الفصلُ الأوَّلُ: النُّصوصُ التي جمَعَت بَينَ الأمرِ بالجماعةِ والنَّهيِ عن الفُرقةِ
قد وردَت عِدَّةُ نُصوصٍ تأمُرُ بالجماعةِ، وتنهى عن الفُرقةِ في موضِعٍ واحِدٍ، معَ أنَّ الأمرَ بالجماعةِ يستلزِمُ النَّهيَ عن الفُرقةِ، والنَّهيَ عن الفُرقةِ يستلزِمُ الأمرَ بالجماعةِ، وهذا يُؤكِّدُ وُجوبَ الأمرِ بالجماعةِ، وتركِ الفُرقةِ، والنَّهيِ عنها.
ومِن هذه النُّصوصِ قولُ اللهِ تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يُريدُ بذلك تعالى ذِكرُه: وتمسَّكوا بدينِ اللهِ الذي أمرَكم به وعَهدِه الذي عَهِدَه إليكم في كتابِه؛ مِن الأُلفةِ والاجتِماعِ على كلمةِ الحقِّ، والتَّسليمِ لأمرِ اللهِ)
[68] ((تفسير ابن جرير)) (4/ 21). .
وقال ابنُ عطيَّةَ: (المعنى: كونوا في اعتِصامِكم مُجتمِعينَ،
وَلَا تَفَرَّقُوا يُريدُ: التَّفرُّقَ الذي لا يتأتَّى معَه الائتِلافُ على الجهادِ وحمايةِ الدِّينِ وكلمةِ اللهِ تعالى، وهذا هو
الافتِراقُ بالفِتَنِ و
الافتِراقُ في العقائِدِ، وأمَّا
الافتِراقُ في مسائِلِ الفُروعِ والفِقهِ فليس يدخُلُ في هذه الآيةِ)
[69] ((تفسير ابن عطية)) (1/ 484). .
وقال
القُرطُبيُّ: (إنَّ اللهَ يأمرُ بالأُلفةِ، وينهى عن الفُرقةِ؛ فإنَّ الفُرقةَ هَلَكةٌ، والجماعةَ نجاةٌ)
[70] ((تفسير القرطبي)) (4/ 102). .
ويجِبُ أن يعلَمَ المُؤمِنُ أنَّ الاجتِماعَ على الحقِّ، والبُعدَ عن الفُرقةِ: ممَّا أمرَنا اللهُ به، ورضِيه لنا؛ ففي الحديثِ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ اللهَ يرضى لكم ثلاثًا، ويكرَهُ لكم ثلاثًا؛ فيرضى لكم أن تعبُدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأن تعتَصِموا بحَبلِ اللهِ جميعًا ولا تَفرَّقوا، ويكرَهُ لكم ثلاثًا: قيلَ وقالَ، وكثرةَ السُّؤالِ، وإضاعةَ المالِ )) [71] أخرجه مسلم (1715) من حديث أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال
النَّوَويُّ: (أمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ولا تَفَرَّقوا)) فهو أمرٌ بلُزومِ جَماعةِ المُسلِمينَ، وتَألُّفِ بَعضِهم ببَعضٍ، وهذه إحدى قواعِدِ الإسلامِ)
[72] ((شرح مسلم)) (12/11). .
ولكن لا يكونُ الاجتِماعُ لمُجرَّدِ الاجتِماعِ، بل اجتِماعٌ على كلمةِ الحقِّ، والتَّسليمِ لأمرِ اللهِ، والاجتِماعُ على طاعةِ اللهِ وطاعةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والعَملِ بنُصوصِ الشَّريعةِ كُلِّها.
وفي هذا ردٌّ على كُلِّ مُطالِبٍ باجتِماعِ الأمَّةِ لمجرَّدِ الاجتِماعِ، معَ السُّكوتِ عن باطِلِ المُخالِفِ مِن أهلِ الأهواءِ، وتركِ الإنكارِ عليهم في بِدعتِهم.
