لَمَّا تزايَدَت الوحشةُ بين مؤنسٍ صاحِبِ الجيشِ، والخليفةِ المُقتَدر وزاد ذلك انفرادُ الوزيرِ الحسين بن القاسم بأشياءَ أغاظت مؤنِسًا، الذي عزم على المسيرِ إلى الموصِلِ، فسار إليها وحارب فيها بني حمدانَ وهزمهم، فاستمال نحوه كثيرًا مِن الجند والأعراب وغيرهم، وجمع العساكِرَ وسار إلى المُقتَدِر على أن يُجرِيَ عليهم الأرزاقَ وإلَّا قاتلوه، وقد بعث بين يديه الطلائِعَ، حتى جاء فنزل بباب الشماسية ببغداد، وأشيرَ على الخليفة أن يستدينَ مِن والدتِه مالًا ينفِقُه في الأجناد، فقال: لم يبقَ عندها شيءٌ، وعزم الخليفةُ على الهربِ إلى واسط، وأن يترُكَ بغداد لمؤنسٍ حتى يتراجَعَ أمرُ النَّاسِ، ثم يعود إليها، فردَّه عن ذلك ابنُ ياقوت وأشار بمواجهتِه لمُؤنِس وأصحابه، فإنَّهم متى رأَوا الخليفةَ هربوا كلُّهم إليه وتركوا مؤنِسًا، فركب المقتَدِر وهو كارهٌ، وبين يديه الفُقَهاءُ ومعهم المصاحفُ المنشورة، وعليه البُردة والنَّاسُ حوله، ثم بعث إليه أمراؤُه يَعزِمون عليه أن يتقَدَّمَ، فامتنع من التقدُّمِ إلى محَلِّ المعركة، ثم ألحُّوا عليه فجاء بعد تمنُّعٍ شديدٍ، فما وصل إليهم حتى انهَزَموا وفَرُّوا راجعين، ولم يلتَفِتوا إليه ولا عطَفوا عليه، فكان أوَّلَ مَن لقيه من أمراء مؤنسٍ عليُّ بن بليق، فلما رآه ترجَّلَ وقبَّلَ الأرضَ بين يديه، وقال: لعن اللهُ من أشار عليك بالخروجِ في هذا اليوم. ثم وكَّلَ به قومًا من المغاربة البربر، فلما ترَكَهم وإياه شَهَروا عليه السَّلاحَ، فقال لهم: ويلَكم أنا الخليفةُ, فضربه أحدُهم بسَيفِه على عاتقِه فسقط إلى الأرضِ، وذبَحَه آخَرُ وتركوا جُثَّتَه، وأخذت المغاربةُ رأس المقتَدِر على خشبةٍ قد رفعوها وهم يلعَنونه، فلما انتهوا به إلى مؤنسٍ- ولم يكن حاضرًا الوقعة- فحين نظر إليه لطم رأسَ نَفسِه ووجهَه وقال: ويلَكُم، واللهِ لم آمُرْكم بهذا، لعَنَكم الله، والله لنُقتَلَنَّ كُلُّنا، ثم ركب ووقف عند دارِ الخلافة حتى لا تُنهَب، وهرب عبدُ الواحد بن المقتدر وهارون بن غريب، وأبناء رايق، إلى المدائن، وكان فِعْلُ مؤنسٍ هذا سببًا لطَمَعِ مُلوكِ الأطراف في الخُلَفاء، وضَعْفِ أمرِ الخلافةِ جِدًّا، مع ما كان المقتَدِر يعتمِدُه في التبذير والتَّفريط في الأموال، وطاعةِ النِّساءِ، وعزل الوُزراء، فلمَّا قُتِلَ المقتدر بالله عزَمَ مؤنِسٌ على تولية أبي العبَّاسِ بنِ المقتدر بعد أبيه ليُطَيِّبَ قلبَ أم المقتدر، فعدل عن ذلك جمهورُ من حضر من الأمراءِ، فقال أبو يعقوب إسحاقُ بنُ إسماعيل النوبختي بعد التَّعَبِ والنكد نبايعُ لخليفةٍ صبيٍّ له أمٌّ وخالاتٌ يُطيعُهن ويشاوِرُهنَّ؟ ثم أحضروا محمَّدَ بنَ المعتضد- وهو أخو المقتدر- فبايعه القُضاةُ والأُمراء والوُزراء، ولقبوه بالقاهر بالله، وذلك في سحَرِ يوم الخميس لليلتينِ بقيتا من شوال منها.