غزا الناصِرُ مدينة طُلَيطلة غَزاتَه الثانيةَ التي فُتِحَ فيها عليه، وكان أهل طليطلة لَمَّا أخذهم الحصار، واشتَدَّ عليهم التَّضييق، ولازمهم القُوَّادُ، استنجدوا بالمشركين، ورَجَوا نصرهم لهم، فلم يغنوا عنهم فتيلًا، ولا كشَفوا عنهم عذابًا، ولا جَلَبوا إليهم إلَّا خِزيًا وهوانا. وخرج القُوَّادُ المُحاصِرون لهم إلى الكَفَرة، فهزموهم وفَرَّقوا جموعهم، وانصرفوا مُوَلِّينَ على أعقابهم، خاذلينَ لِمن انتصر بهم، ورجا الغِياثَ مِن قِبَلِهم، فلما يئس أهلُ طُلَيطِلة أن ينصُرَهم أحدٌ مِن بأس الله الذي عاجَلَهم، وانتقامِه الذي طاوَلَهم، عاذوا بصَفحِ أمير المؤمنين، وسألوه تأمينَهم، وضَرَعوا إليه في اغتفارِ ذنوبهم، فخرج لاستنزالِ أهل طليطلة، وتوطيدِ طاعتِه فيها، وإحكامِ نَظَرِه بها، ثم أمَّنَ أهلَ طُلَيطِلة، وخرجوا إلى العسكَرِ، ونالوا المرافِقَ فيه، وابتاعوا المعايشَ التي طال ما أجهَدَهم عدَمُها، ومنَعَهم الحصارُ منها؛ فعَرَفوا غِبطةَ ما صاروا إليه من الأمنِ بعد الخوفِ، والسَّعةِ إثرَ الضِّيقِ، والانبساطِ بعد طول الانقباضِ، ثم ركب الناصرُ إلى طليطلة في اليومِ الثاني مِن نُزولِه بمَحَلَّتِه عليها، ودخَلها وجال في أقطارها, فرأى مِن حصانتِها، وشَرَفِ قاعدتِها، وانتظامِ الجبال داخِلَ مدينتها، وامتناعِها من كل الجهاتِ بواديها ووَعْرِها، وطِيبِ هوائها وجَوهرِها، وكثرة البشَرِ بها، ما أكثَرَ له من شكْرِ الله عزَّ وجَلَّ على ما منَحَه فيها، وسهَّلَ له منها، وعلم أنَّه لولا ما أخذ به مِن الجِدِّ والعزمِ في أمرها، لَمَا مُلِكَت مع حصانتِها ومَنعتِها, ولِما اعتاده أهلُها من مداخلة المشركينَ ومُوالاتهم، والاستمداد على الخُلَفاء بهم، فكم أعيَتْ طُلَيطِلة الملوكَ، وامتنعت من العساكِرِ، ثم بنى فيها بناءً مُحكَمًا مُتقَنًا؛ ليكونَ مُستقَرًّا للقُوَّادِ الملازمينَ فيها، وملأها رجالًا وعُدَّةً وسِلاحًا. وركب إليها النَّاصِرُ، وأمر بهَدمِ ما وجب هدمُه في المدينة، وترَدَّد عليها ثمانيةَ أيَّامٍ حتى أكمَلَ فيها ما دَبَّرَه، واطمأنت بأهلِ المدينة الدار، ثم قفل الناصِرُ من طليطلة إلى قرطبة، ودخلها لعشرٍ بقين من شعبان، وقد استتَمَّ في غزاته ستة وثلاثين يومًا.