الموسوعة الحديثية


- قامَ فينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ على ناقةٍ حَمْراءَ مُخَضْرمةٍ، فقالَ: «أَتَدْرونَ أيُّ يَوْمِكم هذا؟»، قالَ: قُلْنا: يَوْمُ النَّحْرِ، قالَ: «صَدَقْتُم، يَوْمُ الحَجِّ الأَكبَرِ، أَتَدْرونَ أيُّ شَهْرٍ شَهْرُكم هذا؟»، قُلْنا: ذو الحِجَّةِ، قالَ: «صَدَقْتُم، شَهْرُ اللهِ الأَصَمُّ، أَتَدْرونَ أيُّ بَلَدٍ بَلَدُكم هذا؟»، قالَ: قُلْنا: المَشعَرُ الحَرامُ، قالَ: «صَدَقْتُم»، قالَ: «فإنَّ دِماءَكم وأمْوالَكم عليكم حَرامٌ، كحُرْمةِ يَوْمِكم هذا، في شَهْرِكم هذا، في بَلَدِكم هذا -أو قالَ: كحُرْمةِ يَوْمِكم هذا، وشَهْرِكم هذا، وبَلَدِكم هذا- أَلَا وإنِّي فَرَطُكم على الحَوْضِ، أَنظُرُكم، وإنِّي مُكاثِرٌ بكم الأُمَمَ، فلا تُسَوِّدوا وَجْهي، أَلَا وقد رَأيْتُموني وسَمِعْتُم مِنِّي، وستُسأَلونَ عنِّي، فمَن كَذَبَ علَيَّ فلْيَتَبوَّأْ مَقعَدَه مِن النَّارِ، أَلَا وإنِّي مُسْتَنقِذٌ رِجالًا أو إناثًا، ومُسْتنقَذٌ منِّي آخَرونَ، فأَقولُ: يا رَبِّ، أصْحابي! فيُقالُ: إنَّك لا تَدْري ما أَحدَثوا بَعْدَك».
الراوي : رجل من الصحابة | المحدث : الوادعي | المصدر : الصحيح المسند | الصفحة أو الرقم : 1475 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
للمُسلمِ عِندَ اللهِ تعالى مَكانةٌ عَظيمةٌ، ولمَكانتِه فقد حَرَّمَ اللهُ بَينَ المُسلمينَ قَتلَ بَعضِهم بَعضًا وأخْذَ أموالِهم، ولَم يَأتِ مِنَ التَّشديدِ والوعيدِ في شَيءٍ مِنَ النُّصوصِ بَعدَ الشِّركِ باللهِ مِثلُ الاعتِداءِ على حُرمةِ دَمِ المُسلمِ ومالِه وعِرضِه، ومِن ذلك ما جاءَ في هذا الحَديثِ حَيثُ قامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّحابةِ خَطيبًا في مَكَّةَ في حَجَّةِ الوداعِ يَومَ النَّحرِ، كما جاءَ ذلك مُبَيَّنًا في الرِّواياتِ الأُخرى، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ناقةٍ له حَمراءَ مُخَضرَمةٍ. وهيَ التي قُطِعَ طَرَفُ أُذُنِها، وكان أهلُ الجاهليَّةِ يُخضرِمون نَعَمَهم، فلَمَّا جاءَ الإسلامُ أمَرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُخضرِموا في غَيرِ المَوضِعِ الذي يُخَضرِمُ فيه أهلُ الجاهليَّةِ. وأصلُ الخَضرَمةِ: أن يُجعَلَ الشَّيءُ بَينَ بَينَ، فإذا قُطِعَ بَعضُ الأُذُنِ فهيَ بَينَ الوافِرة والنَّاقِصةِ. وقيلَ: هيَ المَنتوجةُ بَين النَّجائِبِ والعُكاظيَّاتِ. ومِنه قيلَ لكُلِّ مَن أدرَكَ الجاهليَّةَ والإسلامَ مُخَضرَمٌ؛ لأنَّه أدرَكَ الخَضرَمَتَينِ. فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يُخاطِبُ الصَّحابةَ: أتدرونَ أيُّ يَومِكُم هذا؟ أي: هَل تَعلَمونَ اسمَ هذا اليَومِ. فقال الصَّحابةُ: يَومُ النَّحرِ، أي: هذا اليَومُ هو يَومُ النَّحرِ، وهو اليَومُ العاشِرُ مِن ذي الحِجَّةِ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صَدَقتُم، يَومُ الحَجِّ الأكبَرِ، أي: أصَبتُم؛ فهو يَومُ الحَجِّ الأكبَرِ، وسُمِّي بيَومِ الحَجِّ الأكبَرِ لاجتِماعِ أعظَمِ أعمالِ الحَجِّ فيه، وهيَ رَميُ جَمرةِ العَقَبةِ، ونَحرُ الهَديِ، والحَلقُ أوِ التَّقصيرُ، والطَّوافُ بالبَيتِ، وقيلَ: للاحتِرازِ مِنَ الحَجِّ الأصغَرِ، وهو العُمرةُ. ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَهم: أتَدرونَ أيُّ شَهرٍ شَهرُكُم هذا؟ أي: هَل تَعلَمونَ اسمَ هذا الشَّهرِ الذي نَحنُ فيه؟ فقال الصَّحابةُ: ذو الحِجَّةِ، أي: هو شَهرُ ذي الحِجَّةِ آخِرُ شُهورِ العامِ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صَدَقتُم، أي: أصَبتُم فهو أيضًا شَهرُ اللَّهِ الأصَمُّ. وسُمِّيَ أصَمَّ؛ لأنَّه كان لا يُسمَعُ فيه صَوتُ السِّلاحِ لكَونِه شَهرًا حَرامًا، ووُصِف بالأصَمِّ مَجازًا. والمُرادُ به الإنسانُ الذي يَدخُلُ فيه، فكَأنَّ الإنسانَ في هذا الشَّهرِ أصَمُّ عن سَماعِ صَوتِ السِّلاحِ، ويُقالُ مِثلُ ذلك في باقي الأشهُرِ الحُرُمِ. ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَهم: أتدرونَ أيُّ بَلَدٍ بَلَدُكُم هذا؟ أي: هَل تَعلَمونَ اسمَ هذا البَلَدِ الذي أنتُم فيه؟ فقال الصَّحابةُ: المَشعَرُ الحَرامُ. وهو مُزدَلِفةُ، وهو جُزءٌ مِن مَكَّةَ، وإنَّما قالوا ذلك باعتِبارِ المَكانِ الذي كانوا فيه؛ لأنَّه مِن حَرَمِ مَكَّةَ، والمَعنى: أنَّهم في البَلَدِ الحَرامِ، كما جاءَ ذلك في الرِّواياتِ الأُخرى، فقال لَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صَدَقتُم، أي: أصَبتُم؛ فهو المَشعَرُ الحَرامُ. ثُمَّ بَعدَ أن قَرَّرَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَظَمةِ هذه الأشياءِ الثَّلاثةِ: يَومُ النَّحرِ، وذو الحِجَّةِ الشَّهرُ الحَرامُ، والبَلَدُ الحَرامُ، أخبَرَهم بأنَّ هناكَ ما هو أعظَمُ حُرمةً مِنها، فقال: فإنَّ دِماءَكُم -أي: سَفكَ دِمائِكُم- وأموالَكُم، أي: أخْذَها والاعتِداءَ عليها: عليكُم حَرامٌ، أي: هيَ مُحَرَّمةٌ بَينَكُم مُتَأكِّدةُ التَّحريمِ شَديدَتُه؛ فلا يَجوزُ لأحَدٍ الاعتِداءُ على الآخَرِ في نَفسِه ومالِه، كحُرمةِ يَومِكُم هذا، أي: يَومِ النَّحرِ، في شَهرِكُم هذا، أي: شَهرِ ذي الحِجَّةِ، في بَلَدِكُم هذا، أي: مَكَّةَ. أو قال: كحُرمةِ يَومِكُم هذا، وشَهرِكُم هذا، وبَلَدِكُم هذا. وهو شَكٌّ مِنَ الرَّاوي، والمَعنى واحِدٌ. ثُمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألَا، أي: