الفصلُ الثَّالثُ: التَّأكيدُ على أسبابِ الاجتِماعِ وبيانُ طُرقِ تأليفِ قُلوبِ المُسلِمينَ
إنَّ الأمرَ بالجماعةِ والنَّهيَ عن الفُرقةِ أصلٌ مِن أصولِ الإسلامِ العظيمةِ، وقاعِدةٌ مِن قواعِدِ الدِّينِ.
قال اللهُ تعالى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال: 1] .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (هذا الأصلُ العظيمُ، وهو الاعتِصامُ بحبلِ اللهِ جميعًا، وألَّا يتفرَّقَ: هو مِن أعظَمِ أصولِ الإسلامِ، وممَّا عظُمَت وصيَّةُ اللهِ تعالى به في كتابِه، وممَّا عَظُم ذمُّه لمَن ترَكه مِن أهلِ الكتابِ وغَيرِهم، وممَّا عظُمَت به وصيَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مواطِنَ عامَّةٍ وخاصَّةٍ)
[94] ((مجموع الفتاوى)) (22/ 211). ويُنظر: ((الاستقامة)) له (1/ 24). .
والنَّاظِرُ في أركانِ الإسلامِ الخمسةِ يجِدُ أنَّ هذا الأصلَ قد تجلَّى بوُضوحٍ في هذه الأركانِ؛ فالرُّكنُ الأوَّلُ: شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وشهادةُ أنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فعقيدةُ التَّوحيدِ هي أعظَمُ ما يجمَعُ المُسلِمينَ في مشارِقِ الأرضِ ومغارِبِها، وبوَحدةِ المُعتقَدِ تتحقَّقُ وَحدةُ الجماعةِ.
أمَّا الرُّكنُ الثَّاني -وهو إقامةُ الصَّلواتِ الخمسِ المفروضةِ- فهي أنموذَجٌ للوَحدةِ بَينَ المُسلِمينَ في اتِّحادِهم في أوقاتِها، وعددِها، وأركانِها، وشُروطِها، وكيفيَّتِها.
وفي أداءِ الصَّلاةِ جماعةً في المسجِدِ سببٌ عظيمٌ لتأليفِ القُلوبِ واتِّحادِ الجماعةِ باتِّحادِ الأبدانِ في أداءِ فِعلٍ واحِدٍ في مكانٍ واحِدٍ خلفَ إمامٍ واحِدٍ، وجاء الأمرُ بتسويةِ صُفوفِ الصَّلاةِ وإتمامِها الأوَّلَ فالأوَّلَ، وبيانُ أنَّ اختِلافَ الصُّفوفِ في الصَّلاةِ سببٌ لاختِلافِ القُلوبِ؛ فعن أبي مسعودٍ رضِي اللهُ عنه: أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((استَووا، ولا تختلِفوا فتختلِفَ قُلوبُكم )) [95] أخرجه مسلم (432) مطولًا. .
وعن النُّعمانِ بنِ بشيرٍ رضِي اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لتُسَوُّنَّ صُفوفَكم، أو ليُخالِفَنَّ اللهُ بَينَ وُجوهِكم )) [96] أخرجه البخاري (717)، ومسلم (436). .
وقد عاب اللهُ سبحانَه على الذين اتَّخذوا مسجِدًا ضِرارًا في عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد كان مِن مَقصَدِهم التَّفريقُ بَينَ جماعةِ المُسلِمينَ، فقال اللهُ عنهم:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة: 107] .
قال القُرطُبيُّ: (قولُه:
وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، أي: يُفرِّقونَ به جماعتَهم ليتخلَّفَ أقوامٌ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا يدُلُّك على أنَّ المَقصَدَ الأكبَرَ والغَرضَ الأظهَرَ مِن وَضعِ الجماعةِ تأليفُ القُلوبِ والكلمةِ على الطَّاعةِ، وعَقدُ الذِّمامِ والحُرمةِ بفِعلِ الدِّيانةِ حتَّى يقعَ الأنسُ بالمُخالَطةِ، وتصفوَ القُلوبُ مِن وَضَرِ الأحقادِ)
[97] ((تفسير القرطبي)) (8/ 163). .
