المَبحَثُ الثَّامِنُ: مِن عوامِلِ انتِشارِ مذهَبِ المُعتَزِلةِ: قيامُهم بدِراسةِ الفَلسفةِ
حينَ شرَع
المُعتَزِلةُ في الرَّدِّ على عقائِدِ الفلاسفةِ وغَيرِهم مِن المُخالِفينَ تبيَّن لهم أنَّ أولئك القومَ أمضى منهم سلاحًا، وأقدَرُ على الجَدَلِ والمُناظَرةِ؛ ذلك لأنَّهم كانوا أصحابَ ثقافةٍ وحضارةٍ قديمةٍ، وكان لهم معرفةٌ بالفلسفةِ والعُلومِ العقليَّةِ، واطِّلاعٌ على كُتبِ الفلاسِفةِ الأقدَمينَ، يستوي في ذلك سُكَّانُ سُورِيا ومِصرَ وفارِسَ والعراقِ، فالسُّوريُّونَ والمِصريُّونَ كانوا تابِعينَ للدَّولةِ البِيزَنطيَّةِ وريثةِ الدَّولةِ الرُّومانيَّةِ في الشَّرقِ، وحضارتُها مزيجٌ مِن حضارةِ اليونانِ والرُّومانِ؛ فتأثَّروا بتلك الحضارةِ، واقتبَسوا عنها كثيرًا مِن عناصِرِها، وأسَّسوا المدارِسَ ليتلقَّوا فيها الفلسفةَ والعِلمَ، ويشتغِلوا بترجمةِ الأسفارِ الإغريقيَّةِ؛ فقد كانت لهم مدرسةٌ كبيرةٌ في الإسكندريَّةِ، وهي وإن كان رجالُها قد انصرَفوا في المُدَّةِ التي سبقَت الإسلامَ إلى الدُّروسِ الفَلَكيَّةِ والطِّبِّيَّةِ والكيميائيَّةِ، إلَّا أنَّها كانت قَبلَ ذلك مَيدانًا لحركةٍ لاهوتيَّةٍ واسِعةٍ...، ترمي إلى دَمجِ الدِّينِ اليَهوديِّ بالفَلسفةِ، وقد ظهَر صدى هذه الحركةِ في المدارِسِ السُّوريَّةِ، ولا سيَّما مدرسةِ أنْطاكِيَةَ التي أسهَمَت إسهامًا مُهمًّا في اللَّاهوتِ، والتي نتَج عن أبحاثِها تكوُّنُ الفِرَقِ المسيحيَّةِ التي اختلفَت حَولَ طبيعةِ المسيحِ، كالنُّسْطوريَّةِ واليَعقوبيَّةِ.
وكانت تقومُ في شَمالِ شَرقِ سُوريا على الحُدودِ بَينَها وبَينَ العراقِ أربعُ مدارِسَ أخرى؛ اثنتانِ منها للنَّساطِرةِ السُّريانِ؛ هما: مدرسةُ نَصِيبينَ الأُولى، ومدرسةُ الرُّهَا، واثنتانِ لليعاقِبةِ؛ هما: مدرسةُ رأسِ العَينِ، ومدرسةُ قِنَّسْرِينَ، وتدورُ الأبحاثُ فيها كُلِّها في الأمورِ اللَّاهوتيَّةِ والفلسفيَّةِ.
أمَّا الدَّولةُ الفارِسيَّةُ فقد قامَت فيها مدرستانِ:المَدرَسةُ الأولى: مَدرَسةُ نَصيبِينَ الثَّانيةُ التي أعاد النَّساطِرةُ فَتحَها بَعدَ أن أغلقَت الحُكومةُ البِيزَنطيَّةُ مَدرستَهم في الرُّها، فرحَّب الفُرسُ بها، وسمَحوا لعُلمائِها أن يُواصِلوا أبحاثَهم، وأن يشتغِلوا باللَّاهوتِ والفَلسفةِ، وتغاضَوا عن أعمالِهم التَّنصيريَّةِ في نواحي آسيا في سبيلِ الفائِدةِ التي قد تعودُ على البلادِ منهم.