قال
القُرطُبيُّ: (أوجَب اللهُ تعالى علينا التَّمسُّكَ بكتابِه وسنَّةِ نبيِّه، والرُّجوعَ إليهما عندَ الاختِلافِ، وأمَرنا بالاجتِماعِ على الاعتِصامِ بالكتابِ والسُّنَّةِ اعتِقادًا وعَملًا؛ وذلك سببُ اتِّفاقِ الكلمةِ وانتِظامِ الشَّتاتِ الذي يتِمُّ به مصالِحُ الدُّنيا والدِّينِ، والسَّلامةِ مِن الاختِلافِ)
[73] ((تفسير القرطبي)) (4/ 105). ويُنظر: ((الرسالة)) للشافعي (ص: 475). .
وقال اللهُ تعالى:
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] .
قال
عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: (أمَر اللهُ المُؤمِنينَ بالجماعةِ، ونهاهم عن الاختِلافِ والفُرقةِ، وأخبَرهم أنَّما هلَك مَن كان قَبلَهم بالمِراءِ والخُصوماتِ في دينِ اللهِ)
[74] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (13392)، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (3945) واللَّفظُ له، والآجري في ((الشريعة)) (1/271). .
وقال
ابنُ جَريرٍ: (هذا الذي وصَّاكم به ربُّكم أيُّها النَّاسُ، وأمَركم بالوفاءِ به: هو صِراطُه -يعني: طريقَه ودينَه الذي ارتضاه لعبادِه- مُستقيمًا قويمًا لا اعوِجاجَ به عن الحقِّ، فاعمَلوا به، واجعَلوه لأنفُسِكم مِنهاجًا تسلكونَه، ولا تسلُكوا طريقًا سِواه، ولا تركَبوا مَنهَجًا غَيرَه، ولا تتَّبِعوا دينًا خلافَه مِن اليهوديَّةِ والنَّصرانيَّةِ والمجوسيَّةِ وغَيرِ ذلك مِن المِلَلِ؛ فإنَّها بِدَعٌ وضلالاتٌ)
[75] ((تفسير ابن جرير)) (8/ 64) باختصارٍ. .
إنَّ وَحدةَ الاجتِماعِ والائتِلافِ لا تتحقَّقُ إلَّا بوَحدةِ المُعتقَدِ، ووَحدةِ المَنهَجِ؛ عندَها يتحقَّقُ للأمَّةِ الاجتِماعُ على الحقِّ، والسَّيرُ على الصِّراطِ المُستقيمِ الذي وصَّاهم ربُّهم به، والفُرقةُ تقعُ في الأمَّةِ حينَما تتعدَّدُ المناهِجُ، وتتعدَّدُ الطُّرقُ، وقد بيَّن اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ طريقَ الحقِّ واحِدٌ، وأنَّ السَّبيلَ إلى الاجتِماعِ واحِدٌ؛ وهو السَّيرُ على الصِّراطِ المُستقيمِ، أمَّا إن أبَوا ذلك فإنَّ السُّبُلَ ستتخطَّفُهم، ويتشعَّبونَ في الضَّلالاتِ والبِدَعِ، كما هو واقِعُ المُسلِمينَ اليومَ.
قال
ابنُ كثيرٍ في قولِ اللهِ تعالى:
فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام: 153] : (إنَّما وحَّد سبيلَه؛ لأنَّ الحقَّ واحِدٌ، ولهذا جمَع السُّبُلَ؛ لتفرُّقِها وتشعُّبِها)
[76] ((تفسير ابن كثير)) (2/ 182). .
وعن
عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه قال:
((خطَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خطًّا بيدِه، ثُمَّ قال: هذا سبيلُ اللهِ مُستقيمًا، ثُمَّ خطَّ عن يمينِه وشِمالِه، ثُمَّ قال: هذه السُّبلُ ليس منها سبيلٌ إلَّا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثُمَّ قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِيَ مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام: 153] )) [77] أخرجه أحمد (4437) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11175)، وابن حبان (7). صحَّحه ابنُ حبان، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (4/281)، والألباني في ((شرح الطحاوية)) (525)، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (848). .