وهذا التَّكاتُفُ والتَّآلُفُ يتَّضِحُ أيضًا في الرُّكنِ الثَّالثِ مِن أركانِ الإسلامِ، وهو الزَّكاةُ التي تُزكِّي نُفوسَ أبناءِ المُجتمَعِ المُسلِمِ قَبلَ أن تُزكِّيَ أموالَهم، فهي تُزكِّيهم غنيَّهم وفقيرَهم، تُطهِّرُ نُفوسَ الأغنياءِ مِن الجَشَعِ والبُخلِ والشُّحِّ، فيبذُلونَ مِن أموالِهم للفُقَراءِ حقًّا مشروعًا لهم، وتُطهِّرُ نُفوسَ الفُقَراءِ مِن الحِقدِ والحسَدِ الذي قد يُصيبُ بعضَ النُّفوسِ المحرومةِ حينَما ترى غَيرَها مِن الأغنياءِ في نِعمةٍ ورخاءٍ، وبذلك يحِبُّ المُسلِمونَ بعضُهم بعضًا، ويتعاوَنونَ على البِرِّ والتَّقوى.
أمَّا الرُّكنُ الرَّابعُ مِن أركانِ الإسلامِ فهو الصَّومُ في شهرِ رَمضانَ؛ ففي شهرٍ واحِدٍ يصومُ المُسلِمونَ في مشارِقِ الأرضِ ومغارِبِها مِن النَّهارِ إلى اللَّيلِ، ثُمَّ في آخِرِ الصِّيامِ يُؤدُّونَ زكاةَ الفِطرِ غنيُّهم وفقيرُهم، ويشترِكُ الجميعُ في أداءِ صلاةِ العيدِ، ويفرَحونَ بفَضلِ اللهِ ونِعمتِه عليهم بإتمامِ صومِ شَهرِهم.
والرُّكنُ الخامسُ: الحجُّ إلى البيتِ الحرامِ؛ قال اللهُ تعالى:
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 27 - 29] ، فيتوحَّدُ جميعُ الحُجَّاجِ في وَحدةِ لباسِ الإحرامِ، وفي القولِ بالتَّلبيةِ، وفي البيتِ الحرامِ والمشاعِرِ المُقدَّسةِ التي حَولَه، والطَّوافِ بالبَيتِ، والتَّنقُّلِ في مشاعِرِ الحجِّ، ووَحدةِ بَذلِ المالِ والعطاءِ مِن تقديمِ الهَديِ، وهُم في ذلك كلِّه مُوحِّدونَ للهِ عزَّ وجلَّ، مُخلِصونَ له العَملَ، مُتَّجِهونَ إليه، لا يقصِدونَ أحدًا سِواه سبحانَه، وغَيرُ الحُجَّاجِ يُشارِكونَهم في العيدِ في نَفسِ اليومِ، ويذبَحونَ الأضاحيَّ تقرُّبًا للهِ سبحانَه في نَفسِ الأيَّامِ التي يذبَحُ فيها الحُجَّاجُ الهَديَ.
فمِن أعظَمِ مقاصِدِ الإسلامِ جَمعُ المُسلِمينَ على إقامةِ الدِّينِ؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحيْنَا إِليْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أن اعمَلوا به على ما شرَع لكم وفرَض...، وقَولُه:
وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، يقولُ: ولا تختَلِفوا في الدِّينِ الذي أُمِرْتُم بالقيامِ به، كما اختَلَف الأحزابُ مِن قَبلِكم)
[98] ((تفسير ابن جرير)) (20/481). .
وقال
البَغَويُّ: (بعَث اللهُ الأنبياءَ كُلَّهم بإقامةِ الدِّين والأُلفةِ والجماعةِ، وتَركِ الفُرقةِ والمُخالَفةِ)
[99] ((تفسير البغوي)) (4/141). .