المَدرَسةُ الثَّانيةُ: هي مَدرَسةُ جُنْدَيْسابُورَ قاعِدةُ خُوذٍ، ستارةُ إحدى مُقاطَعاتِ فارِسَ، فتَحها كِسرى أنُوشِرْوانَ في القَرنِ السَّادسِ الميلاديِّ، وجلَب إليها العُلماءَ النَّساطِرةَ، وعهِد إليهم التَّدريسَ فيها، وترجمةَ الكُتبِ مِن اليونانيَّةِ إلى الفارِسيَّةِ؛ فتأثَّر الفُرسُ بالحضارةِ الهِنديَّةِ، وأصبحَت مدرستُها محطَّةً للتَّفاعُلِ بَينَ الحضاراتِ الثَّلاثِ: اليونانيَّةِ والفارسيَّةِ والهنديَّةِ، ومركزًا للاحتِكاكِ بَينَ الدِّيانتَينِ النَّصرانيَّةِ والمجوسيَّةِ، وقد عَمَرَت مدرسةُ جُنْدَيْسابورَ طويلًا، واستُدعِي أحدُ عُلمائِها سنةَ (148هـ) ليُعالِجَ
المنصورَ، وكانت تمُدُّ الخُلفاءَ العبَّاسيِّينَ مِن بَعدِ
المنصورِ بالأطبَّاءِ
[108] يُنظر: ((إخبار العلماء بأخبار الحكماء)) للقِفْطي (ص: 107)، ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 48). .
لذلك كُلِّه استطاع أولئك القومُ أن يُرتِّبوا عقائِدَهم على أُصولٍ فلسفيَّةٍ، وأن يوجِدوا لأنفُسِهم كلامًا منطقيًّا مُدقَّقًا، وأن يُتقِنوا المُجادَلةَ، فلمَّا شمَّر
المُعتَزِلةُ عن سواعِدِهم لمُناهضتِهم وجَدوا أنَّهم لن يتمكَّنوا مِن مُجاراتِهم، ولن يتهيَّأَ لهم الغَلَبةُ عليهم ما لم يَعمِدوا مِثلَهم إلى دِراسةِ الفلسفةِ والاستِفادةِ منها في دَعمِ حُجَجِهم وتقويةِ أقوالِهم، ومُحارَبةِ خُصومِهم بنَفسِ سِلاحِهم.
ولعلَّ هذه الحاجةَ الماسَّةَ إلى الفلسفةِ هي التي دفعَت بعضَ الخُلفاءِ العبَّاسيِّينَ إلى تشجيعِ التَّرجمةِ، وخُصوصًا مِن اليونانيَّةِ إلى العربيَّةِ
[109] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 48). .
قال
المَقريزيُّ: (قد كان
المأمونُ عبدُ اللهِ بنُ هارونَ الرَّشيدِ سابِعَ خُلفاءِ بَني العبَّاسِ ببَغدادَ، لمَّا شُغِف بالعُلومِ القديمةِ بعَث إلى بلادِ الرُّومِ مَن عرَّب له كُتبَ الفلاسفةِ، وأتاه بها في أعوامِ بِضعَ عَشرةَ سنةً ومائتَينِ مِن سِني الهِجرةِ، فانتشرَت مذاهِبُ الفلاسِفةِ في النَّاسِ، واشتَهرَت كُتبُهم بعامَّةِ الأمصارِ، وأقبلَت
المُعتَزِلةُ والقرامِطةُ والجَهميَّةُ وغَيرُهم عليها، وأكثَروا مِن النَّظرِ فيها والتَّصفُّحِ لها؛ فانجرَّ على الإسلامِ وأهلِه مِن عُلومِ الفلاسِفةِ ما لا يُوصَفُ مِن البلاءِ والِمحنةِ في الدِّينِ، وعَظُم بالفلسفةِ ضلالُ أهلِ البِدَعِ، وزادَتهم كُفرًا إلى كُفرِهم)
[110] ((المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار)) (4/191). .
فاشتدَّ ساعِدُهم بها، ومِن أبرَزِ رجالِ
المُعتَزِلةِ تأثُّرًا بتلك الكُتبِ هو النَّظَّامُ الذي طالَع -كما ذكَر الشَّهْرَسْتانيُّ- كثيرًا مِن كُتبِ الفلاسِفةِ، وخلَط كلامَهم بكلامِ
المُعتَزِلةِ [111] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) (1/53). ، وكذلك اقتدى به أصحابُه
[112] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/60). .