وعن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ الأنصاريِّ رضِي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ضرَب اللهُ مَثلًا صِراطًا مُستقيمًا، وعلى جَنَبَتَيِ الصِّراطِ سورانِ بَينَهما أبوابٌ مُفتَّحةٌ، وعلى الأبوابِ سُتورٌ مُرْخاةٌ، وعلى بابِ الصِّراطِ داعٍ يقولُ: يا أيُّها النَّاسُ، ادخُلوا الصِّراطَ جميعًا، ولا تَعُوجوا، وداعٍ يدعو مِن فوقِ الصِّراطِ، فإذا أراد الإنسانُ أن يفتَحَ شيئًا مِن تلك الأبوابِ قال: وَيحَك لا تفتَحْه؛ فإنَّك إن تفتَحْه تلِجْه. فالصِّراطُ: الإسلامُ، والسُّورانِ: حُدودُ اللهِ، والأبوابُ المُفتَّحةُ: محارِمُ اللهِ، وذلك الدَّاعي على رأسِ الصِّراطِ: كتابُ اللهِ تعالى، والدَّاعي مِن فوقِ الصِّراطِ: واعِظُ اللهِ في قلبِ كُلِّ مُسلِمٍ )) [78] أخرجه من طُرُقٍ: الترمذي (2859)، وأحمد (17634) واللَّفظُ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2859)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17634)، وصحَّح إسنادَه ابنُ كثير في ((التفسير)) (1/43)، وجوَّده ابنُ تيمية في ((جامع الرسائل)) (2/97). .
وعن عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((عليكم بالجماعةِ، وإيَّاكم والفُرقةَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحِدِ، وهو مِن الاثنَينِ أبعَدُ، مَن أراد بُحْبوحةَ الجنَّةِ فليلزَمِ الجماعةَ )) [79] أخرجه مطوَّلًا الترمذي (2165) واللَّفظُ له، وأحمد (114). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (7254)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/26)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2165). .
قال المُظْهِريُّ: (بُحْبوحةُ كُلِّ شيءٍ: وسَطُه وخِيارُه، قولُه:
((فإنَّ الشَّيطانَ معَ الفَذِّ)) أي: معَ الفردِ، أي: الذي معَ رأيِه دونَ رأيِ الجَماعةِ)
[80] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (6/288). .
وعن زيدِ بنِ ثابِتٍ رضِي اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ثلاثُ خِصالٍ لا يَغِلُّ عليهنَّ قَلبُ مُسلِمٍ أبدًا: إخلاصُ العَملِ للهِ، ومُناصَحةُ وُلاةِ الأمرِ، ولُزومُ الجماعةِ؛ فإنَّ دعوتَهم تُحيطُ مِن ورائِهم )) [81] أخرجه مطولًا ابن ماجه (230) باختلاف يسير، وأحمد (21590) واللَّفظُ له. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (67)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (230)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (358). .
قال ابنُ المَلِكِ الرُّوميُّ: («ثَلاثٌ» أي: ثَلاثُ خِصالٍ. «لا يَغِلُّ» بفَتحِ الياءِ وكَسرِ الغَينِ: وهو الحِقدُ. «عليهِنَّ قَلبُ مُسلِمٍ» أي: لا يكونُ ذا حِقدٍ على هذه الخِصالِ، ويُروى بضمِّ الياءِ من: الإغلالِ، وهو الخيانةُ أي: لا يَخونُ قلبُ مُسلِمٍ في هذه الخِصالِ، والنَّفيُ هنا بمعنى النَّهيِ... «ولُزومُ جَماعتِهم»: بألَّا يُخالِفَ في الاعتِقادِ، وفيما عليه إجماعُ المُسلِمينَ؛ «فإنَّ دَعوَتَهم» أي: دعوةَ الجَماعةِ، «تُحيطُ» أي: تدورُ «مِن ورائِهم» فيَحرُسُهم، ويَحفَظُهم عن كيدِ
الشَّيطانِ وإغوائِه، وفيه: تَنبيهٌ على أنَّ مَن خرَج مِن جماعتِهم لم تنَلْه بركةُ دُعائِهم؛ لأنَّه خارِجٌ عمَّا أحاط بهم)
[82] ((شرح المصابيح)) (1/211). .
وعن الحارِثِ الأشعَريِّ رضِي اللهُ عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((آمُرُكم بخَمسٍ اللهُ أمرني بهنَّ: السَّمعِ، والطَّاعةِ، والجِهادِ، والهِجرةِ، والجماعةِ؛ فإنَّه مَن فارَق الجماعةَ قِيدَ شِبرٍ فقد خلَع رِبقةَ الإسلامِ مِن عُنقِه؛ إلَّا أن يرجِعَ )) [83] أخرجه مطولًا الترمذي (2863) واللَّفظُ له، وأحمد (17170). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6233)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1/582)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (8/6). .
