- لمَّا كانَ يومُ فتحِ مَكَّةَ، أمَّنَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ النَّاسَ، إلَّا أربعَةَ نفَرٍ وامرأتينِ، وقالَ : اقتُلوهم وإن وجَدتُموهم متَعلِّقينَ بأَستارِ الكَعبةِ: عِكْرمةُ ابنُ أبي جَهْلٍ، وعبدُ اللَّهِ بنُ خطلٍ، ومقيسُ بنُ صبابةَ وعبدُ اللَّهِ بنُ سعدِ ابنِ أبي السَّرحِ، فقال: أما كانَ فيكُم رجلٌ رشيدٌ يقومُ إلى هذا حيثُ رآني كفَفتُ يدي عن بيعتِهِ فيقتله؟ فقالوا: وما يُدرينا يا رسولَ اللَّهِ ما في نَفسِكَ، هلَّا أَوْمَأْتَ إلينا بعينِكَ؟ قال: إنَّهُ لا ينبَغي لنبيٍّ أن يَكونَ لَهُ خائنةُ أعيُنٍ.
الراوي :
سعد بن أبي وقاص
| المحدث :
الألباني
| المصدر :
صحيح النسائي
| الصفحة أو الرقم :
4078
| خلاصة حكم المحدث :
صحيح
لقد أعَزَّ اللهُ عزَّ وجلَّ نبيَّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وعاد إلى مكَّةَ مُنتصِرًا فاتحًا لها بعد أن أخرَجوه منها، وقد ضرَب رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أروَعَ الأمثالِ في هذا الفَتْحِ العَظيمِ، ويَكفي فيه تواضُعُه ومُسامحَتُه لأهلِ مكَّةَ الَّذين كانوا مِن أشدِّ النَّاسِ عَداوةً له.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ رَضِي اللهُ عَنه: "لَمَّا كان فَتْحُ مكَّةَ"، أي لَمَّا جاء فتْحُ مَكَّةَ، وكان في سَنةِ ثمانٍ للهجرةِ، أعَدَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عَشَرةَ آلافِ مُقاتِلٍ، وفُتِحَتْ بفضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ دونَ قتالٍ، "أمَّن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم النَّاسَ"، أي: أعطاهم الأمانَ مِن القَتلِ، وقد جاء في الرِّواياتِ أنَّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال لهم: "مَن ألْقَى السِّلاحَ فهو آمِنٌ، ومَن دخَل دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ، ومَن دَخَل المسجدَ فهو آمِنٌ، ومَن أغلَق عليه بيتَه فهو آمِنٌ"، قال سَعدٌ رَضِي اللهُ عَنه: "إلَّا أربعةَ نفَرٍ"، أي: استثنَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن هذا الأمانِ أربعةَ رجالٍ، "وامرأتَيْنِ"، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم فيهم لأصحابِه: "اقتُلوهم"، أي: هؤلاءِ السِّتَّةَ، "وإنْ وجَدْتُموهم مُتعلِّقينَ بأستارِ الكعبةِ"، أي: مُستعيذِينَ بها مِن القَتْلِ، وهذا بيانٌ وتَوكيدٌ أنَّ هؤلاءِ ليس لهم أمانٌ على أيِّ حالةٍ كانوا فيها، وهؤلاءِ هم: "عِكرمةُ بنُ أبي جَهلٍ"، وكان مِن أشَدِّ النَّاسِ عَداوةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم كأبيه، "وعبدُ اللهِ بنُ خَطَلٍ"، وكان قد علِمَ بخروجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يومَ الفَتْحِ، فخرَج إليهم بسَلاحِه وفرَسِه، "ومَقِيسُ بنُ صُبَابَةَ"، كان له أخٌ أسلَمَ وقد قتَلَه رجُلٌ مِن الأنصارِ خطأً، فقدِمَ مِن مكَّةَ مُظهِرًا الإسلامَ، فأمَر له النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بالدِّيَةِ، فقبَضَها، ثمَّ ترقَّبَ قاتِلَ أخيه حتَّى ظفِرَ به وقتَله، وارتَدَّ ولحِقَ بقُرَيْشٍ، "وعبدُ اللهِ بنُ سَعدِ بنِ أبي السَّرحِ"، وكان يكتُبُ الوحيَ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، ثمَّ ارتَدَّ، ولحِقَ بمكَّةَ، ثمَّ بيَّنَ سعدٌ رَضِي اللهُ عَنه ما حدَث مع هؤلاءِ الأربعةِ، فقال: "فأمَّا عبدُ اللهِ بنُ خَطَلٍ فأُدرِكَ"، أي: لحِقَه أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "وهو متعلِّقٌ بأستارِ الكعبةِ"، أي: مُستجِيرًا بها، "فاستبَقَ إليه سعيدُ بنُ حُرَيْثٍ وعمَّارُ بنُ ياسرٍ"، أي: أسرَعَا في قَتْلِه، "فسبَق سعيدٌ عمَّارًا، وكان أشَبَّ الرَّجُلينِ"، أي: أقواهما؛ نَظَرًا لحداثةِ سِنِّه وشَبابِه، "فقتَلَه"، أي: قتَلَ سَعيدٌ عبدَ اللهِ بنَ خَطَلٍ، "وأمَّا مَقِيسُ بنُ صُبَابَةَ فأدرَكَه النَّاسُ"، أي: لحِقَه المُسلِمونَ، "في السُّوقِ"، أي: في سُوقِ مكَّةَ، "فقتَلوه، وأمَّا عِكرمةُ فركِبَ البحرَ، أي: هرَب إلى البحرِ راكبًا سفينةً، "فأصابَتْهم عاصفٌ"، أي: رِياحٌ شديدةٌ وأمواجٌ تَكادُ تُغرِقُ السَّفينةَ، "فقال أصحابُ السَّفينةِ"، أي: تَناصَحَ ركَّابُها قائِلين: "أخلِصوا"، أي: إلى ربِّكم بتوحيدِكم إيَّاه؛ "فإنَّ آلهتَكم لا تُغْني عنكم شيئًا هاهنا"، أي: إنَّ الَّذي يَقدِرُ على إنقاذِكم هو اللهُ تعالى وَحْدَه، "فقال عِكرمةُ: واللهِ لئِنْ لم يُنجِني مِن البحرِ إلَّا الإخلاصُ"، أي: بتوحيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فكذلكَ "لا يُنجِيني في البَرِّ غيرُه"، ثمَّ دعا عِكرمةُ وقال: "اللَّهمَّ إنَّ لكَ علَيَّ عهدًا"، أي: ميثاقًا، "إن أنتَ عافَيْتَني ممَّا أنا فيه"، أي: أنقَذْتَني مِن الغرَقِ، "أنْ آتِيَ محمَّدًا صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم حتَّى أضَعَ يَدي في يدِه"، وهذا كِنايةٌ عن مُبايَعتِه على الإسلامِ، "فلَأجِدَنَّه عفُوًّا كريمًا"، أي: بما عرَف عنه مِن العَفْوِ والصَّفْحِ في خُلُقِه لِمَن جاءَه تائبًا، قال سعدٌ رَضِي اللهُ عَنه: فجاء عِكرمةُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فأسلَمَ.
وأمَّا عبدُ اللهِ بنُ سعدِ بنِ أبي السَّرحِ، فإنَّه اختَبَأ عندَ عُثمانَ بنِ عفَّانَ"، أي: حتَّى لا يَجِدَه الجُندُ المُسلِمونَ فيقتُلوه، "فلمَّا دعا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم النَّاسَ إلى البَيعةِ، جاء به"، أي: جاء عُثمانُ بعبدِ اللهِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "حتَّى أوقَفه على النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم"، فقال عُثمانُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "يا رسولَ اللهِ، بايِعْ عبدَ اللهِ"، أي: اقبَلْ منه بَيعتَه وإسلامَه، قال سعدٌ: "فرفَع"، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "رأسَه، فنظَرَ إليه -ثلاثًا-"، أي: ثَلاثَ مرَّاتٍ، "كلَّ ذلك يأبَى"، أي: يَمتنِعُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في تلكَ المرَّاتِ الثَّلاثِ عنِ المُوافَقةِ على بَيعتِه، "فبايَعه"، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "بعد ثَلاثٍ، ثمَّ أقبَل على أصحابِه"، أي: التفَتَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لأصحابِه رَضِي اللهُ عَنهم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لهم: "أمَا كان فيكم رجُلٌ رَشيدٌ"، أي: عاقلٌ فطِنٌ، "يقومُ إلى هذا"، أي: إلى عبدِ اللهِ بنِ أبي السَّرحِ، "حيثُ رآني كفَفْتُ يدي"، أي: امتنَعْتُ، "عن بَيعتِه"، أي: بيعةِ عبدِ اللهِ بنِ أبي السَّرحِ، "فيقتُلَه؟!"؛ لأنَّه كانَ مُهدَرَ الدَّمِ، فقال الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنهم للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "وما يُدْرينا يا رسولَ اللهِ ما في نَفْسِكَ؟"، أي: كيف لنا أن نَعرِفَ مَقصدَكَ ومُرادَكَ؟ "هلَّا أومَأْتَ إلينا بعينِكَ؟"، أي: أشَرْتَ وألمَحْتَ بطَرْفِ عينِكَ لقَتْلِه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عندَ ذلكَ: "إنَّه لا يَنبغي"، أي: لا يجوزُ، "لنبيٍّ" مِن الأنبياءِ، "أنْ يكونَ له خائنةُ أعيُنٍ"، أي: يُضمِرَ بقَلْبِه ما لا يُظهِرُه للنَّاسِ، فإذا كفَّ لسانَه وأومَأ بعينِه إلى خلافِه، فقد خانَ، وكان ظُهورُ تِلكَ الخيانةِ مِن قِبَلِ عَينِه؛ فسُمِّيَتْ خائنةَ الأعيُنِ.
ولم يُسَمَّ في هذه الرِّوايةِ المرأتانِ اللَّتانِ أمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بقَتْلِهما، ولم يُخبِرْ بهما أحَدٌ على وجهِ التَّحديدِ، وقد قيل فيهما: إنَّهما كانَتْا قَيْنتَيْنِ تُؤذيانِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بغِنائِهما، وقيل في إحداهنَّ: سارةُ، أو أمُّ سارةَ، مولاةٌ لبعضِ بني عبدِ المُطَّلبِ، وكانَتْ ممَّن تُؤذيه بمكَّةَ.
وفي الحديثِ: أنَّ سابَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُقتَلُ.
وفيه: أنَّ الكعبةَ لا تُعِيذُ أحدًا عليه حَدٌّ.
وفيه: فَضلُ الإخلاصِ للهِ تعالَى، وأنَّه سببٌ للنَّجاةِ مِن المهالِكِ.
وفيه: بيانُ مَكارمِ الأخلاقِ للأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ.