- سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ، ما أدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً، قالَ: هو رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ ما أُدْخِلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، فيُقالُ له: ادْخُلِ الجَنَّةَ، فيَقولُ: أيْ رَبِّ، كيفَ وقدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنازِلَهُمْ، وأَخَذُوا أخَذاتِهِمْ، فيُقالُ له: أتَرْضَى أنْ يَكونَ لكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِن مُلُوكِ الدُّنْيا؟ فيَقولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فيَقولُ: لكَ ذلكَ، ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ، فقالَ في الخامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فيَقولُ: هذا لكَ وعَشَرَةُ أمْثالِهِ، ولَكَ ما اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، ولَذَّتْ عَيْنُكَ، فيَقولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قالَ: رَبِّ، فأعْلاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أرَدْتُ غَرَسْتُ كَرامَتَهُمْ بيَدِي، وخَتَمْتُ عليها، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، ولَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، ولَمْ يَخْطُرْ علَى قَلْبِ بَشَرٍ، قالَ: ومِصْداقُهُ في كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهمْ مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ} [السجدة: 17] الآيَةَ. وفي رواية: إنَّ مُوسَى عليه السَّلامُ سَأَلَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ عن أخَسِّ أهْلِ الجَنَّةِ مِنْها حَظًّا، وساقَ الحَدِيثَ بنَحْوِهِ.
الراوي :
المغيرة بن شعبة
| المحدث :
مسلم
| المصدر :
صحيح مسلم
| الصفحة أو الرقم :
189
| خلاصة حكم المحدث :
[صحيح]
الجنَّةُ هي دارُ النَّعيمِ المُقيمِ الذي أعدَّه اللهُ لعِبادِه المتَّقينَ المؤمِنينَ، ومَن رَأى هولَ المَحشَرِ والقيامةِ، ثُمَّ فازَ بالجنَّةِ؛ فإنَّه يَعلَمُ مِقدارَ نِعمةِ اللهِ وفَضلِه عليه؛ فهو الكريمُ الرَّحيمُ يَتكرَّمُ على عِبادِه بأفضالِه ومَثوبتِه، ويَزيدُهم من نِعَمِه وكَرامتِه.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ نَبيَّ اللهِ مُوسَى عَليه السَّلامُ سألَ ربَّه عن أدنَى أهلِ الجَنَّةِ مَنزِلَةً، وفي روايةٍ: «سَأَلَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ عن أخَسِّ أهْلِ الجَنَّةِ مِنْها حَظًّا»، أي: ما صِفةُ أو نَعيمُ أقلِّ أهلِ الجنَّةِ منزلةً، فأجابَه اللهُ سُبحانَه بأنَّه رجُلٌ يَجيءُ يومَ القيامةِ بعدما أُدخِلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، فيتَفضَّلُ اللهُ عَليهِ، فيَأمُرُه أن يَدخُلَ الجَنَّةَ، فيَتساءَلُ الرَّجلُ: أي ربِّ، كيف أدخُلُ الجَنَّةَ ولا مَكانَ فيها؟ «وقدْ نزَل النَّاسُ منازلَهم؟» أي: فيها وما أبقَوا لغيرِهم مَنزلًا، «وأخَذوا أَخَذَاتِهم»، أي: سَلَكوا طُرقَهم، أو حصَّلوا كَراماتِهم، وهذا فيما يَظهَرُ له، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ للرَّجُلِ: «أتَرضَى أنْ يكونَ لك مِثلُ مُلْكِ مَلِكٍ من ملوكِ الدُّنيا؟» وهذا يَكونُ عَطاءً عَظيمًا لمِثلِ هذا الرَّجُلِ الذي يَتصَوَّرُ أنَّه لم يَبقَ له مَكانٌ في الجَنَّةِ، فيَقولُ: «رضِيتُ ربِّ»؛ حَذَفَ حَرفَ النِّداءِ مُسارَعةً لذِكرِ الرَّبِّ، فيَقولُ له اللهُ الكَريمُ: «لَكَ ذَلِكَ، ومِثلُه ومِثلُه، ومِثلُه ومِثلُه»، أي: مُنضمًّا لِمَا رَضيتَ به زيادةً عليه، مُبالغةً في التَّفضيلِ والكرَمِ، فيَقولُ العبدُ في الخامسةِ: «رَضِيتُ ربِّ» بهذا العَطاءِ الجَزْلِ، فيَزيدُه اللهُ سُبحانَه عَطاءً، فيقولُ له: «هذا لك وعشَرةُ أمثالِه»، ثم يَزيدُه اللهُ تَفضُّلًا فيَقولُ له: «ولك ما اشتهَتْ نفسُك» وما تَمنَّته، ولك ما لذَّت عينُك وما أعجَبَها، وهذا شاملٌ لكلِّ أحدٍ من أهلِ الجنَّةِ، فيقولُ الرَّجُلُ: «رضِيتُ ربِّ».
ثم سأل مُوسَى عَليه السَّلامُ رَبَّه عن نَعيمِ أعلى أهلِ الجَنَّةِ مَنزِلةً، فأجابَه اللهُ تَعالَى بقَولِه: «أولَئِكَ الَّذين أردْتُ»، أيِ: الَّذينَ اختَارَهُمُ اللهُ واصطَفاهُم، «غرَسْتُ كَرامتَهم بيَدي، وختَمْتُ عليها»، ومَعنَى ذلك أنَّهُم مَن ممن تَولَّاهُمُ اللهُ؛ فلا يَتطرَّقُ إلى كَرامَتِهِم تَغييرٌ، وأعدَّ اللهُ لهم في الجَنَّةِ ما لم تَرَه عينٌ، ولم تَسمَع به أذُنٌ في الدُّنيا، والنَّفيُ مع تَنكيرِ "عين، وأُذُن" يُفيدُ الشُّمولَ، أي: يكونُ في الجنَّةِ ما لم تَرَه أيُّ عينٍ من الأعيُنِ، ولم تَسمَع به وبوصفِه أيُّ أذُنٍ من الآذانِ، وأيضًا لم يَخطُر على قلبِ بشَرٍ، فلم يَمُرَّ على عقلِ أحدٍ ما يُشبِهُه أو يَتصوَّرُه من النَّعيمِ، فكلُّ شَيءٍ يَتخيَّلُه عقلٌ أو قلبٌ من نَعيمِ الجنَّةِ، ففيها أفضَلُ ممَّا تخيَّلَه، ومِصداقُ ذلك ودَليلُه في كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، أي: فلا يَعلَمُ أحَدٌ عَظَمةَ ما أخْفى اللهُ تَعالَى لهم في الجنَّاتِ منَ النَّعيمِ المُقيمِ، واللَّذَّاتِ التي لم يَطَّلِع على مِثلِها أحدٌ ممَّا تَقَرُّ وتُنَعَّمُ به أعيُنُهم، وهو كِنايةٌ عنِ السُّرورِ؛ وذلك لأنَّهُم لمَّا أخفَوا أعمالَهُم، أخْفى اللهُ لهم منَ الثَّوابِ جَزاءً وِفاقًا؛ فإنَّ الجَزاءَ من جِنسِ العَملِ.
وفي الحديثِ: بَيانُ أنَّ الجنَّةَ دَرَجاتِ.
وفيه: ثُبوتُ صِفةِ اليدِ لله عزَّ وجلَّ على ما يَليقُ بذاتِ وجَلالِه؛ من غَيرِ تَشبيهٍ أو تَعطيلٍ.
وفيه: تَرغيبٌ للنَّاسِ في نَعيمِ الجَنَّةِ؛ ليَزدادوا عَمَلًا.