قال المُظهِريُّ: (قولُه: «بالجَماعةِ»؛ أي: باتِّباعِ إجماع المُسلِمينَ في الاعتِقادِ والقولِ والفِعلِ. قولُه: «والسَّمعِ»، أي: بسماعِ كلمةِ الحقِّ من الأميرِ أو المُفتي أو غَيرِهما.
قولُه: «والطَّاعةِ»، أي: بطاعةِ الأميرِ، قولُه: «والهِجرةِ»، أي: بالهجرةِ من مَكَّةَ إلى المدينةِ قَبلَ فتحِ مكَّةَ، وبالهِجرةِ مِن الكُفرِ إلى الإيمانِ، ومِن المَعصيةِ إلى التَّوبةِ، «قِيدَ شِبرٍ»، أي: قَدرَ شِبرٍ. «فقد خلَع»، أي: نزَع)
[84] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (4/302). .
وقال الطِّيبيُّ: (قولُه: «بالجماعةِ» المُرادُ بهم الصَّحابةُ ومَن بَعدَهم مِن التَّابِعينَ وتابِعيِ التَّابِعينَ مِن سَلفِ الصَّحابةِ، أي: آمُرُكم بالتَّمسُّكِ بهَديِهم والانخِراطِ في زُمرتِهم)
[85] ((شرح المشكاة)) (8/2574). .
وقال
عليٌّ القارِيُّ: (المعنى: مَن فارَق ما عليه الجَماعةُ بتَركِ السُّنَّةِ واتِّباعِ
البِدعةِ ونَزعِ اليَدِ عن الطَّاعةِ، ولو كان بشيءٍ يسيرٍ يُقدَّرُ في الشَّاهِدِ بقَدرِ شِبرٍ، «فقد خلَع رِبقةَ الإسلامِ» أي: نقَض عَهدَه وذِمَّتَه «من عُنقِه»، وانحَرَف عن الجَماعةِ، وخرَج عن المُوافَقةِ)
[86] ((مرقاة المفاتيح)) (6/2406). .
وعن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رضِي اللهُ عنه قال:
((كان النَّاسُ يسألونَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الخيرِ، وكنْتُ أسألُه عن الشَّرِّ مخافةَ أن يُدرِكَني، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّا كنَّا في جاهليَّةٍ وشرٍّ، فجاءنا اللهُ بهذا الخيرِ، فهل بَعدَ هذا الخيرِ مِن شرٍّ؟ قال: نعَم، قلْتُ: وهل بَعدَ ذلك الشَّرِّ مِن خيرٍ؟ قال: نعَم، وفيه دَخَنٌ [87] المرادُ بالدَّخَنِ: الدُّخَانُ، ويشيرُ إلى كَدَرِ الحالِ، وقيل: الدَّخَنُ كُلُّ أمرٍ مكروهٍ، وفي معنى الدَّخَنِ قيل: هو الحِقدُ، وقيل: الدَّغَلُ، ويشيرُ إلى أنَّ الخيَر الذي يجيءُ بَعدَ الشَّرِّ لا يكونُ خيرًا خالصًا، بل فيه كَدَرٌ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 36). ، قلْتُ: وما دَخَنُه؟ قال: قومٌ يهدونَ بغَيرِ هَدْيي، تعرِفُ منهم وتُنكِرُ، قلْتُ: فهل بَعدَ ذلك الخيرِ مِن شرٍّ؟ قال نعَم، دُعاةٌ على أبوابِ جهنَّمَ، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها، قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، صِفْهم لنا، قال: هم مِن جِلْدتِنا، ويتكلَّمونَ بألسِنتِنا. فما تأمُرُني إن أدرَكني ذلك؟ قال تلزَمُ جماعةَ المُسلِمينَ وإمامَهم، قلْتُ: فإن لم يكنْ لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟ قال: فاعتزِلْ تلك الفِرَقَ كُلَّها، ولو أن تَعَضَّ بأصلِ شجرةٍ حتَّى يُدرِكَك الموتُ وأنت على ذلك )) [88] أخرجه البخاري (3606) واللَّفظُ له، ومسلم (1847). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (فيه حُجَّةٌ لجماعةِ الفُقَهاءِ في وُجوبِ لُزومِ جماعةِ المُسلِمينَ)
[89] ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 33). .