المسألةُ الخامسةُ: هل المشيئةُ والإرادةُ تَستلزِمانِ الرِّضا والمحبَّةَ أو لا؟
ذهب جمهورُ
الأشْعَريَّةِ إلى أنَّ الإرادةَ والرِّضا متَّحِدانِ؛ فالله تعالى كما يريدُ الكُفرَ يُحبُّه
[729] يُنظر: ((طبقات الشافعية)) لتاج الدين السبكي (3/384-385 )، ((المسامرة)) للمقدسي (ص: 138)، ((نظم الفرائد)) لزاده (ص: 9)، ((الإرشاد)) للجويني (ص: 212)، ((الروضة البهية)) لأبي عذبة (ص: 18). ، وذهبت
الماتُريديَّةُ إلى أنَّ الإرادةَ لا تستلزِمُ الرِّضا والمحبَّةَ
[730] يُنظر: ((الوصية)) لأبي حنيفة مع شرحها ((الجوهرة المنيفة)) (ص: 7-8)، ((شرح الفقه الأكبر)) للملا علي القاري (ص: 83-84)، ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 286-287)، ((أصول الدين)) للبَزْدَوي (ص: 245)، ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص: 85)، ((المسايرة)) لابن الهمام (ص: 136-137)، ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 55)، ((نظم الفرائد)) لزاده (ص: 9-10). .
واختلف النَّقلُ عن
أبي حنيفةَ؛ فالمنصوصُ في كتُبِه التي نُسِبَت إليه: أنَّ الإرادةَ لا تستلزِمُ الرِّضا، فالمعاصي والكُفرُ مرادُ اللهِ تعالى مع عَدَمِ رِضا اللهِ تعالى بذلك
[731] يُنظر: ((الفقه الأبسط)) مع شرحه لأبي الليث السمرقَنْدي (ص: 53)، ((شرح الوصية)) للملا حسين (ص: 7-8)، ((شرح الفقه الأكبر)) لعلي القاري (ص: 83-84). .
ونُسِب إليه أنَّ الإرادةَ والرِّضا متَّحِدان
[732] يُنظر: ((المسامرة)) للمقدسي (ص: 139)، ((طبقات الشافعية)) للسبكي (3/384-385). ، وقيل: إنَّ هذا القولَ مكذوبٌ عليه
[733] يُنظر: ((طبقات الشافعية)) للسبكي (3/384-385)، ((الروضة البهية)) لأبي عذبة (ص: 17). .
واختار كثيرٌ من
الأشْعَريَّةِ مَذهَبَ
الماتُريديَّةِ في هذه المسألةِ
[734] يُنظر: ((طبقات الشافعية)) للسبكي (3 /385)، ((المسامرة)) للمقدسي (ص: 138)، ((جوهرة التوحيد وشرحها تحفة المريد للباجوري)) (ص: 63، 67)، ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 55). .
وقد نقل بعضُ
الأشْعَريَّةِ عن
أبي الحسَنِ الأشْعَريِّ أنَّه يفَرِّقُ بَينَ الإرادةِ والرِّضا
[735] يُنظر: ((طبقات الشافعية)) للسبكي (3/385)، ((الروضة البهية)) لأبي عذبة (ص: 17). .
ونَسَب إليه بعضُ
الماتُريديَّةِ أنَّه قال: إنَّ اللهَ تعالى يرضى الكُفرَ والمعاصيَ ويحِبُّهما، وأنَّ المحبَّةَ بمعنى الإرادةِ
[736] يُنظر: ((أصول الدين)) للبَزْدَوي (ص: 345)، ((نظم الفرائد)) لزاده (ص: 9)، ويُنظر: ((مجرد مقالات الأشعرى)) لابن فورك (ص: 45، 73). .
ولم نجِدِ
الأشْعَريَّ يصرِّحْ بذلك في كتُبِه، لكنَّه قال: (الإرادةُ سائِرُ المُحدَثاتِ)
[737] ((لمع الأدلة)) (ص: 47-59)، وصرَّح ابن تيمية بأن أشهر قولَيِ الأشعريِّ، وقول أكثر أصحابه أنَّ الإرادةَ والمحبَّةَ شيءٌ واحد. يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تيمية (1/266). .
ولا شكَّ أنَّ مَذهَبَ
الأشْعَريَّةِ ظاهِرُ البُطلانِ، والصَّوابُ التَّفريقُ بَينَ الإرادةِ والرِّضا، وأنَّ الإرادةَ نوعانِ: إرادةٌ كونيَّةٌ، وإرادةٌ شرعيَّةٌ؛ فالإرادةُ الكونيَّةُ لا بُدَّ من وقوعِها، ولا تستلزِمُ الرِّضا، والإرادةُ الشَّرعيَّةُ تَستلزِمُ الرِّضا، لكِنَّها قد تقع وقد لا تقَعُ، و
الأشْعَريَّةُ في عدَمِ تفريقِهم بَينَ الإرادةِ والرِّضا تابعوا
المُعتزِلةَ [738] يُنظر: ((طوالع الأنوار)) للبيضاوي مع شرحه ((مطالع الأنظار)) للأصبهاني (ص: 193)، ((المسايرة)) لابن الهمام (ص: 134، 136). .
فقولُ
الماتُريديَّةِ هو الحقُّ الموافِقُ لقَولِ السَّلَفِ في التَّفريقِ بَينَ الإرادةِ وبَينَ الرِّضا، وحاصِلُه: أنَّ الإرادةَ نوعانِ: إرادةٌ كونيَّةٌ خَلْقيَّةٌ، وإرادةٌ أمْريَّةٌ شَرعيَّةٌ، فالإرادةُ الشَّرعيَّةُ: هي المتضَمِّنةُ للمَحَبَّةِ والرِّضا، والإرادةُ الكونيَّةُ هي الشَّامِلةُ لجميعِ الموجوداتِ
[739] يُنظر: ((منهج السنة)) لابن تيمية (1/266-267)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 116-117، 505-506). .
فالنِّسبةُ بَينَ الإرادةِ الكونيَّةِ وبَينَ الرِّضا على مَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ نسبةُ عُمومٍ وخُصوصٍ من وجهٍ، يقتضي مادَّةً للاجتماعِ، ومادَّتينِ للافتراقِ.
فمادَّةُ الاجتماعِ، كإسلامِ
أبي بكرٍ رَضِيَ الله عنه، فهو مرادٌ كَونًا؛ لأنَّه قد وقع، ومَرْضِيٌّ عِندَ اللهِ؛ لأنَّه من الشَّرعِ.
أمَّا مادَّةُ وُجودِ الإرادةِ الكونيَّةِ دونَ الرِّضا، فككُفرِ أبي جهلٍ؛ فهو غيرُ خارجٍ عن مشيئةِ اللهِ الكونيَّةِ، دونَ رضاه تعالى؛ فاللهُ لا يرضى لعبادِه الكُفرَ.
وأمَّا مادَّةُ وُجودِ الرِّضا دونَ الإرادةِ الكونيَّةِ: كإسلامِ أبي جهلٍ، فهو مرادٌ شرعًا، وهو ممَّا يرضى اللهُ تعالى به لو أسلَمَ، ولكِنَّه غيرُ مُرادٍ كَونًا؛ لأنَّه لم يقَعْ.
والنِّسبةُ بَينَ الإرادةِ الشَّرعيَّةِ وبَينَ الرِّضا نسبةُ المساواةِ، فكُلُّ مرادٍ لله شرعًا مَرْضيٌّ عِندَ الله تعالى، وبالعَكسِ
[740] يُنظر: ((شرح الواسطية)) لهراس (ص: 46-47). .
ومن أوضَحِ الحُجَجِ على الفَرقِ بَينَ الإرادةِ الكونيَّةِ وبَينَ الرِّضا والمحبَّةِ: قولُه تعالى:
إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7] .
وقولُه تعالى:
قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف: 28-29] .
فهذا وأمثالُه في الرِّضا والإرادةِ الشَّرعيَّةِ والأمرِ.
وأمَّا في الإرادةِ الكونيَّةِ فكَقولِه تعالى:
وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [الإنسان :30] .
وقولِ المُسلِمين في جميعِ الأعصارِ والأمصارِ قَبلَ ظُهورِ البِدَعِ: (ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأْ لم يكُنْ)، حتى باعترافِ
الأشْعَريَّةِ
[741] يُنظر: ((الإرشاد)) للجويني (ص: 214)، ((المواقف)) للإيجي (ص: 321). .
لكنَّ
الأشْعَريَّةَ يحرِّفون جميعَ تلك النُّصوصِ الدَّالَّةِ على أنَّ اللهَ تعالى لا يرضى الكُفرَ والمعاصيَ
[742] يُنظر: ((التمهيد)) للبلاقي (ص: 284)، ((الإرشاد)) للجويني (ص: 220). .
وبهذا العَرضِ يتبيَّنُ أنَّ الخِلافَ بَينَ
الماتُريديَّةِ و
الأشْعَريَّةِ في هذه المسألةِ خِلافٌ مَعنويٌّ لا لفظيٌّ كما زعم
التَّاجُ السُّبكيُّ وأبو عَذبةَ
[743] يُنظر: ((طبقات الشافعي)) (3/384، 385)، ((الروضة البهية)) (ص: 17). .
وممَّا يبطِلُ مَذهَبَ
الأشْعَريَّةِ في اتحادِ الإرادةِ والرِّضا أنَّه يلزَمُهم القولُ بتخَلُّفِ وقوعِ مرادِ اللهِ تعالى؛ إذ كثيرٌ ممَّا يحبُّه اللهُ تعالى ويرضاه لم يقَعْ
[744] يُنظر: ((شرح الواسطية)) لهراس (ص: 46). .