وقال
ابنُ كَثيرٍ: (وصَّى اللهُ سبحانَه وتعالى جميعَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بالائتِلافِ والجماعةِ، ونهاهم عن
الافتِراقِ والاختِلافِ)
[100] ((تفسير ابن كثير)) (7/195). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (لمَّا أمرَهم سبحانَه بإقامةِ الدِّينِ نهاهم عن الاختِلافِ فيه، فقال
وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي: لا تختَلِفوا في التَّوحيدِ والإيمانِ باللهِ، وطاعةِ رُسُلِه، وقَبولِ شرائِعِه؛ فإنَّ هذه الأمورَ قد تطابَقَت عليها الشَّرائِعُ، وتوافَقَت فيها الأديانُ، فلا ينبَغي الخلافُ في مِثلِها، وليس مِن هذا فُروعُ المسائِلِ التي تختلِفُ فيها الأدِلَّةُ، وتتعارَضُ فيها الأماراتُ، وتتبايَنُ فيها الأفهامُ؛ فإنَّها مِن مطارِحِ الاجتِهادِ، ومواطِنِ الخلافِ)
[101] ((تفسير الشوكاني)) (4/607). .
وقال
السَّعديُّ: (
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي: أمَركم أن تُقيموا جميعَ شرائِعِ الدِّينِ أصولِه وفُروعِه، تُقيمونَه بأنفُسِكم، وتجتهِدونَ في إقامتِه على غَيرِكم، وتَعاوَنونَ على البِرِّ والتَّقوى، ولا تَعاوَنونَ على الإثمِ والعُدوانِ،
وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، أي: ليَحصُلْ منكُم الاتِّفاقُ على أصولِ الدِّينِ وفُروعِه، واحرِصوا على ألَّا تُفَرِّقَكم المَسائِلُ، وتُحَزِّبَكم أحزابًا، وتكونونَ شِيَعًا يُعادي بعضُكم بعضًا، معَ اتِّفاقِكم على أصلِ دينِكم)
[102] ((تفسير السعدي)) (ص: 754). .
وقال اللهُ تعالى:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (أي: يتناصَرونَ ويتعاضَدونَ، كما جاء في الصَّحيحِ:
((المُؤمِنُ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ يشُدُّ بعضُه بعضًا )) وشبَّك بَينَ أصابِعِه
[103] أخرجه البخاري (2446) واللَّفظُ له، ومسلم (2585) من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وفي الصَّحيحِ أيضًا:
((مَثلُ المُؤمِنينَ في توادِّهم وتراحُمِهم كمَثلِ الجسدِ الواحِدِ إذا اشتكى منه عُضوٌ تداعى له سائِرُ الجَسدِ بالحُمَّى والسَّهرِ )) [104] أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظ مسلمٍ: ((مَثَلُ المؤمِنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم مَثَلُ الجسَدِ، إذا اشتكى منه عُضوٌ تداعى له سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى)). [105] ((تفسير ابن كثير)) (2/ 353). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (قولُه:
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ أي: قلوبُهم مُتَّحِدةٌ في التَّوادُدِ والتَّحابُبِ والتَّعاطُفِ؛ بسببِ ما جمعَهم مِن أمرِ الدِّينِ وضمَّهم مِن الإيمانِ)
[106] ((تفسير الشوكاني)) (2/ 381). ويُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/ 105). .
وبهذا يتحقَّقُّ اتِّحادُ الأمَّةِ على الحقِّ، ويكونُ المُسلِمونَ يدًا واحِدةً، يتعاوَنونَ على البِرِّ والتَّقوى.
قال
عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: (أحِبَّ في اللهِ، وأبغِضْ في اللهِ، ووالِ في اللهِ، وعادِ في اللهِ؛ فإنَّما تنالُ ما عندَ اللهِ بذلك، ولن يجِدَ عبدٌ حلاوةَ الإيمانِ وإن كثُرَت صلاتُه وصيامُه حتَّى يكونَ كذلك، وقد صارَت مُؤاخاةُ النَّاسِ اليومَ أو عامَّتِهم في الدُّنيا، وذلك لا يُجزِئُ عن أهلِه شيئًا)
[107] أخرجه محمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (396) واللَّفظُ له، والعدني في ((الإيمان)) (65). .
