المسألةُ السَّابعةُ: في كَسْبِ العبدِ
قال أبو عَذبةَ: (تحقيقُه عِندَ
الأشْعَريِّ صَعبٌ دقيقٌ... لأنَّ أصحابَ
الأشْعَريِّ فسَّروا الكَسْبَ بأنَّ العبدَ إذا صمَّم عزمَه فالله تعالى يخلُقُ الفِعلَ عنده، والعَزمُ أيضًا فِعلٌ يكونُ واقعًا بقُدرةِ اللهِ تعالى، فلا يكونُ للعبدِ في الفِعلِ مَدخَلٌ على سبيلِ التَّأثيرِ، وإن كان له مدخَلٌ على سبيلِ الكَسْبِ؛ فالحقُّ أنَّ الكَسْبَ عِندَ
الأشاعرةِ هو تعلُّقُ القُدرةِ الحادثةِ في المقدورِ في محلِّها من غيرِ تأثيرٍ، وهو الذي يُعَوَّلُ عليه في تفسيرِه، ولا يَصِحُّ غيرُه)
[755] ((الروضة البهية)) (ص: 26). .
وهذا الكلامُ صريحٌ في نفيِ تأثيرِ قُدرةِ العبدِ، فيكونُ العبدُ مجبورًا.
والكَسْبُ عِندَ
الماتُريديَّةِ: (هو صَرفُ القُدرةِ إلى أحَدِ المقدورينِ)
[756] ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 217)، ((الروضة البهية)) لأبي عذبة (ص: 26)، ((المواقف)) للإيجي (ص: 311)، ((شرح المواقف)) للجرجاني (8/145-146). يعني: الطَّاعةَ أو المعصيةَ.
وهذا التَّعريفُ -على اختصارِه- صريحٌ في إثباتِ القُدرةِ للعبدِ على الفِعلِ.
وتوضيحُه فيما ذكره التَّفْتازانيُّ: (أنَّ صَرفَ العَبدِ قُدرتَه وإرادتَه إلى الفعلِ كَسبٌ، وإيجادُ اللهِ تعالى الفِعلَ عَقِبَ ذلك خَلقٌ، والمقدورُ الواحِدُ داخِلٌ تحتَ قُدرتَينِ، لكِنْ بجهَتَينِ مختلِفَتَينِ، فالفِعلُ مقدورُ اللهِ تعالى بجهةِ الإيجادِ، ومقدورُ العبدِ بِجهةِ الكَسْبِ)
[757] ((شرح العقائد النسفية)) (ص: 83). ويُنظر: ((النبراس)) للفريهاري (ص: 276). .
ولابنِ الهُمَامِ تعبيرٌ آخَرُ حاصِلُه: أنَّ الكَسْبَ عِندَ الحَنَفيَّةِ عَزمُ المكَلَّفِ عَزمًا مُصَمَّمًا، وتوجُّهُه توجُّهًا صادقًا للفِعلِ طالبًا إيَّاه، وهذا العزمُ هو محلُّ قُدرةِ العبدِ، فإذا فعل ذلك خَلَق اللهُ له الفِعلَ عَقِبَه، فيكونُ الفعلُ منسوبًا إليه تعالى من حيثُ هو حركةٌ، ومخلوقٌ للهِ، ومنسوبًا إلى العبدِ من حيثُ كونُه طاعةً أو معصيةً
[758] يُنظر: ((المسامرة)) للمقدسي (ص: 119-122). .
وهذا التَّعريفُ -كما ترى- فيه شيءٌ من كَسبِ
الأشْعَريِّ، غيرَ أنَّه لم يَنْفِ تأثيرَ قُدرةِ العبدِ، وهذا موافِقٌ لمَذهَبِ الباقِلَّانيِّ
[759] يُنظر: ((المواقف)) للإيجي (ص: 312)، ((المسامرة)) للمقدسي (ص: 122). ، لكِنْ قالت
الماتُريديَّةُ: إنَّ الباقِلَّانيَّ اختار مَذهَبَ الحَنَفيَّةِ
[760] يُنظر: ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 55)، ((نظم الفرائد)) لزاده (ص: 53). .
ويصَرِّحُ
الماتُريديَّةُ بأنَّ للعبدِ فِعلًا حقيقةً لا مجازًا
[761] يُنظر: ((شرح الفقه الأبسط)) لأبي الليث السمرقَنْدي (ص: 12). .
ويقولون: إنَّ أفعالَ العبدِ نوعانِ: نوعٌ لا قَصدَ ولا اختيارَ له فيه، كحركةِ المرتَعِشِ، ونوعٌ له فيه قصدٌ واختيارٌ وقُدرةٌ، فهذا النَّوعُ أفعالٌ للعبدِ على سبيلِ الحقيقةِ، وهي باختيارِه
[762] يُنظر: ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص: 81-82، 85، 88 – 89). .
