- خَطَبَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عبدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ عن غيرِ إمْرَةٍ فَفُتِحَ له، وقالَ: ما يَسُرُّنَا أنَّهُمْ عِنْدَنَا قالَ أَيُّوبُ أَوْ قالَ: ما يَسُرُّهُمْ أنَّهُمْ عِنْدَنَا وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
الراوي :
أنس بن مالك
| المحدث :
البخاري
| المصدر :
صحيح البخاري
| الصفحة أو الرقم :
2798
| خلاصة حكم المحدث :
[صحيح]
أعْطى اللهُ للشُّهداءِ فَضلًا ومَنزِلًا عَظيمًا في الآخرةِ؛ ولِذا حَرَص الصَّحابةُ الكرامُ على نَيلِ الشَّهادةِ في سَبيلِ اللهِ، فنالَها كَثيرٌ مِنهم في ساحاتِ القتالِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه بيْنَما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخطُبُ النَّاسَ في مَسجدِه بالمدينةِ، أطلَعَه اللهُ تعالَى على استشهادِ القادة الثَّلاثةِ في غَزوةِ مُؤتةَ، وكانت بالبَلْقَاءِ على أطْرافِ الشَّامِ، وكانت في السَّنةِ الثَّامنةِ مِن الهِجرةِ، وكانت بيْن المسلمينَ والرُّومِ، فنَعَاهُم إلى أصحابِه الذين معه في المدينةِ، وأخبَرَهم عن استشهادِهم جَميعًا مِن فَوقِ مِنْبرِه الشَّريفِ، حيث أخَذَ الرَّايةَ زَيدُ بنُ حارثةَ رَضيَ اللهُ عنه فأُصيبَ وقُتِلَ، والرَّايةُ العَلَمُ الَّذي يَتَّخِذُه الجيشُ شِعارًا له، ولا يَمسِكُها إلَّا قائدُ الجيشِ، ثمَّ أخَذَها بعْدَه جَعفَرُ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وهو ابنُ عمِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأُصيبَ وقُتِلَ، ثمَّ أخَذَها عبدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ رَضيَ اللهُ عنه، فأُصيبَ وقُتِلَ، وكانت عَيْناهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَذْرِفان، أي: تَفِيضَانِ بالدُّموعِ حُزنًا عليهم، وبعْدَ فَراغِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن نَعيِهم، قال: وما يَسُرُّنا أنَّهم -أي: هؤلاء الشُّهداءُ- عِندَنا، باقونَ معنا أحياءٌ؛ لعِلمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما صاروا إليه مِن الكَرامةِ والدَّرجةِ العُلْيا، وفي رِوايةٍ: «ما يَسُرُّهم أنَّهم عِندَنا»، أي: إنَّهم لَمَّا رَأَوا مِن الكرامةِ بالشَّهادةِ، فَلا يُعجِبُهم أنْ يَعودوا إلى الدُّنيا كما كانوا مِن غيرِ أنْ يُستشهَدوا مرَّةً أُخرى.
وهؤلاء الثَّلاثةُ كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ عَهِدَ إليهم بقِيادةِ وإمارةِ الجيشِ، فلمَّا ماتوا جَميعًا تَولَّى بعْدَهم القيادةَ على الجيشِ خالدُ بنُ الوليدِ رَضيَ اللهُ عنه دونَ أنْ يَعهَدَ إليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالإمارةِ بها حينَ رَأى المصلحةَ في ذلك، ففُتِحَ له، والمرادُ بالفتْحِ المذكورِ في الحديثِ: أنَّ خالدًا رَضيَ اللهُ عنه انْحازَ بجَيشِ المسلمينَ، بمعْنى تَرَكوا مَراكِزَهم يَتجهَّزُ بهم للانسحابِ حِفاظًا على قُوَّةِ وعَتادِ المسلمينَ؛ وذلك أنَّ جَيشَ الرُّومِ كان مِئةَ ألْفٍ مِنَ الرُّومِ، ومئةَ ألْفٍ أُخرى مِن نَصارى أهلِ الشَّامِ، وكان جَيشُ المسلمينَ حينئذٍ ثَلاثةَ آلافٍ، وقابَلَ جَيشُ الرُّومِ انسحابَ المسلمينَ بانسحابٍ منهم أيضًا على كَثرةِ عَدَدِهم وعُدَّتِهم؛ وذلك أنَّ جَيشَ المسلمينَ قدْ أثْخَنَ فيهم القتْلَ والجِراحَ، فقدْ وَرَدَ في البُخاريِّ: أنَّ خالدًا رَضيَ اللهُ عنه قال: «لقدِ انقَطَعَت في يَدِي يَومَ مُؤتَةَ تِسعةُ أسيافٍ، فما بَقيَ في يَدِي إلَّا صَفيحةٌ يَمانيَةٌ»، فانْصرَف خالدٌ رَضيَ اللهُ عنه بالنَّاسِ، فتَمَكَّنَ مِنَ الانْسِحابِ بمَن معه مِنَ المسلمين، فعَدَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك فَتْحًا وانتصارًا.
وفي الحديثِ: أنَّ الرَّحمةَ التي تكونُ في القلبِ مَحمودةٌ.
وفيه: أنَّ للمُسلِمِ سَدَّ خَلَلِ ما يَراه مِن عَوراتِ المسلمينَ إذا رَأى مَصلحةً راجِحةً، وكان مُستطيعًا لذلك.
وفيه: مَنقَبةٌ لخالدِ بنِ الوليدِ رَضيَ اللهُ عنه وبَيانٌ لِفضْلِه.
وفيه: مَشروعيَّةُ البُكاءِ على الميِّتِ.
وفيه: مُعجِزةٌ مِن مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.