اشتَدَّت الوحشةُ بين مُؤنِسٍ الخادمِ والمُقتَدِر بالله، وتفاقَمَ الحالُ وآل إلى أن اجتَمَعوا على خَلعِ المُقتَدِر وتولية القاهِرِ محمَّد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافةِ وسَلَّموا عليه بها، ولقَّبوه القاهر بالله، وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقَلَّدَ عليَّ بنَ مقلة وزارته، وولى نازوك الحُجُوبة مضافًا إلى ما بيده من الشُّرطة، وألزم المقتَدِر بأن كتب على نفسِه كتابًا بالخَلعِ مِن الخلافة، وأشهد على نفسِه بذلك جماعةً من الأمراء والأعيان، وسلَّم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسُف، فقال لولده الحُسَين احتفظ بهذا الكتابِ، فلا يريَنَّه أحَدٌ مِن خَلقِ الله، ولَمَّا أعيدَ المقتَدِرُ إلى الخلافة بعد يومينِ رَدَّه إليه، فشَكَره على ذلك جدًّا وولَّاه قضاءَ القُضاةِ، فلمَّا كان يوم الأحد السادس عشر من المحرم جلس القاهِرُ بالله في منصب الخلافة، وجلس بين يديه الوزيرُ أبو علي بن مقلة، وكتب إلى العُمَّال بالآفاق يُخبِرُهم بولاية القاهِرِ بالخلافة عِوضًا عن المقتدر، فلما كان يوم الاثنين جاء الجندُ وطلبوا أرزاقَهم وشَغَّبوا، وبادروا إلى نازوك فقَتَلوه، وكان مخمورًا، ثمَّ صلبوه، وهرب الوزيرُ ابنُ مقلة، وهرب الحُجَّاب ونادوا يا مُقتَدِرْ يا منصور، ولم يكن مؤنسٌ يومئذٍ حاضِرًا، وجاء الجندُ إلى باب مؤنسٍ يُطالِبونَه بالمُقتَدِر، فأغلق بابَه دونهم، فلما رأى مؤنِسٌ أنَّه لا بُدَّ مِن تسليم المقتَدِر إليهم أمَرَه بالخروج، فخاف المقتَدِرُ أن يكون حيلةً عليه، ثم تجاسَرَ فخرج فحَمَلَه الرجالُ على أعناقهم حتى أدخلوه دارَ الخلافة، فسأل عن أخيه القاهرِ وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتُبَ لهما أمانًا، فما كان عن قريبٍ حتى جاءه خادِمٌ ومعه رأسُ أبي الهيجاء قد احتَزَّ رأسَه وأخرجه من بين كتفيه، ثم استدعى بأخيه القاهر فأجلَسَه بين يديه واستدعاه إليه، وقبَّلَ بين عينيه، وقال: يا أخي أنت لا ذنبَ لك، وقد علمتُ أنَّك مُكرَهٌ مقهورٌ، والقاهرُ يقول: اللهَ اللهَ، نفسي يا أمير المؤمنين، فقال: لا جرى عليك مني سوءٌ أبدًا، وعاد ابنُ مقلة فكتب إلى الآفاقِ يُعلِمُهم بعَودِ المقتدر إلى الخلافة، ورجَعَت الأمورُ إلى حالها الأوَّل، وكان ابنُ نفيس من أشَدِّ الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافةِ خرج من بغداد متنكِّرًا فدخل الموصل، ثم صار إلى إرمينية، ثم لحِقَ بالقسطنطينيَّة، فتنصر بها مع أهلِها، وقرَّرَ أبا علي بن مقلة على الوزارةِ، وولَّى محمد بن يوسف قضاءَ القضاة، وجعل محمَّدًا أخاه - وهو القاهِرُ - عند والدته بصفةِ محبوسٍ عندها، فكانت تحسِنُ إليه غايةَ الإحسان، وتشتري له السراريَّ وتُكرِمُه غايةَ الإكرامِ.