ويقولون أيضًا: إنَّ الاستطاعةَ نوعانِ: نوعٌ هو حقيقةُ القُدرةِ التي يكونُ بها الفِعلُ، فهو مع الفعلِ، ونوعٌ بمعنى سلامةِ الأسبابِ والآلاتِ والجوارحِ، وهذا مناطُ التَّكليفِ في الأمرِ والنَّهيِ، وهو قبل الفِعلِ
[763] يُنظر: ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص: 81-82، 85-89). .
والحاصِلُ أنَّ مَذهَبَ
الماتُريديَّةِ أنَّ للعَبدِ اختيارًا وقُدرةً مؤثِّرةً، لكِنْ تُؤَثِّرُ قُدرتُه في كونِ الفعلِ طاعةً أو معصيةً، فقدرتُه مؤثِّرةٌ في وَصفِ الفعلِ، أمَّا قُدرةُ اللهِ تعالى فهي مؤثِّرةٌ في أصلِ الفِعلِ، وهو خَلقُه وإيجادُه
[764] يُنظر: ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 55)، ((نظم الفوائد)) لزادة (ص: 53)، ((العمدة)) للنسفي (15/1). .
أمَّا مَذهَبُ
الأشْعَريِّ ومن اختاره من
الأشْعَريَّةِ فباطِلٌ قطعًا؛ لأنَّ حقيقةَ كَسْبِه جبرٌ محْضٌ حتى باعترافِ كِبارِ أئمَّةِ
الأشْعَريَّةِ [765] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/96-97)، ((المحصل)) للرازي (ص: 280، 293)، ((المواقف)) للإيجي (ص: 311)، ((المنتقى في منهاج الاعتدال)) للذهبي (ص: 120). .
ولكونِ كَسبِ
الأشْعَريِّ باطلًا عقلًا ونقلًا، عُدَّ من مُحالاتِ عِلمِ الكلامِ، كما قيل:
وممَّا يقالُ ولا حقيقةَ تَحتَه
معقولةٌ تدنو إلى الأفهامِ
الكَسْبُ عِندَ
الأشْعَريِّ والحالُ عنـ
ـدَ الهاشميِّ وطَفرةُ النَّظَّامِ
[766] يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تيمية (1/127)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (3/444، 8/320)، ((شرح النونية)) لهراس (2/29). .
ويظهَرُ من هذا العَرضِ أنَّ الخلافَ بَينَ
الماتُريديَّةِ و
الأشْعَريَّةِ في هذه المسألةِ معنويٌّ جوهريٌّ، لا لفظيٌّ كما زعم
التَّاجُ السُّبكيُّ وأبو عَذبةَ
[767] يُنظر: ((طبقات الشافعي)) (3/386)، ((الروضة البهية)) (ص: 28). .
أمَّا مَذهَبُ
الماتُريديَّةِ فهو موافِقٌ لمَذهَبِ السَّلَفِ؛ فالاستطاعةُ التي يجِبُ بها الفِعلُ من نحوِ التَّوفيقِ الذي لا يوصَفُ به المخلوقُ، تكونُ مع الفِعلِ، وأمَّا الاستطاعةُ من جهةِ الصِّحَّةِ والوُسعِ والتَّمكُّنِ وسلامةِ الآلاتِ فهي قبلَ الفِعلِ، وهي قُدرةٌ للعبدِ هي مناطُ الأمرِ والنَّهيِ، وبها يتعلَّقُ الخطابُ، وهذا قولُ عامَّةِ أهلِ السُّنَّةِ. وأفعالُ العبادِ الاختياريَّةُ هي خَلقُ اللهِ، وكَسبٌ من العبادِ، وأفعالٌ لهم حقيقةً، وهي باختيارِهم، وهم يستوجبون عليها المدْحَ والذَّمَّ، كما أنَّها واقعةٌ بمشيئةِ اللهِ تعالى وقُدرتِه
[768] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/175)، ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 488-494). .
وأفعالُ العبدِ نوعانِ: نوعٌ يكونُ منه من غيرِ اقترانِ قدرتِه وإرادتِه واختيارِه، كحركةِ المرتَعِشِ، ونوعٌ يكونُ بقُدرتِه واختيارِه، كالحركاتِ الاختياريَّةِ؛ فهذا النَّوعُ صِفةٌ للعبدِ وفِعلٌ له، وكَسبٌ له، واللهُ تعالى هو الذي جعل العبدَ فاعلًا مختارًا، وهو الذي يُقدِرُ العبدَ على ذلك وَحدَه لا شريكَ له. والحاصِلُ: أنَّ فِعلَ العبدِ له حقيقةً، ولكنَّه مخلوقٌ لله تعالى، والكَسبُ: هو الفِعلُ الذي يعودُ على فاعِلِه منه نَفعٌ أو ضَرَرٌ
[769] يُنظر: ((التمهيد لقواعد التوحيد)) لأبي المعين النسفي (ص: 93)، ((الاعتماد في الاعتقاد)) لعبد الله النسفي (ص: 278). .