المَبحَثُ الأوَّلُ: مِن عوامِلِ انتِشارِ مذهَبِ المُعتَزِلةِ: تأثيرُهم على بَعضِ الخُلَفاءِ العبَّاسيِّينَ
ظهَر للمُعتَزِلةِ نُقطةُ الضَّعفِ الموجودةُ في الفِرَقِ التي خرجَت قَبلَهم مِن أهلِ البِدَعِ الذين تعرَّضوا لنِقمةِ الخُلفاءِ الأمَويِّينَ، وتتبَّعوهم بالقتلِ والتَّشريدِ؛ لذا عَلِموا أنَّه لا بقاءَ لهم ما لم يوجِدوا قوَّةً كبيرةً تُسانِدُهم وتشُدُّ أَزْرَهم، فعَمِلوا على الاستِعانةِ بالسُّلطةِ الحاكِمةِ، واستِمالتِها إلى جانِبِهم؛ فبذلك يُمكِنُ أن يعيشوا آمِنينَ، ويُظهِروا آراءَهم بلا خَوفٍ ولا وَجَلٍ، وقد تمَّ لهم ما أرادوا بَعدَ جِهادٍ طويلٍ دام ما يُقارِبُ قَرنًا مِن الزَّمانِ؛ لذا راحوا يُلقونَ على الخُلفاءِ شِباكَهم.
لمَّا بدأ عَصرُ
الرَّشيدِ قيل: إنَّه قرَّب بعضَ رِجالاتِهم، فإنَّه حينَ قدِم ثُمامةُ بنُ أشرَسَ بغدادَ اتَّصَل ب
الرَّشيدِ [65] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للبغدادي (8/ 20). .
واتَّصَل ب
الرَّشيدِ يحيى بنُ المُبارَكِ اليَزيديُّ، وكان مُؤدِّبًا لوَلَدِه
المأمونِ [66] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للبغدادي (14/146)، ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)) لابن الجوزي (10/ 113). .
ومعَ ذلك لم يجسُرِ
المُعتَزِلةُ على نَشرِ مقالاتِهم والجَهرِ بآرائِهم؛ لأنَّ
الرَّشيدَ كان شديدًا في أمورِ الدِّينِ، ومعَ هذا فإنَّ الإسهامَ الذي أسهَمه
المُعتَزِلةُ في زَمنِ
الرَّشيدِ كان عظيمَ الأهميَّةِ بالنِّسبةِ إلى مُستقبَلِهم.
وفي خلافةِ الأمينِ انكمَش نُفوذُهم؛ لأنَّه كان أشَدَّ مِن أبيه في مسائِلِ الدِّينِ.
وقال
ابنُ القيِّمِ عن
الخليفةِ المأمونِ: (غَلَب على مجلِسِه جماعةٌ مِن
الجَهميَّةِ ممَّا كان أبوه
الرَّشيدُ قد أقصاهم وتبِعهم بالحَبسِ والقَتلِ، فحشَوا بِدعةَ التَّجهُّمِ في أذُنِه وقَلبِه، فقَبِلها واستحسَنها ودعا النَّاسَ إليها، وعاقَبهم عليها، فلم تطُلْ مُدَّتُه، فصار الأمرُ بَعدَه إلى المُعتصِمِ، وهو الذي ضرَب
الإمامَ أحمَدَ بنَ حَنبلٍ، فقام بالدَّعوةِ بَعدَه، و
الجَهميَّةُ تُصوِّبُ فِعلَه، وتدعوه إليه، وتُخبِرُه أنَّ ذلك هو تنزيهُ الرَّبِّ عن التَّشبيهِ و
التَّمثيلِ والتَّجسيمِ، وهم الذين قد غَلَبوا على قُربِه ومجلِسِه، والقُضاةُ والوُلاةُ منهم؛ فإنَّهم تَبَعٌ لمُلوكِهم، ومعَ هذا فلم يكونوا يتجاسَرونَ على إلغاءِ النُّصوصِ وتقديمِ الآراءِ والعُقولِ عليها؛ فإنَّ الإسلامَ كان في ظُهورٍ وقوَّةٍ، وسُوقُ الحديثِ نافِقةٌ، ورُؤوسُ السُّنَّةِ على ظهرِ الأرضِ، ولكِنْ كانوا على ذلك يحومونَ وحَولَه يُدَندِنونَ، وأخَذوا النَّاسَ بالرَّغبةِ والرَّهبةِ؛ فمِن بَينِ أعمى مُستجيبٍ، ومِن بَينِ مُكرَهٍ مُقيِّدٍ نَفسَه منهم بإعطاءِ ما سألوه وقَلبُه مُطمئِنٌّ بالإيمانِ، وثبَّت اللهُ أقوامًا جعَل قُلوبَهم في نَصرِ دينِه أقوى مِن الصَّخرِ، وأشَدَّ مِن الحديدِ، وأقامهم لنَصرِ دينِه، وجعَلهم أئمَّةً يقتدي بهم المُؤمِنونَ لمَّا صبَروا وكانوا بآياتِه يُوقِنونَ؛ فإنَّه بالصَّبرِ واليقينِ تُنالُ الإمامةُ في الدِّينِ. قال اللهُ تعالى:
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24] .
