلقِه من الحِكَمِ والمصالحِ ما لا تعلَمُه الملائكةُ، والخالِقُ سُبحانَه يعلَمُه، وإذا كانت الملائكةُ لا تعلَمُ ما في خَلقِ هذا الإنسانِ الذي يُفسِدُ في الأرضِ ويسفِكُ الدِّماءَ من الحِكَمِ والمصالحِ، فغَيرُهم أَولى ألَّا يحيطَ به عِلمًا، فخَلقُ هذا الإنسانِ من تمامِ الحِكمةِ والرَّحمةِ والمصلحةِ، وإن كان وُجودُه مُستَلزِمًا لشَرٍّ فهو شَرٌّ مغمورٌ بما في إيجادِه من الخيرِ، كإنزالِ المطَرِ والثلَّجِ، وهُبوبِ الرِّياحِ، وطُلوعِ الشَّمسِ، وخَلقِ الحَيوانِ والنَّباتِ والجِبالِ والبِحارِ، وهذا كما أنَّه في خَلقِه فهو في شَرعِه ودينِه وأمرِه، فإنَّ ما أَمَر به من الأعمالِ الصَّالحةِ خَيرُه ومصلحتُه راجِحٌ، وإن كان فيه شَرٌّ فهو مغمورٌ جِدًّا بالنِّسبةِ إلى خيرِه، وما نهى عنه من الأعمالِ والأقوالِ القبيحةِ فشَرُّه ومفسدتُه راجِحٌ، والخيرُ الذي فيه مغمورٌ جِدًّا بالنِّسبةِ إلى شَرِّه، فسُنَّتُه سُبحانَه في خَلقِه وأمرِه فِعلُ الخيرِ الخالصِ والرَّاجِحِ، والأمرُ بالخيرِ الخالِصِ والرَّاجِحِ، فإذا تناقضَت أسبابُ الخيرِ والشَّرِّ -والجَمعُ بَينَ النَّقيضَينِ مُحالٌ- قَدَّم أسبابَ الخيرِ الرَّاجِحةَ على المرجوحةِ، ولم يكُنْ تفويتُ المرجوحةِ شَرًّا، ودَفَع أسبابَ الشَّرِّ الرَّاجِحةَ بالأسبابِ المرجوحةِ، ولم يكُنْ حُصولُ المرجوحةِ شَرًّا بالنِّسبةِ إلى ما اندفَعَ بها من الشَّرِّ الرَّاجِحِ، وكذلك سُنَّتُه في شَرعِه وأمرِه، فهو يُقَدِّمُ الخيرَ الرَّاجِحَ وإن كان في ضِمنِه شَرٌّ مرجوحٌ، ويُعَطِّلُ الشَّرَّ الرَّاجِحَ وإن فات بتعطيلِه خَيرٌ مرجوحٌ، هذه سُنَّتُه فيما يُحدِثُه ويُبدِعُه في سمَواتِه وأرضِه، وما يأمُرُ به وينهى عنه، وكذلك سُنَّتُه في الآخِرةِ، وهو سُبحانَه قد أحسن كُلَّ شَيءٍ خَلَقه، وقد أتقَنَ كُلَّ ما صنَع، وهذا أمرٌ يَعلَمُه العالِمون باللهِ جملةً، ويتفاوتونَ في العِلمِ بتفاصيلِه، وإذا عُرف ذلك فالآلامُ والمشاقُّ إمَّا إحسانٌ ورحمةٌ، وإمَّا عَدلٌ وحِكمةٌ، وإمَّا إصلاحٌ وتهيئةٌ لخيرٍ يحصُلُ بَعدَها، وإمَّا لدفعِ ألمٍ هو أصعَبُ منها، وإمَّا لتولُّدِها عن لذَّاتٍ ونِعَمٍ يُوَلِّدُها عنها أمرٌ لازمٌ لتلك اللَّذَّاتِ، وإمَّا أن يكونَ من لوازِمِ العَدلِ أو لوازمِ الفَضلِ والإحسانِ، فيكونُ من لوازمِ الخيرِ التي إن عُطِّلَت مَلزوماتُها فات بتعطيِلها خيرٌ أعظمُ من مَفسَدةِ تلك الآلامِ، والشَّرعُ والقَدَرُ أعدلا شاهدٍ بذلك، فكم في