فكان
المُعتَزِلةُ أقدَمَ المُتكلِّمينَ، وهذه هي شُهرتُهم الأولى في التَّاريخِ، وإذا كان
المُعتَزِلةُ قد لجؤوا إلى درسِ الفلسفةِ لا لذاتِها وإنَّما ليستخدِموها في الرَّدِّ على خُصومِ الدِّينِ الإسلاميِّ، إلَّا أنَّهم منذُ بدؤوا في ذلك دخَلوا في دورٍ جديدٍ مِن أدوارِ تاريخِهم؛ فقد أحدثَت الفلسفةُ في حياتِهم انقِلابًا خطيرًا، وفي تفكيرِهم ثورةً عنيفةً؛ لأنَّهم بَعدَ أن وقَفوا على مواضيعِها وتعمَّقوا فيها أحبُّوها لذاتِها، وتعلَّقوا بها؛ فنتَج عن ذلك أمرانِ:
أوَّلًا: أنَّهم صاروا يُعظِّمونَ الفلاسِفةَ اليونانَ ويَضعونَهم في مرتبةٍ تقرُبُ مِن مرتَبةِ النُّبوَّةِ، حتَّى إنَّهم اعتبَروا أقوالَهم مُكمِّلةً لتعاليمِ دينِهم، وانهمَكوا لذلك في إظهارِ الاتِّفاقِ الجَوهَريِّ بَينَهما، فبدأ عملُ
المُعتَزِلةِ الآخَرُ، وهو التَّوفيقُ بَينَ الدِّينِ الإسلاميِّ وبَينَ الفلسفةِ اليونانيَّةِ، ذلك العملُ الذي تركوه لمَن خَلفَهم مِن الفلاسفةِ المُسلِمينَ الذين قاموا بنصيبِهم فيه، وكانوا لا يقِلُّونَ عنهم عِنايةً به وتحمُّسًا له.
ثانيًا: أنَّ
المُعتَزِلةَ أخَذوا يبتعِدونَ عن أهدافِهم الدِّينيَّةِ، ويزدادونَ انصِرافًا إلى المسائِلِ الفلسفيَّةِ حتَّى جاء وقتٌ كادَت جُهودُهم فيه تقتصِرُ على البحثِ في مواضيعِ الفلسفةِ البَحتةِ؛ كالحركةِ والسُّكونِ، والجوهَرِ والعَرَضِ، والوُجودِ والعَدَمِ، والجُزءِ الذي لا يتجزَّأُ.
إنَّ اشتِغالَ
المُعتَزِلةِ بالتَّوفيقِ بَينَ الدِّينِ والفلسفةِ وشَغفَهم بالأبحاثِ الفلسفيَّةِ وتعمُّقَهم فيها جعَلهم يتأثَّرونَ بالفلسفةِ كثيرًا، ويَصيغونَ بها مُعظَمَ أقوالِهم.
وقد ساعَدهم ذلك على الظُّهورِ والاشتِهارِ لِما يلي:1- أنَّ أخْذَهم مِن الفلسفاتِ ممَّا نمَّى آراءَهم وأوجَد لهم آراءً جديدةً.
2- أنَّ نماءَ مَوهِبةِ المُناظَرةِ عندَهم بسببِ اتِّصالِهم بهذه الفلسفاتِ، وأخْذُهم عنها جعَلهم أبرَزَ فِرقةٍ كلاميَّةٍ تقِفُ أمامَ الفلاسِفةِ المُعادينَ للإسلامِ، وهذا ممَّا قد يرفَعُ مِن شأنِهم ويزيدُ في شُهرتِهم.
3- ظُهورُ بعضِ الفلاسفةِ المُسلِمينَ الذين اشتغَلوا بالفلسفةِ، فوَرِثوا مِن
المُعتَزِلةِ بعضَ أقوالِهم الفلسفيَّةِ، وهذا ممَّا يزيدُ في بقاءِ أقوالِهم وشُهرتِها
[113] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 49)، ((المُعتزِلة وأصولهم الخمسة)) لعوَّاد المُعتق (ص: 30). .