- إنَّكُمْ تَقُولونَ: إنَّ أبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَقُولونَ: ما بَالُ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ لا يُحَدِّثُونَ عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمِثْلِ حَديثِ أبِي هُرَيْرَةَ؟! وإنَّ إخْوَتي مِنَ المُهَاجِرِينَ كانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بالأسْوَاقِ، وكُنْتُ ألْزَمُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى مِلْءِ بَطْنِي، فأشْهَدُ إذَا غَابُوا، وأَحْفَظُ إذَا نَسُوا، وكانَ يَشْغَلُ إخْوَتي مِنَ الأنْصَارِ عَمَلُ أمْوَالِهِمْ، وكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِن مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ، أعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وقدْ قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: إنَّه لَنْ يَبْسُطَ أحَدٌ ثَوْبَهُ حتَّى أَقْضِيَ مَقالتي هذِه، ثُمَّ يَجْمَعَ إلَيْهِ ثَوْبَهُ؛ إلَّا وعَى ما أقُولُ. فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ، حتَّى إذَا قَضَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَقالَتَهُ جَمَعْتُهَا إلى صَدْرِي، فَما نَسِيتُ مِن مَقالَةِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تِلكَ مِن شَيءٍ.
الراوي :
أبو هريرة
| المحدث :
البخاري
| المصدر :
صحيح البخاري
| الصفحة أو الرقم :
2047
| خلاصة حكم المحدث :
[صحيح]
نَقْلُ السُّنةِ النَّبويَّةِ والتَّحديثُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ أمْرٌ جَليلٌ ومَسؤوليةٌ خَطيرةٌ، وقد كان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم يَتحرَّون الدِّقَّةَ والتَّثبُّتَ في تلك المَرْويَّاتِ، وكان منهم المُكثِرُ والمُقِلُّ في الرِّوايةِ، كلٌّ حسْبَ الوقتِ الَّذي صاحَبَ فيه رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وما تَحمَّلَ منه، وكان أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه مِن أكثَرِ أصحابِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رِوايةً لِلأحاديثِ، ولَمَّا شَعَرَ أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه بِتَعجُّبِ البَعضِ وسُؤالِهم عَن كَثْرةِ حَديثِه عنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ذَكَرَ الأسبابَ الَّتي جَعَلَتْه يُحدِّثُ أكثرَ مِنْ غَيرِه مِنَ المهاجرِينَ والأنصارِ، والمرادُ بهم عُمومُ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم، فأخْبَرَ أنَّ إخوانَه في الدِّينِ مِنَ المهاجِرِينَ كان يَشغَلُهم الصَّفْقُ بالأسواقِ، أي: البيعُ والشِّراءُ والتِّجارةُ، بيْنما كان هو يُلازِمُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُقتنِعًا ومُكتفِيًا بالقُوتِ الَّذي يَسُدُّ جُوعَه فَقط، ولذلك فإنَّه كان مُتواجِدًا أكثَرَ الأوقاتِ، فيَحضُرُ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا غابوا، ويَحفَظُ الحديثَ إذا نَسُوا؛ لِكَثرةِ مُلازمتِه لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ثُمَّ أخبَرَ أنَّ الأنصارَ كان يَشغَلُهم ما يَتعلَّقُ بإصلاحِ أموالَهُم مِن مَزارِعَ ونحْوِها، بيْنما كان هو رجُلًا مِسكينًا مِن مَساكينِ الصُّفَّةِ، لا شَيءَ له ليُتاجِرَ به أو يَشغَلَه إصلاحُه، والصُّفَّةُ: مَوضعٌ مُظلَّلٌ في المسجدِ النَّبويِّ، كان يَأْوي إليه الغُرباءُ وفُقراءُ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم ومَن ليس له مَنزِلٌ منهم؛ ولذلك فإنَّه كان في مَوضعِ سَماعِ العِلمِ والحديثِ دائمًا، فيَتذكَّرُ مِنَ الحديثِ ما يَنسَوْنَه هم، ثُمَّ أخبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَنَّه قال: «لَنْ يَبسُطَ أحدٌ ثَوبَه حتَّى أَقضِي مَقالتي هذه، ثُمَّ يَجمَعَ إليه ثَوبَه؛ إلَّا وَعَى ما أقولُ»، أي: إلَّا حَفِظَ ما أقولُه، فبَسَطَ أبو هَرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عنه نَمِرةً كان يَلبَسُها، وهي كِساءٌ مُخطَّطٌ أو مُلوَّنٌ، وظلَّ باسِطًا رِداءَهُ إلى أنِ انْتَهى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن حَديثِه، فمَا نَسِيَ بعدَ ذلك مَقالةً ولا حَديثًا مِمَّا قالَه النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في ذلك الموضِعِ.
ولعلَّ مِن بَرَكةِ هذه الدَّعوةِ أنَّه ظلَّ حافظًا لكلِّ ما تَعلَّمَه وسَمِعَه مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خِلالَ مُكوثِه الطَّويلِ معه.
وفي الحَديثِ: مُعجِزةٌ ظاهرةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: فَضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: الحِرْصُ على التَّعَلُّمِ.
وفيه: ذِكرُ الإنسانِ مَحاسِنَه؛ ليَرُدَّ الشُّبهةَ عن نفْسِه، وليس مِن بابِ التَّزكيةِ.
وفيه: عَمَلُ كِبارِ الصَّحابةِ بالتِّجارةِ والتَّكَسُّبِ لمَعاشِهم.