ويُؤكِّدُ اللهُ على الأُخوَّةِ الإيمانيَّةِ بَينَ المُؤمِنينَ، فيقولُ سبحانَه:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10] .
قال
السَّعديُّ: (هذا عَقدٌ عقَده اللهُ بَينَ المُؤمِنينَ؛ أنَّه إذا وُجِد مِن أيِّ شخصٍ كان في مشرِقِ الأرضِ ومغرِبِها الإيمانُ باللهِ وملائِكتِه وكُتبِه ورُسلِه واليومِ الآخِرِ، فإنَّه أخٌ للمُؤمِنينَ أُخوَّةً توجِبُ أن يحِبَّ له المُؤمنونَ ما يُحِبُّونَ لأنفُسِهم، ويكرَهوا له ما يكرَهونَ لأنفُسِهم)
[108] ((تفسير السعدي)) (7/ 133ـ 134) باختصارٍ يسيرٍ. .
وينهى اللهُ عن كُلِّ ما يُسبِّبُ البَغضاءَ والفُرقةَ بَينَ المُسلِمينَ، فيقولُ سبحانَه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 11-12] .
وعن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحديثِ، ولا تَحسَّسوا، ولا تَجسَّسوا، ولا تَناجَشوا، ولا تَحاسَدوا، ولا تَباغَضوا، ولا تَدابَروا، وكونوا عِبادَ اللهِ إخوانًا )) [109] أخرجه البخاري (6066) واللَّفظُ له، ومسلم (2563). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: («وكونوا عِبادَ اللهِ إخوانًا» هذه الجملةُ تُشبِهُ التَّعليلَ لِما تقدَّم؛ كأنَّه قال: إذا تركْتُم هذه المنهيَّاتِ كنْتُم إخوانًا، ومفهومُه: إذا لم تترُكوها تصيرون أعداءً، ومعنى: كونوا إخوانًا: اكتسِبوا ما تصيرونَ به إخوانًا ممَّا سبَق ذِكرُه، وغَيرِ ذلك مِن الأمورِ المُقتضِيةِ لذلك إثباتًا ونَفيًا، وقولُه: عبادَ اللهِ: أي: يا عِبادَ اللهِ، بحَذفِ حرفِ النِّداءِ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّكم عبيدُ اللهِ، فحقُّكم أن تتواخَوا بذلك، قال القُرطُبيُّ: المعنى: كونوا كإخوانِ النَّسَبِ في الشَّفقةِ والرَّحمةِ والمحبَّةِ والمُواساةِ والمُعاوَنةِ والنَّصيحةِ)
[110] ((فتح الباري)) (10/ 483). .
ومِن حِرصِ الإسلامِ على الجماعةِ وعلى الأُخوَّةِ الإيمانيَّةِ، وإغلاقِه لبابِ الفُرقةِ، وسدِّه لسُبُلِها؛ أنَّه أمَر بالانتِسابِ إلى الأسماءِ المشروعةِ، ونهى عن الانتِسابِ إلى غَيرِها، أو رفْعِ شِعاراتٍ تدعو إلى العَصبيَّةِ والحَميَّةِ التي مِن شأنِها أن تُفرِّقَ بَينَ المُسلِمينَ، فتحُلَّ هذه الانتِماءاتُ والولاءاتُ مكانَ الأخوَّةِ الإيمانيَّةِ العامَّةِ الشَّامِلةِ لكُلِّ مُؤمِنٍ في مشارِقِ الأرضِ ومغارِبِها.
