المَطلَبُ الأوَّلُ: المُعتَزِلةُ في العَصرِ الأُمَويِّ
بدأت
المُعتَزِلةُ بوَصفِها فِرقةً مُستقلَّةً إبَّانَ قوَّةِ الدَّولةِ الأُمويَّةِ في الشَّامِ، وقد كان لشُيوخِ الفِكرِ الاعتِزاليِّ الأوائِلِ مِن القَدَريَّةِ و
الجَهميَّةِ أثرٌ كبيرٌ في كثيرٍ مِن الحَركاتِ التي خرجَت على تلك الدَّولةِ، فلَقُوا جزاءً شديدًا نتيجةَ ذلك الموقِفِ المُعادي للدَّولةِ الأُمويَّةِ؛ فقد خرَج مَعبَدٌ الجُهَنيُّ -وهو أوَّلُ مَن قال بالقَدَرِ- على
عبدِ الملِكِ بنِ مَروانَ معَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ الأشعَثِ في حركتِه التي كادت تقضي على حُكمِ الأُمويِّينَ، وقد قتَله
الحجَّاجُ بنُ يوسُفَ الثَّقفيُّ بَعدَ فَشلِ الحركةِ عامَ 80هـ
[394] يُنظر: ((الانتصار في الرد على المُعتزِلة القدرية الأشرار)) للعمراني (1/ 63). .
وقد خرَج أيضًا
الجَهمُ بنُ صفوانَ -الذي قال بنَفيِ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ وخَلقِ القرآنِ- معَ الحارِثِ بنِ سُرَيجٍ على بني أُميَّةَ، فقتَله سالِمُ بنُ أحوَزَ في عامِ 128هـ بَعدَ فَشلِ الحركةِ
[395] يُنظر: ((ضحى الإسلام)) لأحمد أمين (2/162). ويُنظر أيضًا: ((تاريخ الجهمية والمُعتزِلة)) للقاسمي (ص: 17). .
أمَّا غَيْلانُ الدِّمَشقيُّ فقد جرَت بَينَه وبَينَ
عُمرَ بنِ عبدِ العزيزِ مُناقَشاتٌ بشأنِ القَدَرِ، فأمسَك غَيْلانُ عن الكلامِ فيه حتَّى مات
عُمرُ، ثُمَّ أكمَل بِدعتَه حتَّى قتَله
هِشامُ بنُ عبدِ الملِكِ [396] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (2/ 386). .
وأمَّا الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ فقد قتَله خالِدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْريُّ والي الكوفةِ بَعدَ استِفحالِ أمرِه؛ حيثُ صعِد المِنبَرَ في الأضحى، وقال: (ارجِعوا فضحُّوا، تقبَّل اللهُ منكم؛ فإنِّي مُضحٍّ بالجَعدِ بنِ دِرهَمٍ، زعَم أنَّ اللهَ لم يتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا، ولم يُكلِّمْ موسى تكليمًا، تعالى اللهُ عُلوًّا كبيرًا عمَّا يقولُ ابنُ دِرهَمٍ)، ثُمَّ نزَل فذبَحه
[397] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 29)، ((الرد على الجهمية)) للدارمي (ص: 21). .
وقد كان للمُعتَزِلةِ دورٌ ونشاطٌ في نَشرِ دعوتِهم في الدَّولةِ الأمويَّةِ؛ إذ إنَّ يزيدَ بنَ الوليدِ الخليفةَ الأُمَويَّ المُلقَّبَ بيزيدَ النَّاقِصِ قد قال بقولِهم في القَدَرِ، بل وقرَّب إليه أصحابَ غَيْلانَ الدِّمشقيِّ، وقد ساعَدَته
المُعتَزِلةُ في الظَّفَرِ بالخلافةِ والقضاءِ على الخليفةِ الذي سبَقه، وهو الوليدُ بنُ يَزيدَ بنِ عبدِ الملِكِ، كما أنَّ الجَعدَ بنَ دِرهَمٍ كان مُربِّيًا لآخِرِ خُلفاءِ الدَّولةِ الأُمَويَّةِ، وهو مَروانُ بنُ مُحمَّدٍ، حتَّى إنَّه لُقِّب بمَروانَ الجَعْديِّ نِسبةً إليه.
وكان لواصِلٍ دورٌ كبيرٌ في نَشرِ دعوةِ الاعتِزالِ؛ حيثُ إنَّه أرسَل دُعاتَه إلى البُلْدانِ كافَّةً، فبعَث عبدَ اللهِ بنَ الحارِثِ إلى المغرِبِ، وحَفصَ بنَ سالِمٍ إلى خُراسانَ، والقاسِمَ إلى اليمَنِ، والحَسنَ بنَ ذَكوانَ إلى الكوفةِ، وعُثمانَ الطَّويلَ -شيخَ العلَّافِ- إلى إرْمينيَةَ
[398] يُنظر: ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضى (141). .
قال ابنُ المُرتضى عن واصِلٍ ودورِه في نَشرِ الدَّعوةِ الاعتِزاليَّةِ: (بلَغ مِن بأسِه وعملِه أنَّه أنفَذ أصحابَه إلى الآفاقِ، وبثَّ دُعاتَه في البلادِ؛ قال أبو الهُذَيلِ: بعَث عبدَ اللهِ بنَ الحارِثِ إلى المغرِبِ، فأجابه خَلقٌ كثيرٌ، وبعَث إلى خُراسانَ حَفصَ بنَ سالِمٍ، فدخَل تِرمِذَ، ولزِم المسجِدَ حتَّى أسهَر، ثُمَّ ناظَر
جَهمًا فقطَعه، ورجَع إلى قولِ أهلِ الحقِّ، فلمَّا عاد حَفصٌ إلى البَصرةِ رجَع
جَهمٌ إلى قولِ الباطِلِ، وبعَث القاسِمَ إلى اليمَنِ، وبعَث أيُّوبَ إلى الجزيرةِ، وبعَث الحسَن بنَ ذَكوانَ إلى الكوفةِ، وعُثمانَ الطَّويلَ إلى إرْمِينيَةَ)
[399] ((المُنْية والأمل)) (ص: 35). .
وقد كان لهؤلاء الدُّعاةِ بعضُ الأثرِ نتيجةَ هذا النَّشاطِ، وإن كان بعضُ مَن أرَّخ لهم قد غالى في عددِهم؛ وذلك أنَّ دعوةَ هؤلاء دعوةٌ عقليَّةٌ تحمِلُ معانيَ الفلسفةِ وألفاظَها، فهي بعيدةٌ عن عُقولِ العوامِّ، وليس مِن السَّهلِ الاستِجابةُ إليها في أوساطِهم، وإن استجاب لها بعضُ الشُّعراءِ أو الأدباءِ أو الخُلفاءِ؛ فإنَّ ذلك لا يعني أنَّها كانت ذاتَ انتِشارٍ واسِعٍ بَينَ عوامِّ النَّاسِ، ثُمَّ ينبغي أن يُعرَفَ أنَّ الأئمَّةَ مِن أهلِ السُّنَّةِ كانوا أكثَرَ عددًا، وأقوى حُجَّةً، وأظهَرَ مقالًا في أوساطِ عامَّةِ النَّاسِ.