طلوعِ الشَّمسِ من ألمٍ لمسافرٍ وحاضرٍ! وكم في نُزولِ الغَيثِ والثُّلوجِ من أذًى! وكم في هذا الحَرِّ والبردِ والرِّياحِ من أذًى مُوجِبٍ لأنواعٍ مِن الآلامِ لصُنوفٍ مِن الحيواناتِ! وأعظَمُ لذَّاتِ الدُّنيا لذَّةُ الأكلِ والشُّربِ والنِّكاحِ واللِّباسِ والرِّياسةِ، ومُعظَمُ آلامِ أهلِ الأرضِ أو كُلُّها ناشئةٌ عنها، ومُتولِّدةٌ منها، بل الكَمالاتُ الإنسانيَّةُ لا تُنالُ إلَّا بالآلامِ والمشاقِّ، كالعِلمِ والشَّجاعةِ والزُّهدِ والعِفَّةِ والحِلمِ والمروءةِ والصَّبرِ والإحسانِ، وإذا كانت الآلامُ أسبابًا للَّذَّاتِ أعظَمَ منها وأدوَمَ منها، كان العَقلُ يقضي باحتمالِها، وكثيرًا ما تكونُ الآلامُ أسبابًا لصِحَّةٍ لولا تلك الآلامُ لفاتت، وهذا شأنُ أكبرِ أمراضِ الأبدانِ، فهذه الحُمَّى فيها من المنافِعِ للأبدانِ ما لا يعلَمُه إلَّا اللهُ، وفيها مِن إذابةِ الفَضَلاتِ وإنضاجِ الموادِّ الفَجَّةِ وإخراجِها ما لا يَصِلُ إليه دواءٌ غيرُها، وكثيرٌ من الأمراضِ إذا عَرَض لصاحبِها الحُمَّى استبشر بها الطَّبيبُ، وأمَّا انتِفاعُ القَلبِ والرُّوحِ بالآلامِ والأمراضِ فأمرٌ لا يُحِسُّ به إلَّا مَن فيه حياةٌ؛ فصِحَّةُ القلوبِ والأرواحِ موقوفةٌ على آلامِ الأبدانِ ومَشاقِّها، وقد أُحصِيَت فوائِدُ الأمراضِ فزادت على مائةِ فائدةٍ، وقد حجَب اللهُ سُبحانَه أعظَمَ اللَّذَّاتِ بأنواعِ المكارهِ، وجعَلَها جِسرًا مُوصِلًا إليها، كما حجَب أعظمَ الآلامِ بالشَّهَواتِ واللَّذَّاتِ، وجعَلَها جِسرًا مُوصِلًا إليها؛ ولهذا أجمعَت العُقَلاءُ قاطبةً على أنَّ النَّعيمَ لا يُدرَكُ بالنَّعيمِ، وأنَّ الرَّاحةَ لا تُنالُ بالرَّاحةِ، وأنَّ مَن آثَر اللَّذَّاتِ فاتَته اللَّذَّاتُ، فهذه الآلامُ والأمراضُ والمشاقُّ من أعظَمِ النِّعَمِ؛ إذ هي أسبابُ النِّعَمِ، وما تنالُ الحيواناتُ غيرُ المُكَلَّفةِ منها فمغمورٌ جِدًّا بالنِّسبةِ إلى مصالحِها ومنافِعِها، كما ينالُها من حَرِّ الصَّيفِ، وبَردِ الشِّتاءِ، وحَبسِ المطَرِ والثَّلجِ، وألمِ الحَملِ والولادةِ، والسَّعيِ في طَلَبِ أقواتِها، وغيرِ ذلك، ولكِنَّ لذَّاتِها أضعافُ أضعافِ آلامِها، وما ينالها من المنافِعِ والخيراتِ أضعافُ ما ينالُها من الشُّرورِ والآلامِ، فسُنَّةُ اللهِ في خَلقِه وأمرِه هي التي أوجبَها كمالُ عِلمِه وحِكمتِه وعِزَّتِه، ولو اجتمَعت عُقولُ العُقَلاءِ كُلِّهم على أن يقترحوا أحسَنَ منها لعجَزوا عن ذلك، وقيل لكُلٍّ منهم: ارجِعْ بَصَرَ العَقلِ، فهل ترى مِن خَللٍ؟