فعن الحارِثِ الأشعَريِّ رضِي اللهُ عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((... آمُرُكم بخَمسٍ اللهُ أمَرني بهنَّ: السَّمعِ، والطَّاعةِ، والجهادِ، والهِجرةِ، والجماعةِ؛ فإنَّه مَن فارَق الجماعةَ قِيدَ شبرٍ فقد خلَع رِبقةَ الإسلامِ مِن عُنقِه؛ إلَّا أن يرجِعَ، ومَن ادَّعى دعوى الجاهليَّةِ فهو مِن جُثَى جهنَّمَ، فقال رجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، وإن صلَّى وصام؟ قال: وإن صلَّى وصام، فادْعُوا بدعوى اللهِ الذي سمَّاكم المُسلِمينَ، المُؤمِنينَ، عِبادَ اللهِ )) [111] أخرجه الترمذي (2863) واللَّفظُ له، وأحمد (17170). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6233)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1/582)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (8/6). .
وعن
جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رضِي اللهُ عنهما قال:
((كنَّا في غَزاةٍ، فكَسَع رجُلٌ مِن المُهاجِرينَ رجُلًا مِن الأنصارِ، فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ! وقال المُهاجِريُّ: يا لَلمُهاجِرينَ! فسمِع ذاك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ما بالُ دعوى جاهليَّةٍ؟! قالوا: يا رسولَ اللهِ، كسَع رجُلٌ مِن المُهاجِرينَ رجُلًا مِن الأنصارِ، فقال: دعوها؛ فإنَّها مُنتِنةٌ )) [112] أخرجه البخاري (4905) واللَّفظُ له، ومسلم (2584). .
قال القُرطُبيُّ: («دعوها؛ فإنَّها مُنتِنةٌ»، أي: مُستخبَثةٌ، قبيحةٌ؛ لأنَّها تُثيرُ التَّعصُّبَ على غَيرِ الحقِّ، والتَّقاتُلَ على الباطِلِ، ثُمَّ إنَّها تجُرُّ إلى النَّارِ، كما قال: مَن دعا بدعوى الجاهليَّةِ فليس منَّا، وليتبوَّأْ مَقعَدَه مِن النَّارِ، وقد أبدَل اللهُ مِن دعوى الجاهليَّةِ دعوى المُسلِمينَ، فيُنادى: يا لَلمُسلِمينَ!)
[113] ((المفهم)) (6/ 560). .
فعدَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه الانتِماءاتِ وهذه الدَّعاوى مِن أمورِ الجاهليَّةِ، ووصَفها بالقُبحِ والخُبثِ، معَ أنَّ الصَّحابةَ رضِي اللهُ عنهم انتسَبوا إلى أعمالٍ صالِحةٍ، ومفاخِرَ عظيمةٍ في دينِ اللهِ، مِن الهجرةِ والنُّصرةِ، ومعَ ذلك لمَّا كانت للعصبيَّةِ والفُرقةِ سمَّاها عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دعوى جاهليَّةٍ.
التَّسمياتُ والانتِماءاتُ ثلاثةُ أقسامٍ: 1ـ ما هو حَسنٌ محمودٌ: وهو الانتِسابُ إلى اسمٍ شرعيٍّ جاء في الكتابِ أو في السُّنَّةِ، كالمُسلِمينَ والمُؤمِنينَ وعِبادِ اللهِ، وكأن ينتسِبَ الرَّجلُ إلى عمَلٍ مشروعٍ كنِسبةِ الرَّجلِ إلى أهلِ السُّنَّةِ؛ فهذه تسمياتٌ وانتِماءاتٌ محمودةٌ جاء الشَّرعُ بها، ومدَح أهلَها.
2ـ ما هو مُباحٌ: كالانتِسابِ إلى قبيلةٍ أو جِهةٍ لقَصدِ التَّعريفِ فقط، كما قال اللهُ تعالى:
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات: 13] .
3ـ ما هو مُحرَّمٌ: كالانتِسابِ إلى الطُّرقِ الصُّوفيَّةِ أو الفِرَقِ الكلاميَّةِ أو الطَّوائِفِ البِدعيَّةِ.
ويَلحَقُ به: إذا كان الانتِسابُ إلى اسمٍ شرعيٍّ محمودٍ، أو إلى اسمٍ مُباحٍ، لكن قُصِد به الحَميَّةُ والعَصبيَّةُ، أو أفضى إلى الفُرقةِ والخلافِ؛ فهذا مذمومٌ منهيٌّ عنه
[114] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/ 241). .