- أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ إلى البَحْرَيْنِ يَأْتي بجِزْيَتِهَا، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو صَالَحَ أَهْلَ البَحْرَيْنِ، وأَمَّرَ عليهمُ العَلَاءَ بنَ الحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا صَلَّى بهِمُ الفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا له، فَتَبَسَّمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ رَآهُمْ، وقالَ: أَظُنُّكُمْ قدْ سَمِعْتُمْ أنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قدْ جَاءَ بشيءٍ؟، قالوا: أَجَلْ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: فأبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لا الفَقْرَ أَخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أَخَشَى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ.
الراوي :
عمرو بن عوف المزني
| المحدث :
البخاري
| المصدر :
صحيح البخاري
| الصفحة أو الرقم :
3158
| خلاصة حكم المحدث :
[صحيح]
الفَقرُ والغِنى مِحْنَتانِ مِنَ اللهِ تَعالى، وبَلِيَّتانِ يَبْلو بهما أخيارَ عِبادِه؛ لِيَظهَرَ صَبرُ الصَّابِرينَ، وشُكرُ الشَّاكِرينَ، وقد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَستَعيذُ مِنَ الفَقرِ، ويُحذِّرُ مِن فِتنةِ الغِنى والمالِ.
وفي هذا الحَديثِ يَروي عَمرُو بنُ عَوفٍ المُزَنيُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أرسَلَ أبا عُبَيدةَ بنَ الجَرَّاحِ رَضيَ اللهُ عنه إلى البَحرَيْنِ لِيَأْتيَ بجِزْيَتِها، وهي المالُ المَفروضُ على المَجوسِ مِن أهلِها، مُقابِلَ تَركِهم أحياءً وحِمايَتِهم بعْدَ أنْ صَالَحَهم على ذلك، وكانتِ البَحرَيْنُ في القَديمِ تُطلَقُ على ما يَشمَلُ حاليًّا كُلًّا مِنَ البَحرَيْنِ، والأحساءِ والقَطيفِ، شَرقَ المَملَكةِ العَربيَّةِ السُّعوديَّةِ، وقد فُتِحتْ سَنةَ ثَمانٍ مِنَ الهِجرةِ، وقد أقَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليها عامِلَها المُنذِرَ بنَ ساوَى، ثم لَمَّا ماتَ أمَّرَ عليهمُ العَلاءَ بنَ الحَضرَميِّ.
فلَمَّا جاء أبو عُبَيدةَ رَضيَ اللهُ عنه بهذا المالِ، كان ذلك في وَقتِ صَلاةِ الفَجرِ، فحَضَر النَّاسُ الصَّلاةَ، فلَمَّا صلَّى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وانصَرَفَ مِنَ الصَّلاةِ وتوَجَّهَ إلى النَّاسِ، تَعَرَّضَ الأنصارُ له كأنَّهم سَأَلوه بالإشارةِ لِمَعرِفَتِهم بكَرَمِ أخلاقِه؛ لِيَقسِمَ بيْنَهم ما جاء به أبو عُبَيدةَ؛ لِأنَّهم أرهَقَتْهمُ الحاجةُ والفاقةُ التي كانوا عليها، وليس حِرصًا على الدُّنيا، ولا رَغبةً فيها، فعَلِمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما يُريدونَ، فتَبسَّمَ، وقال: «أظُنُّكم قدْ سَمِعتُم أنَّ أبا عُبَيدةَ قد جاءَ بشَيءٍ؟» قالوا: أجَلْ يا رَسولَ اللهِ، قال: «فأبشِروا وأمِّلوا»، أيِ: ارجوا ما يَسُرُّكم، وهذا تَهوينٌ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليهم ما هُم فيه مِنَ الشِّدَّةِ، وبِشارةٌ لهم بتَعجيلِ الفَتحِ عليهم.
ثمَّ أقسَمَ لهم قائِلًا: «فوَاللهِ لا الفَقرَ أخشى عليكم، ولكِنْ أخْشى عليكمْ أنْ تُبسَطَ عليكمُ الدُّنيا»، والمُرادُ به الغِنى وكَثرةُ المالِ، كما بُسِطَتْ على مَن كان مِنَ الأُمَمِ التي قَبْلكم، فتَتَسابَقوا إلى تَحصيلِها، فتُؤدِّيَ إلى هَلاكِكم؛ بسَبَبِ التَّنازُعِ عليها، والرُّكونِ إليها، والاشتِغالِ بها عنِ الآخِرةِ، كما حدَثَ مع الأُمَمِ مِن قبْلِكم.
وفي هذا إنذارٌ بما سيَقَعُ، وقد وَقَعَ ما أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذْ فُتِحتِ الدُّنيا بعْدَه وبُسِطتْ، وحَصَلَ التَّحاسُدُ والتَّقاتُلُ وما هو مَعروفٌ ممَّا يَشهَدُ بمِصداقِ خَبَرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحَديثِ: أنَّ طَلَبَ العَطاءِ مِنَ الإمامِ لا غَضاضةَ فيه.
وفيه: البُشرى مِنَ الإمامِ لِأتباعِه، وتَوسيعُ أمَلِهم منه.
وفيه: أنَّ المُنافَسةَ في الدُّنيا قد تَجُرُّ إلى هَلاكِ الدِّينِ.