انتَبِهوا واستَمِعوا، وإنِّي فَرَطُكُم على الحَوضِ أنظُرُكُم، أي: سابِقُكُم ومُتَقدِّمٌ على حَوضي يَومَ القيامةِ أنتَظِرُكُم هناكَ. والفارِطُ هو الذي يَتَقدَّمُ الوارِدَ ليُصلِحَ لَهمُ الحياضَ والدِّلاءَ ونَحوَها مِن أُمورِ الاستِقاءِ، فمَعنى فَرَطُكُم على الحَوضِ: سابِقُكُم إليه كالمُهَيِّئِ له. وإنِّي مُكاثِرٌ بكُم، أي: أُفاخِرُ بكَثرَتِكُمُ الأُمَمَ، أي: السَّابقةَ يَومَ القيامةِ، فلا تُسَوِّدوا وَجهي، أي: فلا تُؤَثِّروا في وَجهي السَّوادَ، بكَثرةِ الذُّنوبِ والمَعاصي، فلا تَصلُحوا لأن يُفتَخَرَ بمِثلِكُم. ألَا وقد رَأيتُموني وسَمِعتُم مِنِّي، أي: أنَّكُم أدرَكتُم نُبُوَّتي وحَياتي بَينَكُم فرَأيتُموني وسَمِعتُم مِنِّي ما أُرسِلتُ به إليكُم. وستُسألونَ عنِّي، أي: يَسألُكُمُ اللهُ عنِّي يَومَ القيامةِ: هَل بَلَّغتُكُم أم لا؟ فمَن كَذَب عليَّ فليَتَبَوَّأْ، أي: فليَتَّخِذْ مَقعَدَه مِنَ النَّارِ، أي: مَكانَه مِنَ النَّارِ. ألَا وإنِّي مُستَنقِذٌ، الاستِنقاذُ هو التَّمييزُ والتَّخليصُ عَمَّا وقَعَ فيه، أي: مُستَخلِصٌ رِجالًا أو إناثًا، أي: أنِّي طالبُ نَجاةِ أُناسٍ بشَفاعَتي لتَخليصِهم مِنَ الشَّرِّ بشُربِهم مِن حَوضي، ومُستَنقَذٌ مِنِّي آخَرونَ، أي: مَدفوعٌ عنِّي عِندَ الحَوضِ أقوامٌ تَطرُدُهمُ المَلائِكةُ عنِ الشُّربِ مِنَ الحَوضِ، ويُباعَدونَ مِنِّي ويُحكَمُ بهم إلى النَّارِ. فأقولُ: يا رَبِّ، أصحابي! أي: هؤلاء أصحابي، فلماذا يُؤخَذُ بهم إلى النَّارِ؟! فيُقالُ لي: إنَّك لا تَدري ما أحدَثوا بَعدَك، أي: إنَّك يا مُحَمَّدُ لا تَدري ما فعَلَ هؤلاء القَومُ بَعدَ مَوتِك؛ فقد أحدَثوا في الدِّينِ وغَيَّروا وحَرَّفوا وبَدَّلوا. وقدِ اختُلِف في المَقصودِ بهؤلاء؛ فقيلَ: همُ المُنافِقونَ والمُرتَدُّونَ، وقيلَ: أصحابُ المَعاصي والكَبائِرِ الذينَ ماتوا على التَّوحيدِ، وأصحابُ البدَعِ الذينَ لَم يَخرُجوا ببدعَتِهم عنِ الإسلامِ.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ الخُطبةِ فوقَ الدَّوابِّ.
وفيه مَشروعيَّةُ خُطبةِ الإمامِ النَّاسَ في أيَّامِ الحَجِّ.
وفيه تَعظيمُ حُرمةِ دَمِ المُسلمِ ومالِه.
وفيه مَشروعيَّةُ ضَربِ المَثَلِ وإلحاقِ النَّظيرِ بالنَّظيرِ؛ ليَكونَ أوضَحَ للسَّامِعِ.
وفيه إثباتُ حَوضِ نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ القيامةِ.
وفيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سابِقٌ لَنا على الحَوضِ.
وفيه فضلُ هذه الأُمَّةِ.
وفيه الوعيدُ الشَّديدُ لمَن كَذَبَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه خُطورةُ الإحداثِ في الدِّينِ .
تم نسخ الصورة