المسألةُ الأُولى: الاستثناءُ في الإيمانِ، وهو قولُ الرَّجُلِ: أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ
فجوَّزه
الأشْعَريَّةُ، ومنعه
الماتُريديَّةُ.
وقد جعل
السُّبكيُّ وأبو عَذبةَ هذا الخلافَ لفظيًّا، بمعنى أنَّ هذا القائِلَ إن أراد حُسنَ الخاتمةِ والتَّفاؤُلَ والتَّبرُّكَ، فيجوز له الاستثناءُ، وإن كان للشَّكِّ فلا يجوزُ
[696] يُنظر: ((طبقات الشافعية)) (3/ 383)، ((الروضة البهية)) (ص: 6-8). .
والظَّاهِرُ أنَّ الخلافَ هنا معنويٌّ؛ لأنَّ الاستثناءَ في الإيمانِ لأجلِ الشَّكِّ غيرُ جائزٍ بالاتِّفاقِ، فهذا ليس محلًّا للخلافِ، وإنما الخلافُ بَينَ الفريقينِ هو الاستثناءُ لإحالةِ الأمورِ إلى مشيئةِ اللهِ تعالى أو لقَصدِ حُسنِ الخاتمةِ، أو للتأدُّبِ أو للتبرُّكِ، أو للتبَرَّؤ عن التَّزكيةِ
[697] يُنظر: ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص: 130)، ((النبراس)) للفريهاري (ص: 419- 420)، ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 2-5). .
وقد صرَّح
ابنُ الهُمَامِ بأنَّه لا خلافَ في عدَمِ جوازِ الاستثناءِ في الإيمانِ لأجْلِ الشَّكِّ في ثبوتِه؛ فإنَّه كُفْرٌ، وأمَّا إذا لم يكُنْ للشَّكِّ، فمنعه الأكثرون منهم
أبو حنيفةَ وأصحابُه، وإنَّما يقالُ: أنا مؤمِنٌ حَقًّا؛ لأنَّ تَرْكَ الاستثناءِ أبعَدُ عن التُّهمةِ، فكان تَركُه واجبًا، وأجازه
الشَّافعيُّ وأصحابُه
[698] يُنظر: ((المسامرة)) للمقدسي (ص: 381- 385)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/46)، ((السواد الأعظم)) (ص: 2-5). .
فحقُّ هذه المسألةِ أن تُذكَرَ فيما في قِسمِ الخلافِ المعنويِّ بَينَ
الماتُريديَّةِ و
الأشاعرةِ؛ فإنَّ
أبا منصورٍ الماتُريديَّ و
الماتُريديَّةَ يمنعونَ الاستثناءَ في الإيمانِ، ويتشبَّثون بأنَّ الاستثناءَ يَفسَخُ العقودَ ويمنَعُ مُضِيَّها
[699] يُنظر: ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 388- 392)، ((تأويلات أهل السنة)) للماتريدي (1/ 310)، ((البداية)) للصابوني (ص: 155)، ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص: 208 - 212)، ((نظم الفرائد)) لزاده (ص: 48 - 49). .
فما زعمه
السُّبكيُّ من أنَّ
أبا منصورٍ الماتُريديَّ يجوِّزُ الاستثناءَ في الإيمانِ، ك
الأشاعرةِ [700] يُنظر: ((طبقات الشافعية)) (3/384). ، غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ نُصوصَ الماتُريديِّ و
الماتُريديَّةِ صريحةٌ في المنعِ، وقد تهوَّر بعضُ
الماتُريديَّةِ، فكَفَّروا من يَستثني في الإيمانِ.
قال الفريهاريُّ: (قد بالغ بعضُ الحَنَفيَّةِ في المنعِ حتَّى قال الفضليُّ: لا يجوزُ نِكاحُ المرأةِ الشَّافعيَّةِ؛ لأنَّهم كفَروا بالاستثناءِ! وهذه جرأةٌ عظيمةٌ، وتعصُّبٌ لا يرضاه الحقُّ سُبحانَه)
[701] ((الفتاوى البزازية)) على هامش ((الفتاوى الهندية)) (4/112)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/46) (3/103). .
وقرَّر السَّفكردريُّ وبعضُ أئمَّةِ خوارزمَ أنَّه لا يجوزُ للحَنَفيِّ أن يزوِّجَ بِنتَه من رجُلٍ شافعيِّ المَذهَبِ، ولكِنْ يتزوَّجُ من الشَّافعيَّةِ؛ تنزيلًا لهم منزلةَ أهلِ الكتابِ، بحُجَّةِ أنَّ الشَّافعيَّةَ يَرَونَ جوازَ الاستثناءِ في الإيمانِ، وهو كُفرٌ
[702] يُنظر: ((الفتاوى البزازية)) على هامش ((الفتاوى الهندية)) (4/112)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/46 ، 3/103). !!
وبالنِّسبةِ لادِّعاءِ
ابنِ الهُمَامِ أنَّ الأكثَرَ لا يَرَونَ الاستثناءَ، فقد ردَّ هذه الدَّعوى ابنُ أبي شريفٍ فقال: (إنَّ القولَ بالاستثناءِ قَولُ أكثَرِ السَّلَفِ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ، ومن بَعْدَهم، والشَّافعيَّةِ والمالكيَّةِ والحنابلةِ، والكُلَّابيَّةِ و
الأشْعَريَّةِ)
[703] ((النبراس)) للفريهاري (ص: 420). .
وممَّا سبق يتبيَّن أنَّ
الماتُريديَّةَ لا يرونَ الاستثناءَ في الإيمانِ، و
الأشْعَريَّةُ يرونَه، لكِنْ مَذهَبُ
الماتُريديَّةِ أوفَقُ بأصلِهم، وهو أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ، وأنَّه لا يزيدُ ولا ينقُصُ، وإن كان أصلُهم وفرعُهم كلاهما باطِلٌ مخالِفٌ لمَذهَبِ السَّلَفِ.
أمَّا
الأشْعَريَّةُ فقد وقعوا في تناقُضٍ واضحٍ؛ حيثُ نَصَروا مَذهَبَ السَّلَفِ في الاستثناءِ، مع مناصرتِهم لمَذهَبِ
الجَهْميَّةِ في الإيمانِ
[704] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 419). .
والحقُّ في هذا البابِ الاستثناءُ في الإيمانِ لأجْلِ أنَّ الإيمانَ يتضمَّنُ فِعلَ الواجباتِ، فلا يشهَدُ الرَّجُلُ لنَفْسِه بذلك، كما لا يشهَدُ لها بالبِرِّ والتَّقوى؛ فإنَّ ذلك لا يعلَمُه، بل هو تزكيةٌ للنَّفسِ بلا عِلمٍ.
وهذا هو مَذهَبُ السَّلَفِ أصحابِ الحديثِ، ك
ابنِ مَسعودٍ وأصحابِه، و
الثَّوريِّ، و
ابنِ عُيَينةَ، وأكثَرِ عُلَماءِ الكُوفةِ، ويحيى بنِ سعيدٍ القَطَّانِ فيما يَرويه عن عُلَماءِ البَصرةِ، و
أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ، وغَيرِه من أئمَّةِ السُّنَّةِ، فكُلُّهم كانوا يستثنون في الإيمانِ، وهذا متواتِرٌ عنهم
[705] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 115، 410، 416). .