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك: 4] ، فتبارَك الذي من كمالِ حِكمتِه وقُدرتِه أن أخرج الأضدادَ من أضدادِها، والأشياءَ من خلافِها، فأخرج الحَيَّ من الميِّتِ، والميَّتَ من الحَيِّ، والرَّطْبَ من اليابِسِ، واليابِسَ من الرَّطبِ، فكذلك أنشأَ اللَّذَّاتِ من الآلامِ، والآلامَ من اللَّذَّاتِ، فأعظمُ اللَّذَّاتِ ثمراتُ الآلامِ ونتائجُها، وأعظَمُ الآلامِ ثمَراتُ اللَّذَّاتِ ونتائجُها، وبَعدُ فاللَّذَّةُ والسُّرورُ والخيرُ والنِّعَمُ والعافيةُ والمصلحةُ والرَّحمةُ في هذه الدَّارِ المملوءةِ بالمحَنِ والبلاءِ، وأكثَرُ من أضدادِها بأضعافٍ مُضاعَفةٍ، فأين آلامُ الحيوانِ من لذَّتِه؟ وأين سَقَمُه من صِحَّتِه؟ وأين جوعُه وعَطَشُه من شِبَعِه ورِيِّه؟ وتَعَبُه من راحتِه؟ قال تعالى:
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5-6] ، ولن يَغلِبَ عُسرٌ يُسرَينِ، وهذا لأنَّ الرَّحمةَ غلبَت الغَضَبَ، والعَفوَ سَبَق العُقوبةَ، والنِّعمةَ تقدَّمت المحنةَ، والخيرَ في الصِّفاتِ والأفعالِ، والشَّرَّ في المفعولاتِ لا في الأفعالِ، فأوصافُه كُلُّها كمالٌ، وأفعالُه كُلُّها خيراتٌ، فإنْ ألِمَ الحيوانُ لم يَعدَمْ بألمِه عافيةً من ألمٍ هو أشَدُّ من ذلك الألمِ، أو تهيئةً لقُوَّةٍ وصِحَّةٍ وكمالٍ، أو عِوَضًا لا نِسبةَ لذلك الألمِ إليه بوجهٍ ما؛ فآلامُ الدُّنيا جميعُها نِسبتُها إلى لذَّاتِ الآخرةِ وخيراتِها أقلُّ من نسبةِ ذَرَّةٍ إلى جبالِ الدُّنيا بكثيرٍ، وكذلك لذَّاتُ الدُّنيا جميعُها بالنِّسبةِ إلى آلامِ الآخرةِ، واللهُ سُبحانَه لم يخلُقِ الآلامَ واللَّذَّاتِ سُدًى، ولم يُقَدِّرْهما عَبَثًا، ومن كَمالِ قُدرتِه وحِكمتِه أنْ جعَل كُلَّ واحدٍ منهما يُثمِرُ الأخرى، هذا ولوازِمُ الخِلقةِ يستحيلُ ارتفاعُها كما يستحيلُ ارتفاعُ الفَقرِ والحاجةِ والنَّقصِ عن المخلوقِ، فلا يكونُ المخلوقُ إلَّا فقيرًا محتاجًا ناقِصَ العِلمِ والقُدرةِ، فلو كان الإنسانُ وغيرُه من الحيوانِ لا يجوعُ ولا يعطَشُ ولا يتألَّمُ في عالمِ الكونِ والفسادِ لم يكُنْ حيوانًا، ولكانت هذه الدَّارُ دارَ بقاءٍ ولذَّةٍ مُطلَقةٍ كاملةٍ، واللهُ لم يجعَلْها كذلك، وإنَّما جعَلها دارًا ممتزِجًا ألمُها بلذَّتِها، وسرورُها بأحزانِها، وغُمومُها وصِحَّتُها بسَقَمِها؛ حِكمةً منه بالغةً)
[905] ((شفاء العليل)) (ص: 248 - 251) باختصارٍ وتصرُّفٍ. .