فصبَروا مِن
الجَهميَّةِ على الأذى الشَّديدِ، ولم يترُكوا سنَّةَ رسولِ اللهِ؛ لِما أرغَبوهم به مِن الوَعدِ، وما تَهدَّدوهم به مِن الوَعيدِ، ثُمَّ أطفَأ اللهُ برحمتِه تلك الفِتنةَ، وأخمَد تلك الكَلِمةَ، ونصَر السُّنَّةَ نَصرًا عزيزًا، وفتَح لأهلِها فَتحًا مُبينًا)
[67] ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1072- 1074). .
وقد كان
المأمونُ يعتبِرُ نَفسَه مِن عُلماءِ
المُعتَزِلةِ، فشايَعهم وقرَّبهم، وجعَل منهم حُجَّابَه ووُزراءَه، وكان يعقِدُ المُناظَراتِ بَينَهم وبَينَ الفُقهاءِ؛ لينتهوا إلى رأيٍ مُتَّفِقٍ، واستمرَّ على ذلك حتَّى إذا كانت سنةُ 218ه، وهي السَّنةُ التي تُوفِّي فيها، انتقَل مِن المُناظَراتِ العِلميَّةِ إلى التَّهديدِ بالأذى الشَّديدِ، بل إنزالِه بالفِعلِ، وذلك برأيِ وتدبيرِ وزيرِه وكاتِبِه
أحمَدَ بنِ أبي دُؤادَ المُعتَزِليِّ، فحاوَل حَملَ الفُقهاءِ على القولِ بأنَّ القرآنَ مخلوقٌ، فأجابه بعضُهم إلى رغبتِه تقيَّةً ورهبةً لا عن إيمانٍ واعتِقادٍ واقتِناعٍ بما حُمِلوا عليه، وتحمَّل آخَرونَ العَنتَ والإرهاقَ والسَّجنَ الطَّويلَ، ولم يقولوا غَيرَ ما يعتقِدونَ، واستمرَّت تلك الفِتنةُ طَوالَ مُدَّةِ المُعتصِمِ والواثِقِ، وذلك لوصيَّةِ
المأمونِ بذلك، وزاد الواثِقُ الإكراهَ على نَفيِ الرُّؤيةِ، كرأيِ
المُعتَزِلةِ، ولمَّا جاء المُتوكِّلُ رفَع المِحنةَ وترَك الأمورَ تأخُذُ سَيرَها، والآراءَ تجري مجراها، بل إنَّه اضطهَد
المُعتَزِلةَ، ولم ينظُرْ إليهم نظرةً راضِيةً.
وهذا العامِلُ -بلا شكٍّ- أهَمُّ العوامِلِ التي ساعَدَت على بُروزِ
المُعتَزِلةِ وانتِشارِهم، بل وجعَل لهم المكانةَ في المُجتمَعِ، وأصبَح مذهَبُهم مُعترَفًا به عندَ النَّاسِ، ونمَّى آراءَهم وشعَّبها، فبَعدَ أن كانت محصورةً في مبادِئَ قليلةٍ،كثُرَت وتشعَّبَت، وأُضيفَت إليها زياداتٌ لم تكنْ موجودةً قَبلَ ذلك
[68] يُنظر: ((تاريخ الجهمية والمُعتزِلة)) للقاسمي (ص: 65- 70)، ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) لمحمد أبو زهرة (ص: 142)، ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 158- 163)، ((حقيقة البدعة وأحكامها)) للغامدي (1/ 158). .
ولا شكَّ أنَّ مِن أسوَأِ ما صنَعوه عَبرَ قوَّةِ السُّلطانِ والخُلَفاءِ قيامَهم بقَتلِ أو امتِحانِ عُلماءِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وإجبارِهم على القولِ ببعضِ عقائِدِهم.
قال الإِسْفِرايينيُّ عن ثُمامةَ بنِ الأشرَسِ -وهو الذي تُنسَبُ إليه الثُّماميَّةُ مِن
المُعتَزِلةِ-: (كان مِن شدَّةِ عداوتِه لأهلِ السُّنَّةِ أنَّه أغرى الواثِقَ بأحمَدَ بنِ نَصرٍ المروَزيِّ السُّنِّيِّ الخُزاعيِّ لأجْلِ أنَّه كان يطعَنُ على القَدَريَّةِ)
[69] ((التبصير في الدين)) (ص: 80). .